-عنصر أمني تونسي لشابّ تونسي: "برا روّح عيش ولدي".
-شاب من جيل"Z": "مانيش وِلدك، كان جيت ولدك ما تضربنيش بالغاز".

ما سبق حوار سجّلته شاشات الهواتف وعرضته وسائل الإعلام المحلية والإقليمية، ويلخّص الاحتجاجات السلمية التي تشهدها مدينة قابس في الجنوب التونسي، المطالِبة بتفكيك وحدات المجمع الكيميائي الذي يتسبّب منذ سنوات في تلويث الهواء في الجهة التي تشهد تفاقماً في حالات الاختناق الجماعية في صفوف التلاميذ، خاصةً في الأسابيع الأخيرة، بسبب الانبعاثات الغازية الصادرة عنه.
لكن السلطات التونسية قابلت هذه الاحتجاجات السلمية بتعاطٍ أمني قوي، خاصةً من خلال الاستعمال المفرط للغاز المسيل للدموع (الكريموجان)، وفق ما وثّقته المشاهد الرائجة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كما اعتقلت منذ 14 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، 89 من المشاركين في هذا الحراك البيئي الاجتماعي في قابس، وقدّمتهم إلى التحقيق من قِبل النيابة العمومية، بمن فيهم 20 قاصراً. ويُنتظر عرض مجموعة أخرى من المتظاهرين الموقوفين على النيابة، اليوم الإثنين 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، وفق ما أكده رئيس الفرع الجهوي للمحامين بقابس، منير العدّوني، لوكالة تونس إفريقيا للأنباء.
الحراك البيئي الاجتماعي في قابس يشتعل والسلطات ماضية في الاعتقالات وصمّ الآذان عن مطالب الأهالي… لماذا لا تفكّك الحكومة التونسية المجمع الكيميائي وتفي بالتعهّدات الرسمية لعام 2017؟
وعدّت حملة "أوقفوا التلوث" أنّ السلطات الأمنية تقوم بـ"حملة إيقافات عشوائية وجائرة طالت عشرات الشبان الذين شاركوا في التحركات السلمية الرافضة للتلوّث، والمتمسّكة بحقّ قابس في بيئة سليمة وحياة كريمة".
السؤال الملح هنا: لماذا -برغم تكرار حالات الاختناق- تتمسّك الدولة التونسيّة بمواصلة عمل وحدات المجمّع الملوِّثة للهواء؟ وهل يعني استمرار الأزمة منذ سنوات إلى اليوم بلا حلول جذرية أنّ الدولة اختارت الاقتصاد على حساب دورها الدستوري المتمثّل في حماية العدالة البيئية والصحة الجماعية؟
الفوسفوجيبس... من "نفايات خطرة" إلى "مادة منتجة"
"أكّد رئيس الدّولة في هذا الاجتماع أيضاً على ضرورة إيجاد حلّ نهائي لـ'الفوسفوجيبس' في قابس، مشيراً في هذا السياق إلى إمكانية استغلاله دون أيّ أثر سلبي على البيئة، ومذكّراً في هذا الإطار بالدراسات التي قام بها مهندسون وأخصّائيون في قابس منذ أكثر من عشر سنوات تُثبت بالحُجّة العلمية جدّية هذا الاختيار وسلامته"؛ هذا ما جاء في بيان لرئاسة الجمهورية التونسية في 4 آذار/ مارس 2025، في أثناء لقاء الرئيس سعيد مع وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة، فاطمة شيبوب.
توصيات الرئيس تمت الاستجابة لها مباشرةً في اليوم التالي، في أثناء اجتماع حكومي مصغّر بإشراف رئيس الحكومة السابق كمال المدّوري، لتدارس برنامج مستقبلي لتطوير إنتاج ونقل وتحويل الفسفاط خلال الفترة بين 2025-2030، كانت أبرز قراراته "حذف 'الفوسفوجيبس' من قائمة النفايات الخطرة وإدراجه كمادة منتجة واستعمالها في مجالات متعددة بشروط منضبطة"، لينهي بذلك التصنيف الذي أقرّته الدولة التونسية في الـ10 من تشرين الأول/ أكتوبر 2000، والذي ينص على إدراج "الفوسفوجيبس" ضمن قائمة النفايات الخطرة.
