عرفت سلطة الخلافة في الدولة الإسلامية، على اختلاف مراحلها، الكثير من حركات المعارضة التي تمظهرت بلبوس عقائدي أو مذهبي أو فلسفي. فهل يمكن إدراج حركة التصوف ضمن هذا السياق؟ أم أن الديني يتمفصل مع السياسي/الاجتماعي بطريقة يصعب فكّ عراها؟
في الإسلام يمكن القول إن خط التصوف بشكله الأوّلي، بدأ مع أبي ذر الغفاري الذي عُرف بزهده في متع الدنيا، وموقفه الحاسم من المال واكتنازه، وانحيازه الصريح إلى الفقراء. وبرغم أنه لم يشتغل بمباحث التصوف التي عُرفت لاحقاً، لكنه أسّس نموذجاً أولياً، مع سلمان الفارسي، للترفع عن الملذات الحسية المباحة أصلاً.
بحسب ابن خلدون (1406م)، في رسالة "شفاء السائل في تهذيب المسائل"، بدأ التصوف ممارسةً وتجربةً وتجلّى في الإعراض عن ملذات الحياة والانقطاع إلى العبادة والتأمل، ثم تحول إلى علم وبحث تُدوَّن أفكاره، وتوضع له أصول وطرق وتراتبية يرقى بها المُريد.
وللتصوف منظومته الأخلاقية التي التزم بها أغلبهم، وقد عرّف بعضهم التصوف بأنه التخَلُّق، أو التخلق بأخلاق الله تعالى. ومن مفردات الخلق الصوفي، الزهد والتواضع والصبر والقناعة، والاستقامة والصدق، والعدل والجود والإيثار والنظافة والجمال. ومن مشهور أقوال أحد أقطابهم، سهل بن عبد الله التستري(896م)، كما أورده "الشاطبي" في "الاعتصام": "أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنّة رسوله، وأكل الحلال، وكفّ الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق".ونقرأ للشاعر الصوفي المغربي محمد الحراق (1845م)، في ديوانه، مختصراً الخُلُق الصوفي:
فسرْ في أمان الله للحق مسرعاً... وكن مُعرِضاً عنذي الأمور الشنيعةكحرصٍ على مالٍ وحبّ ولايةٍ... وكثرة أصحابِ، ونيل المزيّة
يعود لإبراهيم بن أدهم (777م)، إقرار المبادئ الأولية للزهد وللسلوك الصوفي الذي التزم به المتصوفة في غالبيتهم: العيش من عمل اليد، عدم الزواج أو الاكتفاء بواحدة، عدم امتلاك العبيد، مقاطعة السلطة، ومقاطعة العسكريين برغم أنه قاتل ضد البيزنطيين لكونهم معتدين.
لماذا إذاً ميّز المتصوفة أنفسهم عن الفقهاء ورجال الدين؟ وماذا يعكس هذا التميز من افتراق في الأهداف والوسائل؟
حسّيّة رجل الدين وروحانية المتصوف
يرى المتصوفة أن الفقهاء والمشايخ يهتمون بالتنفيذ الحرفي للأوامر والأحكام الشرعية التي أنزلها الله في قرآنه. أما هم، فيتحرّون المراد الإلهي العميق وما يحب الله ويكره، ويحققون هذا المراد بطريقتهم دون الحاجة إلى التزام القيود الشرعية بذاتها، أي أنهم يرتقون من صيغة الأمر والنهي إلى صيغة الحب والكراهية، وبذلك يتميزون وفقاً للباحث محمد حلمي عبد الوهاب، في كتابه "ولاة وأولياء، السلطة والمتصوفة في العصر الوسيط"،"باجتراح طريق جديدة للمعرفة والإدراك، طريق تتجاوز حدود العقل ومقاييسه المنطقية، وكذلك الحس ومعاييره المادية، فكان أن اجترحوا رؤية القلب أو الحدس أو الذوق".
