معاقبون على الحب… كيف تتحكم إسرائيل في قصص زواج الفلسطينيين؟

معاقبون على الحب… كيف تتحكم إسرائيل في قصص زواج الفلسطينيين؟

حياة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 21 أكتوبر 20259 دقائق للقراءة

بينما يتمتّع الإسرائيليون بحرية الارتباط بأي شخص في العالم، يُحرم الفلسطينيون، أبناء هذه الأرض، من حرية الارتباط بأبناء جلدتهم. فقصص الحب في فلسطين محكومة بالجغرافيا والقانون، فما أن يبدأ الحلم بتكوين أسرة، حتى يتحوّل إلى "ملف أمني" تتحكم فيه إسرائيل.

في عام 2003، أقرّت إسرائيل قانون "منع لمّ الشمل"، الذي يحظر على الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، المتزوجين من فلسطينيين يحملون الجنسية الإسرائيلية، الحصول على حق الإقامة داخل أراضي الـ48 دون موافقة وزارة الداخلية الإسرائيلية، التي تفرض شروطاً تعجيزيةً مثل تحديد جيل الشخص المتقدِّم، إذ يجب أن يكون الرجل فوق سنّ الخامسة والثلاثين، والمرأة فوق الخامسة والعشرين، إلى جانب ضرورة أن تكون ملفاتهم الأمنية، هم وأقاربهم، "نظيفةً". وقد جُدّد هذا القانون في أيار/ مايو الماضي، بذريعة "دواعٍ أمنية".

بموجب هذا القانون، يضطر الأزواج إلى إثبات أنهم يعيشون كأسرة تحت سقف واحد، بشكل دوري، قد يكون سنوياً أو كل عامين، وأحياناً كل ستة أشهر، لتحديد إمكانية تجديد تصريح الإقامة المؤقت لأحد الزوجين. 

هذا الواقع يُعرّض العديد من الأسر الفلسطينية لخطر التفكك، إذ يُجبَر بعضها على العيش في مناطق مختلفة، حتى إن فصل بينها جدار عازل، ما يُضعف الروابط الأسرية، ويؤثر سلباً في النسيج المجتمعي. 

ماذا يعني أن تكوني أمّاً تحت قانون منع لمّ الشمل؟

أن تكوني أمّاً من الضفة الغربية، متزوجةً من فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية، يعني أن تعيشي أمومةً منقوصةً، وتواجهي ظروفاً قاسيةً تجعل من حق الأمومة والارتباط الأسري أمراً شائكاً وخاضعاً للسلطة الإسرائيلية.

"على مدى 24 عاماً، لم يكن أبنائي مسجّلين باسمي"، تقول كفاح (51 عاماً) من مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية وهي أمّ لخمسة أبناء، لرصيف22. وتضيف: "حصلت على الجنسية الإسرائيلية بعد 24 سنةً من زواجي، وعندها فقط سُجّلت كأمّ في السجلات المدنية". 

كفاح (51 عاماً) من طولكرم، أمّ لخمسة أبناء، أمضت 24 عاماً بلا اعتراف رسمي بأمومتها لأنها متزوجة من فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية. ومؤخراً حصلت على جنسيتها بعد ربع قرن، لتسجَّل أخيراً كأمّ، بعد حياة مليئة بالقيود والأوراق والابتعاد عن الأسرة

عاشت كفاح أياماً قلقةً قبل زواجها، خوفاً من إغلاق الضفة الغربية وعدم تمكّنها من رؤية عائلتها. وقد تحققت تلك المخاوف في ليلة زفافها، حين فُرض حظر تجوّل على الضفة الغربية بسبب أحداث أمنية، ما اضطرها إلى المخاطرة بدخول أراضي الـ48 كعروس، دون تصريح. 

وتضيف: "خرجت من بيت والدي بملابس عادية، لا بفستان العروس كما تجري العادة، ووالدي لم يتمكن من حضور زفافي".

ازدادت الأوضاع سوءاً بعد اندلاع الحرب، قبل سنتين، حيث تروي أنها لم تعد قادرةً على رؤية أهلها كما في السابق، برغم أنّ جداراً فاصلاً يقع بين منزلها في مدينة الطيبة ومسقط رأسها طولكرم.

"لو أنّ شابّاً من الضفة تقدّم لابنتي، لرفضت زواجها منه، لأنني ذقت الأمرّين بسبب قانون منع لمّ الشمل"، تقول كفاح.

أبناء عائلات لمّ الشمل

"أذكر في طفولتي، تلك الرحلات العائلية إلى شاطئ نتانيا "قرية أم خالد المهجّرة"، لكن حين كبرت أدركتُ أنّ خلف هذه الرحلات تقف مؤسسة ستقرّر إن كنا سنبقى عائلةً أم لا"، تقول منار (25 عاماً)، لرصيف22.

