البيجاما والمواطنة

البيجاما والمواطنة

مدونة نحن والتنوّع نحن والمهاجرون العرب

الاثنين 20 أكتوبر 20256 دقائق للقراءة

نعيش نحن اللاجئين حياةً مليئةً بالتناقضات. أفتح وسائل التواصل وأستمع إلى الأخبار وأتحدث إلى الأصدقاء لأعرف أحوال الدنيا في بلادنا، حيث إنّ مصدراً واحداً للأخبار لا يُعوَّل عليه ولا يستطيع أن يعطينا صورةً قريبةً من الحقيقة، لذا أحاول يومياً تجميع قطع الأحجية "البازل" لتكوين الصورة.

وأنا أجمع هذه القطع، أعيش حياتي اليومية في بلد آخر، أندمج فيه ومع همومه وقضاياه أيضاً، فهو بيتي الجديد وبلدي الجديد. 

بلداني العدّة!

قد أكون محظوظةً إذ أملك بلداناً كثيرةً أعدّها أوطاني، لكنها إلى الآن لم تمنحني حقوقي الكاملة ولم تمنحني الراحة المطلوبة. أعي هذا أكثر وأكثر في كل مرة أتحدث فيها مع زملائي في العمل عن حياتهم وهمومهم، فلا أستطيع المشاركة بفعالية في أحاديثهم لأنها لا تعني لي شيئاً.

منذ عام 2011، أصبح الشأن العام أهم من تفاصيل الحياة اليومية. صار الحديث عن مسلسل أو فيلم أو مدينة زرتها حديثاً غير مهم وسط سيل الموت والخوف والقهر المستمر.

ولهذا أفضّل الحديث معهم عن العمل وعن التربية والتعليم، وعمّا أسمعه وأراه من الأهالي ومن مديري المدارس الذين ألتقي بهم دورياً في عملي، ومن الشباب الجامعيين الذين يبذلون جهوداً تطوعيةً ليشعروا بأنهم جزء من هذا البلد. 

قد أكون محظوظةً إذ أملك بلداناً كثيرةً أعدّها أوطاني، لكنها إلى الآن لم تمنحني حقوقي الكاملة ولم تمنحني الراحة المطلوبة. أعي هذا أكثر وأكثر في كل مرة أتحدث فيها مع زملائي في العمل عن حياتهم وهمومهم، فلا أستطيع المشاركة بفعالية في أحاديثهم لأنها لا تعني لي شيئاً

هنا أجد رابطاً بيني وبين مجتمعي الجديد. فعملي مع الأطفال والأسر في فرنسا يقودني إلى تفاصيل دقيقة: أزور البيوت وأجلس مع الصغار وأصغي إلى اهتماماتهم وصعوباتهم. 

ألتقي أيضاً بطلاب جامعيين متطوعين يمنحون من وقتهم لدعم هؤلاء الأطفال الأقل حظاً. في هذا التلاقي تنشأ أحياناً علاقات إنسانية عميقة قد تغيّر مسار حياة طفل، وأحياناً أخرى يفشل الطرفان في بناء صلة حقيقية وتنتهي التجربة دون أثر يُذكر. 

هذه السنة تعرفت على انتخابات مندوبي الصف. هنا يبدأ الأطفال منذ سنّ الثامنة في التعرّف على معنى المواطنة؛ يضحكون ويلعبون ويتعلمون كيف يصوّتون ويقنعون الآخرين ببرامجهم.

البرامج الانتخابية للأطفال... سنرقص كل يوم

إحدى التلميذات ذات الثمانية أعوام، أخبرتني بفخر أنها انتُخبت مندوبة صفها. سألتها عن برنامجها الانتخابي وكيف أقنعت زملاءها، فأجابت ببساطة وهدوء: اقترحت يوماً في الشهر نأتي فيه بالبيجامات إلى المدرسة، وأردت أن نغنّي معاً في نهاية كل أسبوع أغنيةً نحبها. وأيضاً كي لا أنسى: أن ننظف الصف والممر مرتين في الأسبوع.

في انتخابات مندوبي الصف في المدارس الفرنسية. يبدأ الأطفال منذ الثامنة في التعرّف على معنى المواطنة؛ مقابل "عريف الصف" في بلادنا.


كانت هذه أفكارها البسيطة، لكنها كانت كافيةً لتقنع 12 تلميذاً وتلميذةً من أصل 25 بأن يمنحوها أصواتهم، فيما حصلت منافستها على 7 أصوات، ولم يحصل مرشح آخر على أي صوت. كان شعارها الانتخابي: "انتخبوني وسنغنّي كل يوم". على مدار أسبوع كامل، كانت تقترب من زملائها وتقنعهم ببرنامجها حتى نجحت.

وحين سألتها: هل بالفعل ذهبتم إلى المدرسة بالبيجامات؟ أجابت بتأفف: كلا، إنّ مهمتي أن أتناقش مع المعلمة ولاحقاً مع الإدارة وأقنعهم بهذا المطلب. إذاً، لا يزال الطريق طويلاً قليلاً للحصول على ما يريده هؤلاء الأطفال.

عندما زرت المدرسة لاحقاً، وجدت صور الأطفال المرشحين معلّقةً مع شعاراتهم. بعض هذه الشعارات كُتب بمساعدة الكبار، وبعضها ظل عفوياً وطفولياً: "انتخبوني لنأكل شوكولاتة كل يوم"، أو "لنلغي الواجبات يوم الجمعة".

في المقابل، وبينما كنت أستمتع بهذا المشهد عن تعلم المواطنة، شاهدت على وسائل التواصل فيديوهات عما يسمى "الشرطة المدرسية"، يظهر فيها تلاميذ ينصبون كمائن لزملائهم ويعاقبونهم لأنهم لم يلتزموا بقوانين المدرسة. 

قد يبدو الأمر للوهلة الأولى تدريباً على احترام النظام، لكنه في العمق يزرع فكرةً خطيرةً: التلميذ يمكن أن يصبح "مخبراً" على زملائه.

وهنا عاد بي المشهد إلى طفولتي في سوريا في الثمانينيات، حيث كان هناك من يسمّى "عرّيف الصف" الذي يكتب أسماء المشاغبين على السبّورة في غياب المعلمة. 

عريف الصف الذي كبر معنا

وفي المدارس الإعدادية، كانت هناك لجنة انضباط يرتدي أعضاؤها شارات ويطاردون زملاءهم غير المنضبطين. تربّينا على أنّ جزءاً من الأطفال يخرّب، والآخر يلاحقه، وهناك أطفال لا يفعلون شيئاً؛ وجودهم أو غيابهم لا تتم ملاحظتهما، كما في لعبة "شرطة وحرامية".

لم يكن الأمر يعني أن الشرطة صالحة أو أن الحرامي حرامي، بل مجرد تقسيم للجميع ليجعل الكل خائفاً من الكل. كبرنا وبعضنا يحمل في داخله هذا الشرطي الصغير، والآخر هذا الحرامي الذي يهرب من كل شيء، وآخرون يحاولون النجاة بأنفسهم من "الشرطة والحرامية" إلى درجة أنهم يصبحون غير مرئيين.

نتحدث الآن عن انتخابات ومجالس تمثيلية، لكننا لم نتعلم بعد أبجديات المواطنة في تفاصيل بسيطة. فالبرنامج الانتخابي ليس خطابات منمّقةً ولا شعارات فارغة، بل قد يكون مطلباً صغيراً مثل السماح للتلاميذ بالذهاب إلى المدرسة بالبيجامات، أو أن تتحسّن التغذية ببناء مطعم مدرسي يقدّم طعاماً صحياً

وعندما جاءت الثورة، تحوّل عدد ممن كانوا يلعبون دور الحرامية وممن كانوا يلعبون دور الشرطة إلى ثوّار، وظلّوا كذلك. نراهم الآن في كلمات مثل: "أين كنتم؟"، أو في عبارات تتحدث عن الحكم بالقوة، وحتى عن الرغبة في المحاصصة والمقاسمة للحصول على مناصب أو منح. 

هذا لا يعني أنهم مواطنون غير صالحين، لكنهم لم يكبروا ليصبحوا مواطنين؛ فقد تعلّموا أنّ الخيارات محدودة: إما شرطة أو حرامية. لم يعرفوا معنى العودة إلى الشعب والجماهير ومحاولة إقناعهم بالبرامج والطلبات. لم يتعلموا ذلك ولم يختبروه.

نتحدث الآن عن انتخابات ومجالس تمثيلية، لكننا لم نتعلم بعد أبجديات المواطنة في تفاصيل بسيطة. فالبرنامج الانتخابي ليس خطابات منمّقةً ولا شعارات فارغة، بل قد يكون مطلباً صغيراً مثل السماح للتلاميذ بالذهاب إلى المدرسة بالبيجامات، أو أن تبث الإذاعة المدرسية أغاني يحبها الأطفال، أو أن تتحسّن التغذية ببناء مطعم مدرسي يقدّم طعاماً صحياً. 

هذه المطالب البسيطة هي ما يصنع مواطناً يعرف كيف يعبّر عن حاجاته ويشارك جماعته، بدلاً من أن يظلّ أسير لعبة "شرطة وحرامية".

المواطنة ليست طاعةً عمياء ولا تجسساً متبادلاً. إنها شعور الإنسان بأنه جزء من جماعة، له صوت ورأي، وعليه أيضاً واجب تجاه مدرسته وبلده. 

تجربة الانتخابات الصفّية البسيطة في فرنسا تُظهر كيف يمكن لأغنية أو يوم بالبيجامات أن يتحول إلى تمرين عميق على الديمقراطية والانتماء. إذا لم نربِّ أبناءنا على هذه القيم، فلن تنتج صناديق الاقتراع إلا ما تعودنا عليه: "شرطة وحرامية" بأزياء جديدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image