بحسب ابن خلدون في رسالة "شفاء السائل في تهذيب المسائل"، بدأ التصوف ممارسةً وتجربةً وتجلّى في الإعراض عن ملذات الحياة والانقطاع إلى العبادة والتأمل، ثم تحول إلى علم وبحث تُدوَّن أفكاره، وتوضع له أصول وطرق وتراتبية يرقى بها المُريد
يتواصل المتصوفة ذهنياً وروحياً مع السماء بلا وسائط، إلى حد تجاوزوا معه الشرائع والفرائض، فهم يصلّون للاتصال مع الله/الحق، ويصومون لترويض النفس والروح، أما الجهاد فقد ميّزوا بين الجبهة الشرقية التي هي جبهة فتوحات، فلم يشارك في معاركها إلا قلة من المبتدئين في سلك التصوف، وبين الجبهة الغربية في مواجهة البيزنطيين بوصفها جبهة دفاع ضد عدو مغتصب المشاركة في معاركها واجبة كما فعل بعضهم.
ويوضح الباحث توفيق الطويل أصل الخصومة أو الافتراق بين الفقهاء والمتصوفة، بأن "الدين قد أصبح في يد الفقهاء رسوماً وأوضاعاً لا حياة ولا روحانية فيها، وهي إن أرضت ظاهر الشرع وأشبعت عقول المشرعين المفتونين بتقعيد القواعد وتعميم القوانين، فإنها لا تتّسق مع باطن الشرع ولا تتبع العاطفة الدينية" (راجع ناهضة ستار، "بنية السرد في القصص الصوفي").
كان موقف المتصوفة شديداً تجاه فقهاء السلطان الذين تحالفوا مع السلطة السياسية وهي تمارس التسلط والقهر والاستبداد، ويُنسب إلى الإمام جعفر الصادق(756م)، قوله: "الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتّهموهم"، وينسب الحديث بصيغة أخرى إلى النبي محمد أيضاً.
يعتقد المتصوفة أن عبادة رجال الدين وعموم المؤمنين لله، هي إما عبادة التجّار طمعاً في ثوابه، أو عبادة العبد خوفاً من عقابه. أما هم، فيرتقون إلى عبادة العارف المحب الذي يسمو بهذه الحالة عن قيود العبودية، ويُنسب إلى رابعة العدوية(796م) قولها: "اللهم لا أعبدك طمعاً بجنتك، ولا خوفاً من نارك، ولكن لأنك أهل لذاكا". وبعض المتصوفة الأقطاب لم يستثنوا الأنبياء من هذا التمييز، فالنبي مؤمن والمتصوف عارف، وقد ورد عن أبي يزيد البسطامي(874م)، قوله: "لقد خضنا في بحرٍ وقف الأنبياء عند ساحله".
وقد عارض المتصوفة تعالي الفقهاء على الأديان الأخرى وادّعاء احتكار الحقيقة، فساووا بين الأديان في الحق، كما ساووا بين الأديان السماوية والوثنية، كما بين الدين والإلحاد في الحق، وقد لخص ذلك محي الدين بن عربي، في قصيدته المشهورة "لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ". وميّزوا بين خرق حقوق الله وخرق حقوق الناس، فتساهلوا في الأولى كعدم الالتزام بالعبادات وشرب الخمر، ولم يتساهلوا في الثانية، وهذا ما اتفق مع رأي قلة من الفقهاء فقط.
وتمثّل قصة المتصوف الإشراقي السهروردي(1191م)، نموذجاً لعلاقة الخصومة بين رجال الدين والمتصوفين، حيث سعى المشايخ بلا كلل إلى تحريض والي حلب عليه، إلى أن جاء أمر أخيه صلاح الدين الأيوبي بتصفيته إرضاءً لهم (ابن خلكان، "وفيات الأعيان"). ويكاد عبد القادر الجيلي (الكيلاني) (1166م)، وهو أحد الكبار في خط التصوف القطباني، أن يكون النموذج الوحيد الذي جمع بين الفقه والتصوف وحاز القبول بإجماع أئمة عصره من المشايخ والفقهاء والعامة، وقد عدّالجيلي أن شخصية الصوفي تجمع ما تفرّق من خصال الأنبياء.
