شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"كعكة النفايات" في تونس... لماذا تسدّ الحكومة "أنفها" عن الكارثة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في حيّ العطار، في منطقة سيدي حسين السيجومي، غير بعيد عن العاصمة التونسية، يختبر السكّان العيش وسط القمامة التي تنبعث منها الروائح المنفّرة القادمة من مكبّ "برج شاكير"، وهو المكبّ الأكبر في تونس، ويستقبل أكثر من 900 ألف طنّ سنوياً (بواقع نحو 3،000 طنّ يومياً)، من نفايات ولايات تونس وأريانة وبن عروس ومنوبة.

يُشبّه مصبّ "برج شاكير" إلى حدّ بعيد بقاعدة عسكرية مغلقة لا يمكن تخطّيها، وكأنّه يُخشى الكشف عن "وجهه المظلم". ويتردّد أهالي "حي العطار" في الحديث عن هذا "الجار الثقيل" الذي أُنشئ عام 1999، ويتهامسون في ما بينهم عن مركز جمع النفايات "المزعج" الذي قلب حياتهم رأساً على عقب.

حالة الإحباط والسأم تسود وجوه أهالي "حي العطار" مع استمرار عمل المكبّ المزعج، وبرغم صرخاتهم المتكرّرة لإغلاق المكبّ والتقارير الطبية والإعلامية عن مخاطره، تدير السلطة "الأذن الطرشاء".

"نحب نعيش"

مكب برج شاكير

على بعد أمتار قليلة من مكبّ النفايات، التقى رصيف22، بعدد من سكّان "حي العطار"، الذين أعربوا عن أملهم الوحيد والبسيط والذي لخصّه العديد منهم في عبارة "نحب نعيش". من هؤلاء، محمد الدريدي، الذي يطلّ بيته على مركز جمع النفايات "برج شاكير"، والذي يكشف لنا عن المعاناة طويلة الأمد لأهالي هذا الحي مع المصبّ المثير للجدل. يقول: "لم نجنِ منه سوى الأمراض"، مؤكداً أنه سبّب له ولعائلته أمراضاً تنفّسيةً حادّةً بسبب انبعاث الغازات السامّة من النفايات المتراكمة.

ويضيف الأربعيني التونسي، أنّ غالبية سكان الحي يعانون من أمراض تنفّسية حادة وبعضهم من أمراض سرطانية بسبب هذا المصبّ، لكنهم سئموا من البوح بهذه الحقيقة الموجعة، مؤكداً أنّ كثيرين منهم يستخدمون أدويةً لمعالجة الربو وضيق التنفّس.

ويلفت الدريدي، إلى أنّ ابنه "معتز"، البالغ من العمر 12 عاماً، هو أحد ضحايا هذا المكبّ إذ يعاني من الربو منذ ولادته، ما يجعله غير قادرٍ على اللعب أو ممارسة الرياضة بشكل طبيعي مثل بقية أقرانه، على حد قوله، مضيفاً: "أي جهد بدني يقوم به ابني يعرّضه للإجهاد والتعب". ويطالب الدريدي، الدولة التونسية، بإغلاق هذا المصبّ نهائياً من أجل "حياة صحية سليمة" كما ينصّ الفصل 47 من الدستور التونسي لعام 2022.

أحد العاملين في واحدة من الشركات الخاصّة المسؤولة عن دفن النفايات في مصبّ "برج شاكير"، ويفضّل عدم الكشف عن هويته طالباً الاكتفاء بذكر الأحرف الأولى من اسمه "ك. ع."، يقول، في حديث مقتضب إلى رصيف22، إنّ معظم سكّان "حي العطار" يعانون من أمراض تنفّسية، عادّاً أنه هو نفسه أحد ضحايا هذا المكبّ حيث يعاني من الحساسية التنفّسية ويستخدم علاجاً للتنفّس "بخاخ". وعلى الرغم من الأمراض المترتّبة على عمله هناك، إلا أنه يخشى فصله من العمل لعدم امتلاكه بديلاً آخر لسدّ احتياجات عائلته، على حد قوله.