شكّل القرار صدمةً للتونسيين وأثار سخطهم، خاصةً "القوابسية" (سكان قابس) الذين كانوا ينتظرون من السلطة الحالية تنفيذ تعهدات الحكومة عام 2017، القاضية بتفكيك وحدات الإنتاج في المجمع الكيميائي في قابس، واستبدال المجمع بمنشأة تتوافق مع المعايير الدولية للحفاظ على البيئة.
وفي هذا الصدد، يوضح النائب في مجلس الشعب فوزي الدعاس، عبر رصيف22، أنّ قرار 29 حزيران/ يونيو 2017، يقضي بإيقاف سكب مادة "الفوسفوجيبس" في البحر، وتفكيك الوحدات المرتبطة أساساً بإفراز تلك المادة، كما ينص على تركيز وحدات صناعية جديدة تحترم المعايير الوطنية والدولية في السلامة البيئية، في موقع يراعي الشروط الأساسية وأهمها الابتعاد عن مناطق العمران، وتفادي أي ضرر يلحق بالمائدة المائية، واحترام المقتضيات البيئية كافة، مع التحرّي عن وجود طبقات جيولوجية عازلة، ومراعاة المقبولية المجتمعية للمشروع.
ويشير الدعّاس إلى الرزنامة التي حدّدها البيان الحكومي آنذاك لإنجاز المشروع، التي تقوم على مراحل تنطلق بتخصص ستة أشهر لإنجاز الدراسات الجيولوجية والاجتماعية اللازمة، ثم مرحلة مدّتها سنتان للقيام بدراسات فنية وبيئية لازمة لإعداد ملفات طلبات العروض وإمضاء عقود الإنجاز.
أما المرحلة الثالثة، فكانت تتمثّل في تخصيص سنتين لإنجاز وحدة الإنتاج الأولى ودخولها حيّز الاستغلال بما يسمح بالتوقّف التدريجي عن سكب "الفوسفوجيبس" في البحر، على أن تليها سنتان لإنجاز وحدة الإنتاج الثانية ودخولها حيّز التشغيل، وهكذا دواليك حتى تنفيذ إيقاف كامل وحدات الإنتاج الملوِّثة وإيقاف سكب هذه المادة في البحر، على مدى خمس سنوات أخرى متتالية. لكن هذا المخطط لم يتجاوز الأوراق التي خُطّ عليها.
أسباب التحرّكات الاحتجاجية الأخيرة
من جهتها، تلفت الصحافية هندة رزق، في حديثها إلى رصيف22، إلى أنّ سبب اندلاع الاحتجاجات واشتعال الغضب المجتمعي، في الأسابيع الأخيرة، تحديداً منذ بداية أيلول/ سبتمبر 2025، قديم جديد، شارحةً: "السبب قديم قدم انبعاث مؤسسة المجمع الكيميائي في قابس، منذ قرابة 53 عاماً، حيث أقرّت كل الحكومات المتعاقبة بإشكالية التلوّث".
كما تضيف رزق، ابنة الجهة، أنّ الانبعاثات الغازية السامة التي تسببت في تسجيل أكثر من ستّ حالات اختناق جماعية في صفوف التلاميذ والمواطنين على حد سواء في شط السلام وغنوش التابعتين لولاية قابس أخيراً، مشدّدةً على أن هذا الوضع البيئي الصعب الذي تعيشه قابس منذ سنوات، يدفع القوابسية إلى الإصرار على تفكيك وحدات الإنتاج بالمجمع الكيميائي، ونقلها خارج ولاية قابس، فضلاً عن رفضهم مشروع "الهيدروجين الأخضر" لما له من انعكاسات سلبية على المائدة المائية المتضرّرة أًصلاً بسبب سكب "الفوسفوجيبس" في مياه البحر بشط السلام.