تاريخياً... كان موقف المتصوفة شديداً تجاه فقهاء السلطان الذين تحالفوا مع السلطة السياسية، لا سيما وهي تمارس التسلط والقهر والاستبداد.
لم يقتصر نقدهم على رجال الدين، بل شمل بعض المسلمات الدينية، فقد انتبه أبو العلاء المعري (1057م)، إلى أن الجنّة التي وعد الله بها المسلمين هي جنة نعيم مادي واستمرار لنعيم الدنيا الذي يتمتع به رجال الدين والدولة، فهم يهتمون باللذات الحسية بينما الروحانية يعيشها الحكماء والمتصوفة.
العلاقة مع السلطان
يرى الباحث هادي العلوي، في كتابه "مدارات صوفية، التراث المشاعي في الشرق"، أن أخلاق الصوفية تستند إلى مصادر عدة، منها القيم الجاهلية التي كانت تميل في عمومها إلى رفض سلطة الدولة أو الخضوع لملك، وهو ما يسمّى "اللَقاحية".ويميّز العلوي بين التصوف الاجتماعي الذي ينخرط أصحابه في الدفاع عن الخلق وتأمين حقوقهم ومجابهة الظُلّام، وبين التصوف الفلسفي الذي ينشغل أصحابه في التنظير والأدلجة لحرية المعتقد.وحتى إن وقفوا ضد قمع السلطات الدينية أو السياسية،إلا أنهم تساهلوا عموماً في العلاقة معها.
مقاطعة الدولة ورجالها مبدأ ثابت، ولا يجوز في عرفهم طلب المعونة من الدولة بأي حال من قِبل المتصوف أو الفقيه، لكن هذا حق من حقوق العامة جائز إلا في حالات الانتفاضة المنظمة لإسقاط الحاكم كما حصل زمن الحلاج (922م)، حين شارك في التحرك ضد الخليفة المقتدر، حيث يصفه ابن النديم بأنه "كان جسوراً على السُلطان، مرتكباً للفظائع، يروم انقلاب الدول" (هادي العلوي، المصدر السابق). فقد انخرط على ما يبدو في تحرّك منظّم للانقلاب على سلطة الخلافة. أما السهروردي، فقد أبدى احتقاراً لكل مظاهر السلطة والأبهة.
حاز عبد القادر الجيلي،القدرة على تحدّي الخليفة ورفض عطاياه، قائلاً: "لا نقبل أموالاً مأخوذةً من دماء الناس"، فالتفّ نصف أهل بغداد حوله فاستقوى بهم ونظم نشاطات لمساعدة الفقراء استفزت سلطة الخلافة التي تهيبت الدخول في صراع علني معه، وكان يرى أن السلطة في كل حالاتها سلطة لصوص.وتُذكر في هذا السياق أيضاً، مشاركة سفيان الثوري (778م)، في ثورة أهل البصرة ضد الخليفة المنصور، كما يذكر ابن النديم في"الفهرست".
وقد خلص الباحث محمد حلمي عبد الوهاب، إلى أن "الزهد في ما لدى السلطان من مال وجاه، يجعل المتصوف أكثر قوةً في مواجهته، وأعلى قدرةً في التمرد عليه، لذا كان رفض رشوة السلطان مقابل التخلي عن قضايا الجماهير أو مباركة التصرفات السلطوية ضد مصلحة الأمة خياراً إستراتيجياً لمعظم المتصوفة" (محمد حلمي عبد الوهاب، المصدر السابق).