كانت تتخلل هذه الرحلات زيارات متكرّرة إلى مكاتب وزارة الداخلية، إذ إنّ والد منار من مدينة نابلس في الضفة الغربية، لذا كانت عائلتها تُجبر سنوياً على تقديم ما يُثبت وجودهم كأسرة. 

تصف منار هذه الإجراءات بـ"الميمعة"، قائلةً: "كانت أمي تتنقّل بين مؤسسة وأخرى، تحضر قائمةً من المهام، تجمع كومةً من الأوراق، وتطلب منّا وثائق إضافيةً من المدرسة، وكانت تؤنّبنا إن نسينا".

وتتابع: "في إحدى المرات، بينما كنت أفتش بين الأوراق، عثرتُ على ألبوم زفاف والديّ، فتصفّحته، ولاحظتُ أنّ صوراً قد أزيلت منه. تساءلت عن السبب، فأجابتني أمّي: 'الصور في وزارة الداخلية'".

قررت منار تجسيد المعاناة من قانون منع لمّ الشمل عبر العمل الفني "إثبات مركز حياة"، المستوحى من تجربتها الشخصية، حيث استخدمت صورة زفاف والديها، واستبدلت وجهيهما ببطاقتين: واحدة زرقاء تمثّل الهوية الإسرائيلية التي يحملها فلسطينيو الداخل، وأخرى خضراء يحملها الفلسطينيون في الضفة الغربية."ورقة ناقصة أو توقيع غير مكتمل، قد يحددان مصيرنا كأسرة. ومع ذلك، هذا القانون هو ما جعل ارتباطنا العائلي أقوى". 

تجسّد الحواجز واحدةً من أقسى صور الاحتلال، إذ تحوّل تفاصيل الحياة البديهية، كاللقاء أو الزواج، إلى معركة انتظار وتصاريح. فيعيش الأحبة على بُعد خطوات تفصلهما الأسلاك والجنود.

وتضيف: "أشعر بالغضب كلما جُدّد هذا القانون، وأشعر بالأسى أيضاً لأنّ هناك طفلةً ما قد يُقال لها: 'ستعيشين بعيداً عن والدتك'".

ليست حواجز جغرافيةً فحسب… 

تُشكّل الحواجز بين المناطق الفلسطينية عائقاً حقيقياً أمام حرية التنقل، حتى بات مجرد اللقاء أو إقامة حفل زفاف، أُمنيةً قد تتطلب شهوراً من الإجراءات والترتيبات.

لا يستطيع شابّ من الضفة الغربية رؤية شريكته متى شاء، إن كانت من سكان الداخل الفلسطيني أو القدس، إلا بعد الحصول على تصريح أمني يُعطى بصعوبة شديدة، ولا سيّما في ظل الأوضاع الأمنية والسياسية الراهنة. 

"أصعب موقف عشته مع شريكي كان في أول عيد لنا معاً، بعد خطوبتنا. ذهبتُ لاستقباله عند أحد الحواجز، لكنهم رفضوا إدخاله. شعرت بالانكسار والعجز. كانت تفصلنا خطوات معدودة، وبيننا حاجز، وجنود واحتلال كبير"، تقول نادية (26 عاماً)، وهو اسم مستعار، من مدينة الطيبة.

تتابع حديثها إلى رصيف22: "لسنوات، رافقتنا المخاوف والتساؤلات: هل ستوافق عائلتي؟ أين سنعيش؟ كيف سنلتقي؟ وحين ارتبطنا رسمياً وبدأنا الإجراءات القانونية، كانت هناك عوامل كثيرة دفعتنا للتمسّك بهذه العلاقة، في مقدّمتها الاحتلال". 

بعد الحرب... معاناة متفاقمة

تروي نادية أنّ شريكها قدّم طلب إقامة، لكن قوبل بالرفض، لأسباب سياسية وأمنية. 

"لم يكن هذا الرفض مفاجئاً، خاصةً أنّ ارتباطنا حدث خلال فترة الحرب. كل شيء كان صعباً، الطرق داخل الضفة الغربية، الحواجز، وحتى الخطبة جرت وفق مواعيد الحواجز".

"وكأننا اعتدنا على هذا القهر. الإجراءات مرهقة جداً، يطلبون أوراقاً، ثم المزيد منها، ثم المزيد مجدداً. في كل مرة ننتظر ثلاثة أشهر للرد، ثم يُطلب منا تجديد المستندات من جديد، وهذا بحدّ ذاته يستنزفنا، هي لحظات لا أتمنى لأحد أن يمرّ بها".

وتتابع: "أخشى أن توقف الإجراءات أو تُرفض. نحن نعيش في خوف دائم، خصوصاً أنّ لدينا طفلاً شديد التعلّق بوالده، لكننا قررنا أن نتجاوز كل ما يحيط بنا من سلبيات، لنبني حياتنا معاً، بكل حب".