يؤكد الناشط البيئي، خير الدين دبيّة، لرصيف22: "لا مجال للحديث عن لجان أخرى ونقاشات أخرى. قرار تفكيك الوحدات المهترئة موجود ولا مبرّر لتأجيله"، متساءلاً: "ماذا تنتظر السلطة؟ الله أعلم"
وتتابع الصحافية التونسية بأن كل هذه الأسباب القديمة والجديدة، أجّجت الأوضاع في قابس وأحدثت تمسّكاً برفض "أي تسويف ومماطلات لا تؤدي إلى تنفيذ قرار تفكيك الوحدات"، مشيرةً إلى أن التحرّكات السلمية الأخيرة كانت أكثر لحمةً بين جميع مكوّنات المجتمع في الولاية لما أثارته في النفوس صور الأطفال المصابين بالاختناق نتيجة الانبعاثات الغازية، وتخوفات الأهالي من تكرار سيناريو مشابه لحادث انفجار ميناء بيروت، في الولاية.
تعامل السلطة وتصاعد الحراك الشعبي
تعاني قابس، حيث يجتمع البحر بواحات النخيل، من تلوّث بيئي خنق هواءها وشوّه جمال بحرها. وبرغم كل الشواهد التي تواترت في الأشهر الأخيرة عبر التقارير، والحوادث الجماعية، يبدو أنّ السلطة في تونس لا ترى ولا تقرأ، ولا تتفاعل إلا بمزيد من "الغاز" الذي قرّرت أن تواجه به المحتجين السلميين، الذين وصفهم المتحدث الرسمي باسم الإدارة العامة للحرس الوطني التونسي بـ"المخرّبين"، معترفاً عن غير قصد، بوجود مواد خطرة في المجمع إذ صرّح للقناة الوطنية بأنّ "وحدات الحرس الوطني تمكّنت، خلال الاحتجاجات التي شهدتها ولاية قابس، من حماية مقرّ المجمع الكيميائي وتأمين نحو 100 ألف طن من المواد الخطرة التي كان من الممكن أن تتسبّب في كارثة في حال تمكّنت المجموعات المخرّبة من اختراق المحتجين وتخريب مقرّ المجمع".
الرئيس التونسي قيس سعيد، بدوره، أكد في لقائه مع رئيس مجلس النواب إبراهيم بودربالة، ورئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم، عماد الدربالي، في 18 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، "متابعته المستمرّة للأحداث، مشدّداً على أنّ معالجتها لا يمكن أن تتمّ وفق مقاربات تقليدية وأنّ العمل جارِ بهدف إيجاد حلول عاجلة آنيّة للتلوّث".
تجاهل سعيد بذلك قرار عام 2017 -الذي يتمسّك به أهل قابس- بشكل تام، ما قد يعني أن تفكيك وحدات الإنتاج ونقلها خارج قابس ليسا من بين الحلول المحتملة لإنهاء الأزمة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هي المقاربات التي يتحدّث عنها الرئيس التونسي؟ ولماذا لا يعتمد مشروع قرار العام 2017؟ لكن الأجوبة ليست متاحةً في ظل ما تشهده تونس في هذه الولاية الثانية لسعيد من تعتيم على المعلومة، وقطيعة مع الإعلام.
قطيعة وصمت تسرّبا إلى مجلس نواب الشعب حيث رفضت رئيسة الحكومة الحالية، سارة الزعفراني، حضور جلسة برلمانية كانت مخصّصةً لمناقشة الأزمة في قابس، ورفضت إرسال من ينوب عنها، وفق ما كشفه النائب أحمد سعيداني.

في الأثناء، ووسط تصاعد الاحتجاجات وتمدّدها في قابس، فضلاً عن تضامن ولايات أخرى عدة في البلاد مع أهالي قابس، خاصةً بعد التعاطي الأمني العنيف الذي وصفه حقوقيون بـ"غير المبرّر" ضد الأهالي والشباب المحتجين سلمياً، أعلنت عمادة المحامين، في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، أنها قدّمت للقضاء ملفات تثبت تقصير إدارة المجمع الكيميائي في صيانة المعدات التي اهترأت. كما تبنّت العمادة الدفاع عن الموقوفين وعن حقهم في الاحتجاج السلمي.
