لم يكن التصوف الإسلامي في أي مرحلة من تاريخه ظاهرة روحية خالصة أو تجربة باطنية منعزلة عن محيطها الاجتماعي والسياسي؛ فمنذ لحظة تبلوره المبكرة في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، ارتبط التصوف بموقف ما من السلطة، موقف يعبّر عن رؤيته للعالم، ولموقع الإنسان في منظومة الحكم والدين. لهذا يمكن القول إن العلاقة بين التصوف والسلطة لم تكن علاقة جامدة، بل مرت بتحولات كبرى يمكن أن نلخصها في مرحلتين رئيستين: المرحلة الأولى، حيث وقف التصوف على يسار السلطة، متصادماً أو متباعداً عنها، ممثلاً صوت الوعي الأخلاقي والاحتجاج الرافض للنزعة المادية والتسلط. والمرحلة الثانية، التي شهدت تحوّل التصوف إلى شريك رئيس في السلطة، وإلى ركن من أركان الشرعية السياسية في العالم الإسلامي الوسيط.
التصوف على يسار السلطة
في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، حين بدأ الوعي الإسلامي يتشكل على وقع اتساع الدولة الإسلامية وتحول الخلافة من مجتمع المؤمنين البسيط إلى إمبراطورية مترفة، نشأ الزّهاد الأوائل كردّ فعل أخلاقي وروحي لحالة الترف المتنامي في بلاطات الحكام وأروقة الطبقات الأرستقراطية الحاكمة.
منذ نشأته الأولى، حمل التصوف في طياته احتجاجاً أخلاقياً على الترف والجبروت، قبل أن يتحول في العصور اللاحقة إلى رافد من روافد الشرعية السياسية
كان الحسن البصري (ت سنة 110هـ.) نموذجاً صارخاً لهذا الاتجاه. واجه الحسن السلطة الأموية بلسان واعظ لا يخشى لومة لائم. يروى عنه أنه قال: "بلغنا أن رجلاً من الملوك قال: لأجعلن الحسن في يديّ. فقيل له: اتقِ الله، فإن للّه أولياء لا يصل إليهم أحد بسوء إلا انتقم الله منه". وذلك بحسب ما يذكر أبو بكر البيهقي في كتابه "شعب الإيمان". يمكن القول إن هذا الخطاب الوعظي، وإن لم يكن ثورياً بمعنى مباشر، فقد كان في حقيقته تعبيراً صادقاً عن موقف ديني روحي رافض لفساد السلطة واستبدادها.
مع حلول القرن الثالث الهجري، ومع نشوء الحركة الصوفية كظاهرة فكرية متكاملة، صار هذا الرفض أكثر عمقاً وتنظيراً. فالتصوف لم يعد مجرد زهد، بل أصبح فلسفة للحياة، ترى أن السلطة –أي سلطة– من الممكن أن تعيق السالك عن الوصول إلى الحق. في هذا السياق، قال أبو بكر الشبلي (ت سنة 334هـ.): "الصوفي منقطع عن الخلق، متصل بالحق، لا سلطان له إلا الله". وفقاً لهذا التصور يصبح التجرد من المناصب والمكاسب فعلاً روحياً وسياسياً في آنٍ واحد.
من اللافت للنظر أن عدداً من المتصوفة دفعوا حياتهم ثمناً للتطبيق العملي لهذا الموقف. كان الحسين بن منصور الحلاج (ت سنة 309هـ.) مثالاً مأساوياً للتصوف الذي يصطدم بالسلطة الدينية والسياسية معاً. وذلك حين قال عبارته الشهيرة "أنا الحق". في الواقع، لم تكن العبارة مجرد صرخة ميتافيزيقية، بل كانت تحدياً ضمنياً للسلطة التي احتكرت تعريف "الحق" والحديث باسمه. ولذلك لم يكن من الغريب أن تصدر أوامر الخليفة العباسي المقتدر بالله بإعدام الحلاج في مشهد دامٍ جمع بين العقوبة السياسية والرمزية الدينية. الأمر الذي وصفه المفكر المصري عبد الرحمن بدوي في كتابه "شهيد التصوف" عندما قال إن مأساة الحلاج لم تكن فقط في "التصادم بين الوعي الفردي المتأله والسلطة المؤسسة"، بل في كونها "أول إعلان عن حرية الروح في وجه الدولة الدينية".