أفادت ورقة بحثية بأنّ نشأة النشاطات البيئية المهتمّة بأزمة النفايات ارتبطت بانعدام ثقة المواطن بالدولة التونسية، وعدّه إياها "متهماً رئيسياً" في سوء الإدارة وانعدام الشفافية أمام الوضع الكارثي لإدارة النفايات في تونس، وغياب البدائل والخطط الآنية والعاجلة في إدارة هذا الملف. لذا نشأت حملتا "مانيش مصبّ" عام 2018، و"سكّر المصبّ" عام 2019

وفي لقاء مع رصيف22، تشرح الطبيبة المختصّة في الأمراض الصدرية والحساسية، درة بجار بن عمر، مخاطر التعرّض المستمر لروائح النفايات المنبعثة من المكبّات، سواء على العاملين فيها أو سكّان المنطقة المجاورة.

وتقول بن عمر، إنّ الروائح والغبار تحتوي على غازات سامّة، يؤدّي استنشاقها إلى مشكلات صحية منها التهاب القصبات الهوائية أو تعكّر حالة المرضى الذين يعانون بالفعل من أمراض تنفّسية.

تضيف الطبيبة التونسية، أنّ الأمراض التنفّسية الناتجة عن التلوّث مرتبطة بدورها بنوعية هذه النفايات، خاصةً بعد تحلّلها الذي يشكّل خطورةً على الجهاز الصدري والتنفّسي، كما أنّ حرق النفايات يحفّز ازدياد الأمراض الرئوية.

وخلال الحديث مع سكّان الحيّ، تحدّث عدد منهم عن ملاحظتهم زيادة الإصابة بالأمراض السرطانية ووفاة عدد من السكّان بها، معربين عن اعتقادهم بوجود علاقة بين هذه الإصابات والمكبّ. وعن إمكانية تسبّب التلوّث الناجم عن النفايات في الإصابة بالأمراض السرطانية، يوضح الطبيب غازي الجربي، الاختصاصي في جراحة الأورام ورئيس جمعية نوران للوقاية من الأمراض السرطانية، لرصيف22، أنّه لا يوجد دليل علمي يُثبت العلاقة المباشرة بين النفايات والأمراض السرطانية أو الجلدية، شارحاً أنّ منظّمة الصحة العالمية حدّدت خمسة أسباب للأمراض السرطانية في سرطانات جينية وأخرى فيروسية، فضلاً عن وجود مسبّبات تحفّز خطر الإصابة بمرض السرطان كالتدخين والكحول والسمنة.

في عام 2016، أطلقت الجمعية البيئية التونسية "آس أو آس"، إنذاراً عن الوضع البيئي في منطقة العطار وضواحيها، بعد إجراء تحاليل لنوعية الهواء والمياه والتربة في نقاط قريبة من مكبّ "برج شاكير"، أظهرت نسب تلوّث عالية بما في ذلك ارتفاع نسبة "كبريتيد الهيدروجين (H2S)، في الهواء مقارنةً بالمعايير الدولية والوطنية.

وكبريتيد الهيدروجين هو غاز عديم اللون، ذو رائحة نفّاذة كريهة، يدخل في صناعة أدوية معيّنة ويُستخدم في التحاليل الكيميائية، ويُسبّب التعرّض لنسب عالية من هذا الغاز الإصابة بالسعال، وضيق التنفّس، والدوار، والصداع.

النفايات وقود الاحتجاجات

خلف الأسوار العالية لمركز جمع النفايات "برج شاكير"، الذي يمتد على مساحة 124 هكتاراً (نحو 300 فدّان)، تخزّن فضلات تونس الكبرى، حيث يستقبل أكبر كميات من النفايات سنوياً، أكثر من 900 ألف طنّ، وفق تصريحات رسمية.