وقد عدّوا الدولة مصدر الجور والعسف والفقر الذي يعاني منه خلق الله، بالإضافة إلى سلطة الدين وسلطة الأغنياء، وكلهم يقع في خانة "الأغيار"، وقد وصفت امرأة صوفية وزيراً كان يمشي في موكب سلطاني فخم: "هذا رجل سقط من عين الله، فابتلاه بما ترون" (ابن عساكر، "تاريخ دمشق")، أي أن من يسقط من عين الله سيكون في عين الدولة.
ولم يقتصروا في موقفهم من سلطة الخلافة على الخليفة فحسب، بل شملوا كل من يعمل في خدمته. وتُروى قصة لأحد المتصوفة مفادها أن كان "له جار يعمل خياطاً، فسأله يوماً مستفسراً: أخيط الثياب لرجال السلطان فهل أنا من أعوان الظلمة؟ فأجابه: لا، أعوان الظلمة من يبيعك الإبرة والخيط، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم".
وحدث مع رابعة العدوية، أنها كانت على سطح دارها ليلاً حين مر موكب السلطان، فخاطت قميصها على ضوء مشاعل الموكب، فأصابها الغم وفقدت قلبها دون معرفة السبب إلى أن تذكرت ففتقت قميصها وعاد لها قلبها (سهام خضر، "رابعة العدوية بين الأسطورة والحقيقة")، والدلالة هنا واضحة في الموقف الحاسم الذي لا يقبل المساومة برفض أي مكسب من السلطان ورجاله.
تُمثّل قصة المتصوف الإشراقي السهروردي نموذجاً لعلاقة الخصومة بين رجال الدين والمتصوفين، حيث سعى المشايخ بلا كلل إلى تحريض والي حلب عليه، إلى أن جاء أمر أخيه صلاح الدين الأيوبي بتصفيته إرضاءً لهم
علماً بأن مقاطعة السلطة ورفض مكاسبها لا يعنيان بالضرورة الثورة ضدها، فالكثير منهم أدار ظهره لها لكنه لم يقاومها، أي أن مقاومة جور السلطان لم تكن سلوكاً عاماً عندهم جميعاً، واختلف محي الدين ابن عربي عن أقرانه في هذا المسلك، حيث قابل مرةً السلطان الظاهر في حلب مطالباً إياه بحاجات الناس.
العلاقة مع الأغنياء
عارض المتصوفة الثراء لكونه يؤدي إلى الترف الذي يفسد الإنسان حين يمد شهواته بطريقة بهيمية تُفقده إحساسه بالخلق، فالمال مصدر للطغيان كما ورد في القرآن:"إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى"، و"من ملك استبدّ" في قول منسوب إلى علي بن أبي طالب. أما أبو ذر الغفاري فقد أصرّ على تجريد الأغنياء من أموالهم عملاً بآية تحريم الاكتناز، علماً بأنها نُسِخت بآية الزكاة باتفاق المسلمين.
ويتصل بالزهد عند المتصوفة، التشدد في كسب المال الحلال، أي التدقيق في مصدره، واعتمدوا العمل اليدوي في تحصيل عيشهم كي لا يقبلوا منّة أحد من رجال السلطان أو الأغنياء، ويُروى عنهم أنهم كانوا يسخرون إذا سمعوا عن غنيّ متعبد، فعبادته يجب أن تكون بتوزيع أمواله على الفقراء.ومن إحساس المتصوفين بجوع الفقراء كانت معارضتهم للدولة والأغنياء معاً، بوصفهم سبب فقر المحرومين، ولهم مفهوم خاص للعزة والكرامة يجعلهم يتواضعون للفقراء المحكومين لكنهم يتعززون على الأغنياء والدولة، فسلطة الثقافة لا تخضع لهذه السلطات، لكنها تتواضع للشعب.