مع حلول القرن الخامس الهجري، كان المشهد الصوفي قد اتسع ليشمل تيارات مختلفة من الزهد الاجتماعي إلى الفلسفة العرفانية، ومع ذلك ظل الخط الأساسي في العلاقة مع السلطة هو التباعد والتحفظ. أبو حامد الغزالي (ت سنة 505هـ.)، على سبيل المثال، ورغم مكانته العلمية الكبرى، انسحب من التدريس في المدرسة النظامية ببغداد بعد أن رأى تهافت المناصب وفساد القلوب. يروي الغزالي في كتابه الشهير "المنقذ من الضلال": "فأقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم لا تتم إلا بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة".
في الحقيقة، كان انسحاب الغزالي من بلاط السلطة السلجوقية بمثابة بيان رمزي لرفض التماهي بين الدين والسياسة، وللتحذير من التديّن السلطاني الذي يجعل من العلماء أدوات لتجميل وجه الحكم. بهذا المعنى، مثّل التصوف في مرحلته الأولى ضمير الأمة الموجّه، أو ما يمكن تسميته بـ"المعارضة الأخلاقية" للنظام السياسي. لم يقُد الصوفيون ثورات مسلحة، لكنهم قادوا ثورات رمزية ضد القيم السائدة، ورفضوا أن يكونوا فقهاء السلطان أو وعّاظ البلاط.
التصوف في قلب الدولة
ابتداءً من القرن السادس والسابع الهجريين، ومع تراجع قوة الخلافة العباسية وظهور الإمارات المستقلة والسلطنات العسكرية، بدأ المشهد يتغير جذرياً. وذلك بعدما دخل التصوف مرحلة جديدة، لم يعد فيها غريباً عن السلطة، بل صار شريكاً رئيساً في بنائها الصلب.
في الحقيقة، تعددت أسباب هذا التحول. فمن جهة، احتاجت السلطة الحاكمة إلى مشروعية روحية تعوّض ضعفها السياسي. ومن جهة أخرى، وجد الصوفيون في دعم الدولة فرصة لنشر طرقهم وتعاليمهم على نطاق أوسع. في هذا السياق، ولد شكل جديد من التصوف، أكثر مؤسساتية وأقل راديكالية، يمثله الشيوخ الكبار الذين أسسوا الطرق المنظمة: كالشيخ عبد القادر الجيلاني (ت سنة 561هـ.) مؤسس القادرية في بغداد، وأبي الحسن الشاذلي (ت سنة 656هـ.) في المغرب ومصر، ثم جلال الدين الرومي (ت سنة 672هـ.) مؤسس الطريقة المولوية في الأناضول.
في كتابها "الأبعاد الصوفية في الإسلام"، أوضحت المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل أن هذه الطرق "نجحت في أن تملأ الفراغ الروحي والسياسي بعد سقوط الخلافة، فصارت الزوايا والتكايا مؤسسات تضطلع بدور اجتماعي يشبه مؤسسات الدولة". من هنا، لم تعد الزاوية الصوفية مكاناً للعزلة والعبادة وممارسة الزهد والتقشف، بل صارت مركزًا للتعليم والتوجيه والإغاثة، بل وأحياناً للتجنيد العسكري كما جرى في الحالة البكتاشية والنقشبندية في العصر العثماني.
من جهة أخرى، تبيّن القراءة المدققة في سيّر كبار شيوخ الصوفية في تلك المرحلة، العلاقة الوطيدة التي جمعت بين المتصوفة وسلاطين عصرهم؛ على سبيل المثال، كان الجيلاني مقرباً من مؤسسة الخلافة العباسية، وقد لعبت طريقته دوراً مهماً في تهدئة المجتمع البغدادي بعد فوضى البساسيري والصراعات الطائفية التي اندلعت لسنوات بين السنة والشيعة. في مصر، ارتبطت الشاذلية ارتباطاً وثيقاً بالسلطة المملوكية. يذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "الدرر الكامنة" أن السلطان الظاهر بيبرس كان يزور مشايخ الشاذلية ويطلب بركتهم قبل الحملات العسكرية. كما تواترت القصص عن العلاقة الودية التي جمعت بين سلاطين المماليك وكل من السيد البدوي في طنطا، وإبراهيم الدسوقي في دسوق، وكلاهما من أقطاب التصوف الطرقي في مصر. أما في الدولة العثمانية، فقد أصبحت النقشبندية والمولوية جزءاً لا يتجزأ من البنية الأيديولوجية للسلطنة، بحيث عُدّ شيخ الطريقة الصوفية واحداً من أهم رجالات الدولة الرسميين على الإطلاق.