تتفاقم الخطورة في حالة "النفايات الخطرة"، والتي تُعرّف في اتفاقية بازل الدولية بكونها "المواد أو الأشياء التي يراد التخلص منها طبقاً للأنظمة والقوانين الوطنية والتي تحتاج إلى طرائق وأساليب خاصة للتعامل معها ومعالجتها حيث لا يمكن التخلص منها في مواقع طرح النفايات المنزلية وذلك بسبب خواصها الخطرة وتأثيراتها السلبية على البيئة والسلامة العامة".

وبحسب "الفصل 47" من الدستور التونسي، تضمن الدولة التونسية الحقّ في بيئة سليمة ومتوازنة، فتونس تنتج سنوياً 3.5 ملايين طنّ من النفايات سنوياً، توزّع على ما بين 11 و15 مكبّاً مراقباً قانونياً، بحسب إحصائيات رسمية.

تعتمد الدولة التونسية على سياسة "طمر النفايات". ووفقاً لتقرير الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات لعام 2018، فإنّ النفايات التي يتم طمرها تتألّف من المواد العضوية والبلاستيك ومخلّفات البناء ونفايات أخرى تحتوي على معادن ومكونات يمكن معالجتها وإعادة استخدامها.

ويمكن أن تتسبّب "مدافن النفايات"، في تلويث مياه الشرب إذا لم تُبنَ بالطرائق المناسبة، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، كما أنّ عملية "الترميد (حرق النفايات) غير المناسب أو ترميد مواد غير ملائمة يسفران عن إفراز ملوّثات في الهواء ومخلّفات الرماد".

كما يمكن أن يؤدي ترميد المعادن الثقيلة أو المواد التي تحتوي على معادن ثقيلة (ولا سيّما الرصاص والزئبق والكادميوم)، إلى انتشار معادن سامّة في البيئة تلوّث التربة، وتلوّث المصادر المائيّة السطحيّة والجوفيّة.

مؤخراً، أعلن مدير عام الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، بدر الدين الأسمر، تخلّي تونس عن استخدام تقنية "الردم الفني" (طمر النفايات بالمصبّات)، والذهاب باتجاه التدوير (التثمين)، ما يساعد على استخدام النفايات في مجالات عدة من بينها تقليص العجز الطاقي، وتنشيطها ضمن الدورة الاقتصادية، الأمر الذي من شأنه أن يقلّص من حجم النفايات المخزّنة في المكبّات المراقبة.

وفي السنوات الماضية، تحوّل ملف النفايات إلى ملف مشتعل أمام الحكومات التونسية المتعاقبة، التي بقيت عاجزةً عن توفير خطط بديلة وناجعة تنهي كابوس النفايات الذي بات يهدد صحة التونسيين.

"مانيش مصبّ" (لست مكبّاً)، و"سكّر المصبّ" (أغلق المكبّ)... لا يمكن الحديث عن أزمة النفايات في تونس، دون العودة إلى أبرز التحرّكات الاحتجاجية التي أجّجتها النفايات خصوصاً في منطقة سيدي حسين، حيث يقع مكبّ "برج شاكير"، ومدينة عقارب في محافظة صفاقس جنوب شرقي تونس حيث "مكبّ القنة".

وشهدت هذه المناطق حالة احتقان واسعة النطاق ومواجهات مع الأمن التونسي على خلفية مطالبة الأهالي بإغلاق مكبات النفايات المتسببة في "القتل البطيء" في حقهم، ليكسروا حاجز الصمت بملف التلوّث الناجم عن النفايات.

انتكاسة للحريات

أحد ناشطي حملة "سكّر المصب"، وفضّل عدم الكشف عن هويته نظراً إلى التضييق الذي يواجهه الناشطون في تونس أخيراً، مفضّلاً الاكتفاء بالحروف الأولى من اسمه "س. س."، يقول لرصيف22، إنّ السلطات التونسية أخلّت بوعودها بإغلاق مكبّ "برج شاكير" بسبب ما أسماه "غياب الرؤية المتكاملة لإدارة النفايات". ويضيف الناشط: "السلطة فضّلت الحلول الوقتية على حساب صحّة سكّان حي العطار وسيدي حسين والمناطق المجاورة للمكبّ، وجميعهم متضرر من الغازات السامة مثل الميثان والعصارة الملوثة التي تتسرّب إلى المياه الجوفية، وهو ما يعرّض سكّان هذه المناطق لأمراض تنفّسية حادّة".