ويتكرّر اتهام الحكومات التونسية المتعاقبة بتفضيل استمرار عمل المجمع الذي يوفّر 4 آلاف فرصة عمل في منطقة يعاني سكانها البطالة، وأنها اختارت التنمية الصناعية، والنمو الاقتصادي، على حساب صحة المواطنين وحقهم في بيئة سليمة وآمنة.

في هذا السياق، يؤكد الناشط البيئي، خير الدين دبيّة، لرصيف22: "لا مجال للحديث عن لجان أخرى ونقاشات أخرى. قرار تفكيك الوحدات المهترئة موجود ولا مبرّر لتأجيله"، متساءلاً: "ماذا تنتظر السلطة؟ الله أعلم".
جدير بالذكر أنّ الرئيس سعيد رأى أنّ حالات التسمم والاختناق سببها مشكلات في الصيانة، وأرسل فريقاً من وزارتَي الطاقة والبيئة بشكل عاجل إلى قابس لمعالجة هذه المشكلة، على الرغم من تشكيك خبراء في إمكانية تطهير الموقع.
الجميع يتساءل اليوم في تونس حول موقف السلطة من الأزمة المتفاقمة، ولا يجد إجابةً، ربما هذا ما حدا بالاتحاد التونسي العام للشغل إلى إصدار برقية إضراب عام، يوم غد الثلاثاء 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، للاحتجاج على ما سمّاه "تأزّم الوضع البيئي والصحي والإنساني"، وفق ما جاء في دعوته.
قضية "التلوّث البيئي" في قابس، والحراك الذي يقوده الآن شباب من "جيل زد" نجحا لأول مرة منذ فترة طويلة، في خلق حاضنة شعبية، ومدنية، وسياسية، وحتى رياضية، تتبناه وتدافع عن مطالبه بعد ركود في المشهد التونسي
حراك شعبي جهوي تمدّد ليتحوّل إلى قضية وطنية مسّت جميع الشرائح والقطاعات، وطرحت أسئلةً عدة عن أهمية المعالجات العصرية للقضايا البيئية التي تهدّد مناطق عدة في البلاد، ومدى جدية الدولة في التزامها بدستورية حق المواطن التونسي في العدالة البيئية والصحة.
وذهب ناشطون ومتابعون للأزمة إلى أنّ قضية "التلوّث البيئي" في قابس، والحراك الذي يقوده الآن شباب من "جيل زد" نجحا لأول مرة منذ فترة طويلة، في خلق حاضنة شعبية، ومدنية، وسياسية، وحتى رياضية، تتبناه وتدافع عن مطالبه، ما دفع بدماء جديدة في المشهد التونسي الذي يعيش ركوداً وحيرةً منذ قرابة أربع سنوات من فترة حكم الرئيس سعيد.
ويدعو النائب عن قابس، فوزي الدعاس، عبر رصيف22، إلى "إعلان قابس منطقةً منكوبةً بيئياً"، لإيجاد الحلول السياسية والتقنية القادرة على إنهاء أزمتها.
ويختم الدعاس بأنّ "قابس تحتاج إلى منوال تنمية، ورؤية اقتصادية جديدة بنقل الصناعات الملوّثة بعيداً عن التجمعات السكنية، بالإضافة إلى إحداث برنامج إنعاش شامل للواحة والبحر، وتعويض المتضرّرين، وخلق بدائل خضراء تضمن العيش الكريم للمواطنين".
أمنيات، ودعوات، وإصرار شعبي، يقابلها صمت وغياب، وغموض رسمي اعتاد تعويم مسائل حيوية، وتسويفها، وترقيع الحلول، كعين ذلك الشابّ الذي أعلنت السلطة "التكفّل بعلاجه"، بعد أن خسر عينه بسبب "قنبلة غاز مسيل للدموع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.