تاريخ التصوف في الإسلام هو في جوهره تاريخُ علاقةٍ متبدّلة بين الزاهد والسلطان؛ علاقة بدأت بالرفض والنأي عن دنيا الحكم، وانتهت إلى نوع من التواطؤ الرمزي
لم يكن هذا التحول مجرد مصادفة، بل مثّل انتقال التصوف من خطاب الاحتجاج إلى خطاب الشرعية. الأمر الذي لاحظه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في دراسته عن الحلاج، عندما أكد أن "السلطة الإسلامية حين تبنّت التصوف لم تفعل ذلك عن ضعف، بل عن إدراك أن الروح الصوفية تصلح لتأبيد النظام، لأنها تُقنع الناس بالزهد في الدنيا والرضا بالمكتوب".
جدلية الروح والسلطة
هنا يظهر السؤال المُلح، كيف استوعبت المجتمعات الإسلامية التحول الطارئ في شكل وبنية الظاهرة الصوفية؟ وكيف جرى تفسير هذا التحول من المعارضة إلى الشراكة؟ ربما كان الجواب يكمن في البنية المزدوجة للظاهرة الصوفية نفسها. فالتصوف، من جهة، نزعة فردية تحررية تسعى إلى خلاص النفس، ومن جهة أخرى، حركة اجتماعية تبحث عن الاستقرار والانتشار. وحين تتغلب الأولى، يصبح الصوفي معارضًا للسلطة، وحين تتغلب الثانية، يصبح حليفاً لها.
في كتابه "دوائر الخوف"، أشار المفكر المصري نصر حامد أبو زيد إلى تلك البنية المزدوجة عندما ذكر أن التصوف "حركة وعي مضاد في بدايتها، ثم ما تلبث أن تتماهى مع السلطة حين تتحول إلى مؤسسة". يضيف أبو زيد: "الزهد فعل احتجاجي، لكن الطريقة نظام اجتماعي يحتاج إلى حماية السلطة". وهذا بالضبط ما حدث في العالم الإسلامي الوسيط؛ عندما خرج التصوف من طور الزهد الفردي إلى طور التنظيم الطرقي ليرسّم نفسه بعدها جزءاً من النسيج السلطاني.
من هنا يمكن أن نفهم أن الصوفيين الذين اقتربوا من الحكم لم يكونوا مجرد وعّاظ، بل كانوا مستشارين روحيين، يشرعنون الحكم بالكرامة والبركة. فالمماليك، مثلاً، أسسوا احتفالات المولد النبوي بإشراف الصوفية، لتكون مناسبة لدمج المقدّس في السياسي. وفي المغرب والأندلس، منح السلاطين الأوقاف للزوايا الصوفية، وأصبح شيخ الزاوية شريكاً فعلياً في إدارة المجتمع. الأمر الذي رأى فيه المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز في كتابه "الدين والسلطة والمجتمع" تحالفاً قوياً "أنتج نموذجاً فريداً للدولة الروحية التي لم تكن ثيوقراطية تماماً، لكنها جعلت من الدين شبكة رمزية للهيمنة".
من الملاحظات المهمة التي ينبغي الالتفات إليها، أن دمج التصوف بالسلطة قد تسبب في حدوث تغييرات كبرى في الخطاب الصوفي نفسه؛ على سبيل المثال، تطورت قيمة الطاعة لتصير إحدى القيم المركزية في الخطاب الصوفي. في هذا السياق، فُرض على التابع الانقياد المُطلق لشيخه، حتّى شاعت مقولة إنّ المريد بين يدي الشّيخ كالميّت بين يدي الغاسل، يقلّبه من حال إلى حال كيف يشاء وهو لا يتكلّم معه ولا يردّ عليه. وهكذا، فقد التصوف الإسلامي الحالة الروحية التي كانت تنظر للتجربة الصوفية بوصفها علاقة فردية بين العبد والرب. واستبدلت تلك الحالة بنظرة هيريركية تنظيمية تتماشى وتتوافق -إلى حد بعيد- مع التنظيم الهرمي للسلطة السياسية الحاكمة.
رغم ذلك، بقيت داخل التصوف بعض التيارات التي حاولت أن تحافظ على استقلالها النسبي. فابن عربي (ت. سنة 638هـ)، رغم أنه عاش في كنف الدولة الموحدية ثم الأيوبية، احتفظ بمسافة من السلطة. يظهر ذلك في كتابه "الفتوحات المكية" إذ يقول: "الناس في خدمة السلاطين إلا العارف، فالسلطان في خدمته". تكشف هذه العبارة عن نزعة عميقة في الفكر الصوفي ترى أن الولاية الحقيقية ليست ولاية الحكم، بل ولاية الروح. ومع ذلك، فإن تأثير هذا الموقف ظل محدوداً أمام موجة "التصوف السلطاني" الذي ترسّخ في الوجدان الجمعي الإسلامي منذ العصر المملوكي والعثماني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