ومن المأثورات الصوفية: "وجود المال يحجب الرؤية". بل إن ذا النون المصري يرى أن "المحبة كالحكمة لا تدخل بيتاً يمتلئ بالطعام" (أبو نعيم الأصفهاني، "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء")، في إشارةٍ إلى استبعاد الأغنياء من نعيم المحبة التي "لا تدخل قلباً يغلّفه الشحم".وقد عدّ الكثير منهم الأغنياء في خانة "الأغيار" بصرف النظر عن مصدر المال، وتجب مقاطعتهم وعدم حضور مجالسهم، وهو ما يستحضر موقف المسيح من الأغنياء حين أخرجهم من ملكوت الله.
مقاطعة السلطة ورفض مكاسبها لا يعنيان بالضرورة الثورة ضدها، فالكثير من المتصوفين أدار ظهره لها لكنه لم يقاومها، أي أن مقاومة جور السلطان لم تكن سلوكاً عاماً عندهم جميعاً.
رفضوا إنفاق المال على بناء المساجد والقصور طالما يوجد فقراء، وقد حكم سفيان الثوري بالإثم على من يفعل ذلك، ومضى سفيان في المبدأ إلى حدّ تحريم النظر إلى أملاك الأغنياء، لكنه تعامل مع العصاة والعيّارين ومدح أفعالهم فقال: "لأن أصحب فتى أحبّ إليّ من أن أصحب قارئاً" (الإمام الخطابي، "العزلة")، والفتى هنا هو الذي يسلك سلوك العيّارين والشطّار، علماً بأنه لا يوجد توافق بينهم في سرقة أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء كما كان يفعل العيّارون، لكن عبد الكريم الجيلي دعا لذلك دونما توضيح الطريقة.واختلف محي الدين ابن عربي، عن غيره، بقبوله المعونة والهدايا من السلطان التركي، فكان يُبقي منها ما يكفي عائلته ويوزع الباقي (هادي العلوي، المصدر السابق).
ومن مأثور قصصهم بالتحريم القطعي لأموال السلطان، أن الشيخ أبا القاسم الإسكندراني(1263م)، باع دابةً لرجل، فجاءه بعد أيام فقال: إن الدابة التي اشتريتها منك لا تأكل عندي شيئاً. فسأله: ماذا تعاني من الأسباب (أي ماذا تشتغل)؟ فقال: رقّاص عند الوالي، فقال له الشيخ: دابّتنا لا تأكل الحرام!
هل كان التصوف نزوعاً إلى التحرر؟
يمكن النظر إلى حرية المتصوفة على مستويين: الحرية الذاتية، وحرية الخلْق.
على المستوى الذاتي، تُعدّ حرية الصوفي علاقة ذات بنفسها،حيث يمارسها بروحه الحرّة التي تحلّق عالياً بحثاً عن وجه الحق بعيداً عن حسابات الربح والخسارة، بكثرة الأسفار، وبالتعالي على قيود الملكية فهو لا يملك شيئاً حتى لا يملكه شيء، وبالاستغناء عن السلطان ورجاله ومكاسبه، وبالاستقلال الكامل فلا يتبع أحداً ولا يطيع أوامر أحد، فالتصوف نزوع نحو حرية الروح والقلب والعقل في علاقتها مع المطلق، وقد أجاب أحد المتصوفة عن سؤال: ماذا تريد؟ بالقول:"أريد ألا أريد".
إن مجاهدة الصوفي لبلوغ الدرجة القصوى من محبة الله والسعي إليه، هي في أحد وجوهها انعتاق من قيد الأغيار والموجودات، والحرية كما يعرّفها القشيري هي "أن لا يكون العبد تحت رقّ المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات" (أبو القاسم القشيري، "الرسالة القشيرية في علوم التصوف").