تمثل ديما آلاف القصص المشابهة لقصتها كلما اقترب زفافها، فالقانون لا يسمح لزوجها بالإقامة لأنه دون الخامسة والثلاثين، ما يعني أنها ستقيم سهرتها دون عريسها. والأسوأ، أنها قد تضطر لإنجاب أطفالها وحدها في مستشفى إسرائيلي ليحصلوا على الجنسية

أما ديما (20 عاماً)، فيزداد قلقها مع اقتراب موعد زفافها. تقول: "طُلبت مني تقارير عن خطيبي، وأقاربه، وأصدقائه وكل من حوله. وبعد كل ذلك، رُفض طلب الإقامة، بحجة أنه تحت سنّ الخامسة والثلاثين".

وتكمل: "تمت الخطبة في نابلس لتتمكن عائلته من الحضور. أما اليوم، فلا تُمنح تصاريح على الإطلاق. حفل الزفاف سيقام في الضفة الغربية وستكون سهرتي دون العريس، وهذا يشعرني بأنني لست كباقي الفتيات".

شكل آخر من أشكال الاضطهاد القانوني يكمن في اضطرار النساء الفلسطينيات حاملات الجنسية الإسرائيلية إلى إنجاب أطفالهنّ في مستشفيات إسرائيلية، ليحصل الأطفال على الجنسية الإسرائيلية، لكن شهادة الميلاد تسجّل دون اسم الأب! 

"أخشى أن أُنجب أطفالي وحدي، دون زوجي، فقط ليحصلوا على الجنسية الإسرائيلية، ويتمكنوا من زيارة عائلتي، دون الحاجة إلى تصاريح"، تقول ديما.

انتهاك للقانون الدولي والحقوق الأساسية

يُعدّ قانون منع لمّ الشمل عنصرياً في جوهره، فقد صُمّم خصيصاً لمنع جمع شمل العائلات الفلسطينية داخل الخط الأخضر. ويتعارض هذا القانون بوضوح مع الحقوق الدستورية الأساسية لأفراد هذه العائلات، كما ينتهك مبادئ القانون الدولي ذات الصلة. 

تصف مؤسسات حقوقية القانون بأنه "مستحيل التطبيق"، حتى أن السلطات تسأل الأزواج عن تفاصيل غريبة كألوان الأثاث أو محتوى رسائل "واتساب" للعثور على ثغرات وشبهات بالكذب!

تقول المديرة القانونية في مركز عدالة-المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، الدكتورة سهاد بشارة: "إجراءات تطبيق قانون لمّ الشمل تكاد تكون مستحيلةً، باستثناء بعض الحالات الإنسانية النادرة. وقد صيغت هذه الإجراءات بطريقة تجعل من لمّ الشمل أمراً شبه مستحيل، منذ صدور القانون وحتى اليوم". 

بينما تصف المحامية عبير بكر، القانون بأنه "إذلال للأزواج الفلسطينيين"، موضّحةً أنّ الإجراءات المرتبطة بطلب لمّ الشمل أو تجديد الإقامة تخترق الخصوصية بشكل فجّ؛ كأن يُسأل الزوجان عن لون الثلاجة في المنزل، أو عن مكان شراء الخضروات، بل تُطلب منهما أحياناً صور لمحادثاتهما عبر تطبيق واتساب.

وتتابع بكر بأنّ هذا القانون بات أداة ابتزاز داخل العلاقات الزوجية، قائلةً: "هناك نساء معنَّفات يتحمّلن العنف خوفاً من فقدان حق لمّ الشمل، والابتعاد قسراً عن أبنائهنّ".

كما تشير إلى تصعيد جديد، يتمثل في إصدار الحكومة إجراءً يُتيح إلغاء تصريح الإقامة لشخص إذا تبيّن أنّ له صلة قرابة، حتى لو بعيدة، بشخص مشتبه به بالتورط في حدث يُصنَّف أمنياً. وتعقيباً على هذا الإجراء، تقول: "يريدون تقليص الفُتات الذي يمنحونك إياه". 

وبحسب ما تقول، فقد أثّرت الحرب بشكل كبير على هذه العائلات؛ مَن كانوا في طور إصدار الإقامة تضرّروا مباشرةً، وبعض الأزواج علقوا في الضفة الغربية، خاصةً من كانوا يدخلون بتصريح عمل، وقد أُلغي تماماً.

تضيف:"الحرب أثّرت كذلك على من طلبوا تجديد الإقامة. فجأةً تسمعين بأنهم رُفضوا بسبب 'معلومات استخبارية'، دون أي توضيح. وكأنّ هناك تعليمات تقول: اطردوا منهم من استطعتم. آلاف من العائلات متضررة من هذا القانون، ما يحدث هو تجريم للحب. 'لا لمّ ولا شمل'".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image