ويضيف أنّ مكبّ "برج شاكير" لا يهدّد الصحة العامة فحسب، وإنما ينال من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذ يدمّر القدرة على استغلال الأراضي الزراعية للعيش، ويُضعف فرص الحياة الكريمة.

ويلفت الناشط التونسي، في الوقت عينه، إلى أنه على الرغم من التحذيرات بشأن المخاطر المتصاعدة من استمرار عمل مكبّ "برج شاكير"، فإنّ السلطات تتجاهل الأصوات المطالبة بإغلاق المكبّ، مفسّراً ذلك بغياب بنية تحتية بديلة لمعالجة 3،500 طنّ من النفايات، وتأخّر السلطات في تطبيق تقنيات معالجة الغازات أو إعادة تدوير النفايات.

عن تعثّر حراك "سكّر المصبّ" في تحقيق أهدافه المتمثّلة في إغلاق المكبّ بشكل نهائي، يشرح "س. س." كيف أنّ المناخ السياسي المشحون في تونس عطّل نضالهم من أجل عدالة بيئية.

وعن تعثّر حراك "سكّر المصبّ" في تحقيق أهدافه المتمثّلة في إغلاق المكبّ بشكل نهائي، يشرح "س. س." كيف أنّ المناخ السياسي المشحون في تونس عطّل نضالهم من أجل عدالة بيئية، موضحاً أنّ المناخ السياسي بعد العام 2021، أنتج تضييقات أمنيةً، حيث واجه حراك "سكّر المصبّ" قمعاً منهجياً، ما أدّى إلى تكميم أصواتهم وقلّص من قدرتهم على حرّية التعبير. جدير بالذكر أنّ القائمين على الحملة تراجع نشاطهم بشكل ملحوظ منذ عام 2021، وباتوا يخفون هويتهم خشية الملاحقة الأمنية بموجب المرسوم 54.

ويتّهم "س .س." المرسوم 54، بقمع النشاط الجمعياتي والمدني، وهو ما حدّ من توعية الرأي العام بالمخاطر الكبيرة لمكبّ النفايات الأكبر في تونس، وهو ما شكّل حاجزاً أمام تلبية مطالبهم البيئية. "العدالة البيئية تتطلّب بيئةً سياسيةً تكفل الحق في التنظيم والعيش الكريم، لا نظاماً يُكمّم الأفواه ويعيق التغيير"، يختم الناشط البيئي.

الحراكات البيئية الاجتماعية تتصاعد

ولم يعد خافياً أنّ السلطات التونسية تواجه راهناً تصاعد نسق الحراك البيئي على الرغم من أنّ نسق التحركات البيئية خلال عام 2024، شهد تراجعاً مقارنةً بعام 2023، حيث سُجّل 427 تحرّكاً بيئيّاً حتّى نهاية العام، مقابل 463 تحركاً في سنة 2023، بحسب ما ورد في تقرير الحركات البيئية الذي أصدره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية FTDES، وهو منظمة حقوقية مستقلّة.

هذه التحرّكات الاحتجاجية الرافضة لتركيز المصبّات بالقرب من الفئات الاجتماعية الهشّة، لم تفلح السلطات التونسية في احتوائها، بل اعتمدت مقاربةً أمنيةً وقضائيةً لمواجهة هذه الحركات الاجتماعية البيئية.

وفي ورقة بحثية أعدّتها الأستاذة في جامعة منوبة في تونس، مهى بوهلال، عن الحراك البيئي ضد مشكلة النفايات في تونس بعنوان "الحراك البيئي ضد مشكلة النفايات بتونس"، لفائدة مؤسسة "مبادرة الإصلاح العربي"، وهي شبكة مستقلّة من مراكز ومعاهد عربية وأوروبية وأمريكية، ورد أنّ نشأة النشاطات البيئية المهتمة بأزمة النفايات مرتبطة بانعدام ثقة المواطن بالدولة التونسية وعدّها "متهماً رئيسياً" بسوء الإدارة وانعدام الشفافية أمام الوضع الكارثي لإدارة النفايات في تونس، وغياب البدائل والخطط الآنية والعاجلة في إدارة هذا الملف، وفي هذا السياق نشأت حملتا "مانيش مصبّ" عام 2018، و"سكّر المصبّ" عام 2019، في كل من صفاقس و"برج شاكير".

"ملف النفايات"... أكثر من فساد؟

في عام 2019، صرّح وزير البيئة التونسية مختار الهمامي، بأنّ مصبّ "برج شاكير" سيُغلق في غضون عامين، أي بحلول عام 2021، وهو ما لم يتم فعلاً. ويُرجع الخبير البيئي منير حسين، عضو منتدى FTDES، في تصريحاته لرصيف22، الوعود الحكومية التي أُطلقت إلى الضغط الاجتماعي الشعبي بفضل حراك "مانيش مصب" و"سكر المصب"، بدفع من مناخ سياسي متحّرك قبل 2021.

ويعتقد حسين، أنّ السلطة في تونس لا تملك بديلاً آخر لإغلاق هذا المكب، بحجة افتقارها إلى أيّ خطة أو إستراتيجية واضحة المعالم في إدارة النفايات، مضيفاً: "يطرحون حلولاً مستوردةً من الخارج لا تتلاءم مع الواقع التونسي، ما يجعل من عملية إغلاق مكبّ برج شاكير الذي يستقبل آلاف الأطنان من النفايات يومياً أمراً صعب حدوثه راهناً".

ويقرّ الخبير البيئي، في حديثه، بأنّ فشل تونس في إدارة ملف النفايات يرجع بالأساس إلى وجود "لوبيات" لها مصالح قوية جداً في استمرار عملية طمر ودفن النفايات، مذكِّراً بحادثة "نفايات إيطاليا" وسط تحكّم شركات خاصة في مكبات النفايات التي تدرّ عليها أموالاً ضخمةً من هذه العملية.

وفق الخبير البيئي التونسي حمدي شعبان، "بعض الشركات الخاصة المستغلّة للمصبّات لديها علاقة نفوذ مع مسؤولين في الدولة، ما يمنع أيّ قرارات جدّية بإغلاق مراكز جمع النفايات المجاورة للأحياء السكنية، خاصةً أنها أصبحت مصدر ربح لبعض الأطراف، ما يجعل استمرار هذه الأزمة مفيدة لهم على حساب المصلحة العامة"

ويستطرد حسين، قائلاً: "مثل هذه القرارات والخطط، في ما يخص التصرّف في النفايات ليست بالجديدة، فمثل هذه التصريحات والقرارات نسمعها منذ أكثر من عقد. لكن إلى اليوم لم تتضح الملامح الكبرى للإستراتيجية الوطنية لتطبيقها أو كيفية التخلّي عن تقنية الطمر نهائياً وإزالة كل الملوِّثات بكل أجزائها في كامل البلاد".

وبخصوص تنفيذ قرار إلغاء العمل بتقنية "طمر النفايات" والتوجّه نحو إعادة تدويرها، يستبعد حسين، تنفيذه على المدى القريب، مبرّراً هذا الأمر بغياب خطة حكومية جاهزة، والتي تتطلّب دراسات تقنيةً تغطّي جميع النفايات في مختلف مناطق البلاد، مشيراً إلى أنّ مثل هذه الخطط تتطلّب جهوداً واسعةً على المستوى التقني ومزيداً من حملات التوعية وتوفير الموارد الضرورية لتحقيق عملية الانتقال في إدارة النفايات بتونس.

وفي سياق متّصل، يرى الخبير البيئي حمدي شبعان، المختصّ في تثمين النفايات، في تصريحاته لرصيف22، أنّ الحركات الاحتجاجية البيئية تزايدت في السنوات الأخيرة، وطالت مدناً بكل من محافظة تونس الكبرى وصفاقس، طالب أصحابها بإغلاق مراكز جمع النفايات المجاورة للأحياء السكنية، والتي تسبّبت في العديد من المشكلات البيئيّة والصحيّة لسكّان هذه المناطق.

ويشير شعبان: "بعض الشركات الخاصة المستغلّة لهذه المصبّات لديها علاقة نفوذ مع مسؤولين في الدولة، ما يمنع أي قرارات جدّية بإغلاق مراكز جمع النفايات المجاورة للأحياء السكنية، خاصةً أنها أصبحت مصدر ربح لبعض الأطراف، ما يجعل استمرار هذه الأزمة مفيداً لهم على حساب المصلحة العامة".

وحول وعود الدولة التونسية التي أعلنتها بشأن إغلاق "مصبّات النفايات"، التي أصبحت عبئاً بيئياً وصحياً على سكّان هذه المناطق، يؤكد شعبان، أنّ "البيروقراطية والقرارات غير المدروسة، تقفان وراء عدم تنفيذ هذه الوعود".

ويردف قائلاً إنّ "الحكومات التونسية تتخذ قرارات إغلاق المكبّات تحت ضغط احتجاجات اجتماعية، لكنها في الواقع لا تملك خططاً واضحةً لتنفيذ هذه القرارات، بما يؤدّي إلى بقاء هذه القرارات 'حبراً على ورق'".

أزمة النفايات في "أدراج القصبة"

ويقول شبعان، إنّ الدولة التونسية وضعت العديد من المخططات لمعالجة ملف النفايات، مذكِّراً بالخطط التي سبق أن أُعلن عنها في سنوات 2015 و2019 و2016 و2022، ومنها إعادة تدوير النفايات، لكنها لم تُنفّذ بسبب سوء الإدارة والفساد، على حدّ وصفه.

التصرف في النفايات في تونس

التصرف في النفايات في تونس

ويضيف أنّ "المسؤولين الذين أشرفوا على الخطط السابقة، هم أنفسهم من يعدّون هذه الخطط الجديدة، وتالياً لا يمكن توقّع نتائج مختلفة، وإن توفّرت التمويلات الدولية فإنّ غالبيتها ستُهدر بسبب سوء التخطيط وغياب الرقابة".

ويستبعد الخبير البيئي، تطبيق الخطة الوطنية الجديدة للحدّ من النفايات، كونها تكراراً لخطط سابقة، وقد بقيت مجرد وعود وخطط في "أدراج القصبة" (مقرّ الحكومة التونسية). وبرأيه، لا يمكن حلّ أزمة النفايات في تونس ما لم يقع تغيير المسؤولين الحاليين ووضع إستراتيجية جديدة واضحة الملامح بإدارة شفافة وكفاءة عالية.

"في تونس تتم إعادة الفشل بإدارة فشل جديد"، عن طريق البحث عن إستراتيجيات فاشلة في نظرية "الحصان الميت"؛ هكذا ينظر شعبان إلى أزمة النفايات في البلاد التونسية، ويستطرد قائلاً: "يمكن إسقاط هذه النظرية على ملف النفايات في تونس التي تكررت عبر هذه السنوات دون تحقيق أي نتائج تُذكر، فالدولة تتبنّى إستراتيجيات معطلةً وتتعاطى مع المخطط القديم، ما يحفّز نظرية الحصان الميت بدل النزول عنه"، على حد تعبيره.

ويبيّن شبعان، أيضاً، أنه إذا استمرت الدولة التونسية في تبنّي الخطط والآليات نفسها لمعالجة النفايات، فإنّ مشروع "صفر نفايات" الذي أطلقته وزارة البيئة التونسية، في كانون الثاني/ يناير 2025، سيبقى مجرد شعار مرفوع فحسب، مؤكداً أنه لا يمكن تطبيق هذا المشروع حالياً بسبب سوء الإدارة والفساد وعدم الجدية في التنفيذ.

كعكة "اللوبيات"

وفي قراءة متصلة لأزمة النفايات المستمرّة في تونس، يقول الخبير البيئي مهدي العبدلي، لرصيف22، إنّ أزمة النفايات تُعدّ من أبرز التحديات البيئية التي تواجه تونس، ولهذا أطلقت وزارة البيئة التونسية خططاً عدة منذ سنوات بهدف الحد من النفايات ومعالجتها.

ويذكر العبدلي، أنّ خطوة خروج تونس من منظومة "طمر النفايات"، خطوة متأخرة نسبياً مقارنةً مع تجارب المغرب (الذي أطلق البرنامج الوطني لإدارة النفايات وتثمينها والحدّ من دفنها في عام 2023)، ومصر (حيث وضعت الدولة المصرية تشريعاً لدعم مجال إدارة النفايات من بينها القانون 202 لسنة 2020 الخاص بتنظيم المخلّفات ولائحته التنفيذية الصادرة عام 2022)، في هذا المجال، حيث أنهى البلدان العمل بهذه الآلية منذ أعوام مع توجّههما إلى عملية إعادة تدوير النفايات.

ويعزو الخبير البيئي، عدم تحقيق الإستراتيجيات الحكومية أهدافها إلى تغيّر الأولويات الحكومية وعدم الاستقرار السياسي في البلاد الذي بدوره يؤثر سلباً على استمرارية تنفيذ السياسات البيئية. كما لم يغفل الحديث عن ضعف التمويل والاستثمار في مشاريع التدوير، وأيضاً نقص الوعي المجتمعي والتفاعل المحدود من قبل التونسيين والقطاع الخاص، وبنظره فإنّ جميع هذه المؤشِّرات تحدّ من نجاعة أي إستراتيجية لمعالجة أزمة النفايات في تونس.

وفي السياق نفسه، يضيف محدّث رصيف22، أنّ إستراتيجية "الحدّ من النفايات وتثمينها" ليست بالإستراتيجية الجديدة، بل هي خطة طرحتها حكومات تونس المتعاقبة منذ سنوات، ولم تنفَّذ إلى يومنا هذا، خاصةً مع سيطرة من سمّاهم "سماسرة قطاع النفايات" في تونس، من خلال بسط يدهم الطولى على عقود الصفقات العمومية (الحكومية)، الخاصة بنقل النفايات ومعالجتها.

ويتابع: "الاعتراف الدستوري بالحق في بيئة سليمة لم يُترجَم على أرض الواقع، إذ تبقى الجهود المبذولة في هذا المجال مشتتةً وتفتقر إلى التخطيط الإستراتيجي".

كما يشير إلى أنّ "الحديث عن الحقّ في بيئة سليمة قد يبدو، في بيئة ما، في بعض الأحيان، مجرد تبرير للوضع القائم، في حين أغلب المؤشرات تظهر استمرار التلوث وغياب إرادة حقيقية لإحداث تغيير جذري في السياسات البيئية في البلاد التونسية".

لماذا فشلت تونس في إدارة أزمة النفايات؟

الخبير في المركز الدولي للتنمية المحلية والحكم الرشيد، وليم المرداسي، يقول لرصيف22، إنّ الدولة اختارت طريق إعادة تدوير النفايات ومعالجتها، وبرأيه فإنّ المشكلة الرئيسية في ملف النفايات في تونس هي عدم وجود هيكل واحد مختص بإدارة النفايات، وهو ما عطّل مشاريع عدة في هذا المجال، وكان عثرةً في طريق تقدمهما.

وبشأن تحوّل القضايا البيئية بعد ثورة 2011، إلى قضايا رأي عام في تونس في ظل تصاعد الحراك البيئي ضد النفايات، يرى المرداسي، أنّ الملف البيئي شهد تعقيدات بعد 2011، مع ظهور "سماسرة النفايات"، ما ساهم في تأزّم الملف.

من جانبه، يلفت الخبير البيئي حمدي حشاد، في حديثه إلى رصيف22، إلى أنّ فشل تونس في سياسة إدارة النفايات طوال السنوات الماضية، يرجع بالأساس إلى التعطيلات الإدارية والتقنية وعدم توفّر رغبة سياسية لحلّ هذه الأزمة من جذورها.

كما ينبّه إلى أهمية لجوء السلطات التونسية إلى إعادة التدوير كخطة لحلّ جزء مهم من ملف النفايات في تونس، وفتح هذا الباب أمام المستثمرين من القطاع الخاص ستكون له تداعيات إيجابية على حلّ أزمة النفايات هناك.

النفايات والسلطة... من بن علي إلى ما بعد الثورة

يتنازع المسؤولون في تونس على قضم نصيبهم من "كعكة النفايات" على مدار عقود، ففضائح الفساد في هذا القطاع هزّت جدران السلطة، منذ نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وحتى حكومات ما بعد ثورة 2011.

يفضح تحقيق استقصائي، لموقع "نواة"، عن مكبّ "برج شاكير"، عمليات الفساد في إدارة أكبر مكبّ نفايات تديره الدولة، حيث كشف التحقيق عملية التلاعب في المناقصات المتعلّقة بإدارة عمل الشركات المسؤولة عن جمع ونقل وإعادة تدوير النفايات المنزلية والصناعيّة في مكبّ "برج شاكير"، منذ عام 2009، بالاستفادة من "علاقات شخصية" مع الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي.

أزمة النفايات في تونس لا تزال تراوح مكانها، ولا يزال قطاع النفايات يُسيل لعاب السياسيين والمسؤولين المتنفذين في السلطة، من عهد الرئيس زين العابدين بن علي إلى عهد الرئيس الحالي قيس سعيّد، فـ"كعكة القمامة" يتقاسمها الفساد والإهمال، في حين بقيت سلامة التونسيين وصحتهم فاتورةً مؤجّلة الدفع

وتقدّمت اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد، في 9 آذار/ مارس 2011، بشكوى ضد شركة "بيزورنو"، لدى المدعي العام في تونس، لنيلها امتياز التصرّف في مكبّ النفايات بشكل غير قانوني.

من التحقيق في فضيحة النفايات

بعد الثورة، ربما كانت فضيحة ما يُعرف إعلامياً بـ"الفخفاخ غيت"، التي طاردت رئيس الحكومة التونسية السابق إلياس الفخفاخ، الأكثر ثقلاً على المشهد السياسي، خاصةً مع دخول شركة مختصة في المجال البيئي يمتلك الفخفاخ جزءاً من رأس مالها، إلى سوق استغلال وحدات معالجة النفايات المنزلية، حيث طالته تهمة "استغلال منصبه" لتحقيق مصالح شخصية.

إجمالاً، أزمة النفايات في تونس لا تزال تراوح مكانها، ولا يزال قطاع النفايات يُسيل لعاب السياسيين والمسؤولين المتنفذين في السلطة، من عهد الرئيس الأسبق بن علي (1987-2011)، إلى عهد الرئيس الحالي قيس سعيّد، فكعكة القمامة يتقاسمها الفساد والإهمال، في حين تبقى سلامة التونسيين وصحتهم، فاتورةً مؤجّلة الدفع.

*في إطار إعداد هذا التقرير، حاول رصيف22، الحصول على تعليق كل من وزير البيئة التونسية حبيب عبيد، ومدير الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات بدر الدين الأسمر، للردّ على الانتقادات الموجهة إليهما بالتقصير في إدارة ملف النفايات والاطلاع على الخطة الحكومية لمعالجة هذا الملف، لكن لم نحصل على ردّ حتى نشر هذه السطور.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image