وبخصوص حرية الخلْق، فقد اتخذوا بعمومهم موقف المعارضة ضد السلطات القاهرة لعباد الله دون أن يستخدموا هذا المصطلح أو ينظّروا له، بل قدّموا جملةً من الآراء والقواعد الملزمة لهم بخصوص الموقف من الدولة/السلطة، بوصفها شرّاً ورجالها أشرار وفعالها شريرة، ويُعدّ هذا الموقف امتداداً لما سمّي قبل الإسلام باللقاحية التي تميّز بها عرب شبه الجزيرة، وتعني رفض الخضوع لسلطة مركزية أو ملك. ويرى الراحل حسين مروة في كتابه "النزعات المادية"، أن "التصوف بدأ كينونته الجنينية زهداً مسلكياً عدمياً، ثم تطور إلى موقفٍ فكري يتضمن معارضةً ذات وجهين، ديني (التأويل) وسياسي (استنكار الظلم الاجتماعي والاستبداد)".
خلص الباحث غولدتسيهر إلى أن "التصوف الإسلامي في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، كان ثورةً على النظام السياسي الظالم والنظام الاجتماعي غير العادل" ،حيث شهدت هذه الفترة حوادث سياسيةً خطيرةً أبرزها الاضطرابات في عهد عثمان بن عفّان، ثم الصراع الدموي بين علي بن أبي طالب والأمويين
وقد خلص الباحث غولدتسيهر (1921م)، إلى أن "التصوف الإسلامي في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، كان ثورةً على النظام السياسي الظالم والنظام الاجتماعي غير العادل" (أغناس غولدتسيهر، "العقيدة والشريعة في الإسلام")،حيث شهدت هذه الفترة حوادث سياسيةً خطيرةً أبرزها الاضطرابات في عهد عثمان بن عفّان، ثم الصراع الدموي بين علي بن أبي طالب والأمويين، ويوافق ذلك رأي الباحث المصري "أبو العلا عفيفي" في كتابه "التصوف...الثورة الروحية في الإسلام"، في أن "التصوف الذي كان نقطةً التقى فيها المسلمون مع أصحاب الديانات الأخرى هو أول ثورة ضد الظلم السياسي والاقتصادي والاضطهاد فضلاً عن الرغبة في الاستغناء عن ثراء كان ثمرة الفتوحات في صدر الإسلام".
يرى كثرٌ من المتصوفين، أن حركتهم عابرة للأديان والأعراق وغير محصورة في الإسلام، بل هي امتداد لخط طويل من الحركات الروحانية التي تحاول تصويب دنيوية البشر، ظهرت في الكثير من العقائد وبخاصة الشرقية، ورأى الباحث الألماني المعاصر "شتيفانرايشموت"، أن الطرق الصوفية عُدّت نوعاً من أنواع المعارضة بسبب طبيعة استقلاليّتها عن السلطة، وحتى إن حدث تقاطع بينهما، تظل الطُرق الصوفية خارج إطار الدولة كمؤسسات حاكمة، أو هكذا ظلّت لفترة طويلة" (محمد العتر، "الصوفية، جنود الله أم جنود السلطان؟" موقع ساسة بوست).
واستنتج هادي العلوي أن خطّاً متصلاً انتظم فيه من يسميهم أنبياء الثورة الاجتماعية كالحلاج والمسيح وأبي ذرّ وحمدان القرمطي (المصدر السابق)، وهو ما يجب أن يشمل الجيلي الذي قال: "فتشت الأعمال كلها فلم أجد أفضل من إطعام الطعام، أودّ لو أن الدنيا في يدي لأطعمها الجياع".
يمكن القول إذاً، إن التصوف يمثّل في أحد وجوهه حركة انعتاق ليس فقط من القوالب الدينية الضيقة، بل كذلك من الحدود التي ترسمها السلطات الرسمية فتكبّل الخلق وتقمعهم، وهو ما سمحلبعض الباحثين بالتعويل على حركة التصوف لتكون بديلاً ثقافياً واجتماعياً للإسلام السياسي الحركي الذي أتعب الناس بصراعاتٍ غير مجدية لا تنتهي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين