ما بين الباذنجان والفنجان… كيف حفظت النكهات ذاكرة الشرق المشتركة؟

ما بين الباذنجان والفنجان… كيف حفظت النكهات ذاكرة الشرق المشتركة؟

ثقافة نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الأربعاء 22 أكتوبر 20259 دقائق للقراءة

تتجاوز القهوة، والأركيلة (الشيشة)، والباذنجان، مجرد الطعم والمذاق لتصبح لغة تاريخية مشتركة، تشكّل جسراً متيناً يربط بين ثقافتين غنيتين في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط الشرقي. إنها أصوات قديمة يمكن سماع صداها في الأزقة الضيقة، والمقاهي المزدحمة، وعلى موائد الأسر.

رائحة التبغ المعطر والمأكولات الملونة التي تُزيَّن بأطعمة بسيطة لكنها أصيلة، تشير إلى جذور ثقافية عميقة تربط بين تركيا والعالم العربي. هذه العناصر ليست جزءاً من الحياة اليومية فحسب، بل تحولت عبر التاريخ إلى رموز للضيافة والحوار والتعايش؛ رموز ما زالت حية في الشوارع والأسواق على جانبي البحر الأبيض المتوسط الشرقي.


اليوم أيضاً، يمكن ملاحظة آثار هذا الإرث المشترك في تفاصيل الحياة الحضرية؛ من مقاهي إسطنبول إلى مقاهي بيروت والقاهرة، ومن التجمعات الأسرية في غزة إلى الحفلات الودية في أنقرة. تظل القهوة والشيشة سبباً للتجمع، تماماً كما يلعب الباذنجان، في عشرات الوصفات المشتركة، دورَ الرابط على المائدة. هذه التشابهات تذكرنا بأن الثقافات تتحدث قبل كل شيء عبر الحدود، وأن تاريخ التفاعل والتعايش له لغة حية أكثر من أي معاهدة سياسية.

يمكن اعتبار القهوة، الشيشة والباذنجان رموزاً رئيسية لهذا التراث المشترك بثقة وتأكيد. وعلى الرغم من الفروقات البسيطة في طرائق التحضير والطهي والتقديم، فإن شغف الناس بهذه الأطعمة والنكهات يظهر كيف أثرت الطرق التاريخية والتجارة والتفاعل البشري في أساليب الحياة والأذواق الإقليمية.

من اليمن إلى مصر

القهوة، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية في معظم دول المنطقة، انتشرت لأول مرة في القرن الخامس عشر الميلادي في شبه الجزيرة العربية، خصوصاً في مكة والمدينة. كان الحجاج يجربون هذا المشروب ويأخذونه معهم إلى بلادهم. في نفس الوقت، أصبحت اليمن مركزاً رئيسياً لزراعة وتجارة القهوة. بحلول منتصف القرن السادس عشر، عندما أدرج العثمانيون اليمن ضمن إمبراطوريتهم، وصلت القهوة مع تجارة التوابل والبضائع الأخرى إلى إسطنبول. يُقال إن أوزدمير باشا، والي اليمن، كان أول من قدّم القهوة إلى بلاط السلطان سليمان القانوني.

القهوة ليست مجرد مشروب، بل جسر يمتد عبر الأزمنة والحدود، يربط بين الأرواح في المقاهي والأسواق والمنازل، ليصبح طقساً يومياً للقاء والحوار

في ذلك الوقت، وصل اثنان من التجار السوريين من حلب، هما حاكم وشمس، إلى إسطنبول، وافتتحا أول مقهى في حي طاحتاكاله. وسرعان ما لاقت المقاهي إقبالاً واسعاً، وأصبحت ملتقى للشعراء والعلماء والتجار وحتى العامة، حيث كانت تُقرأ الأشعار وتُروى الحكايات وتُعزف الموسيقى وتُلعب ألعاب مثل الطاولة والشطرنج. ومع تزايد شعبية المقاهي كمراكز للنقاش الأدبي والسياسي، شعرت الدولة بالقلق، وأصدر بعض السلاطين العثمانيين مثل سليم الثاني ومُراد الثالث حظراً على شرب القهوة والجلوس في المقاهي. خلال عهد السلطان مُراد الرابع، كانت العقوبات صارمة لدرجة أن شرب القهوة قد يعاقب عليه بالإعدام.

وعلى الرغم من كل هذه الحظر، كان عشق الناس للقهوة قوياً لدرجة أن أي فرمان لم يستطع إيقاف انتشارها. أصبحت القهوة جزءاً من طقوس الحياة اليومية، في الاحتفالات والزيارات وحتى المناسبات الرسمية. تدريجياً، أصبحت المقاهي جزءاً لا يتجزأ من الحياة الحضرية في الإمبراطورية العثمانية. من القرن السابع عشر فصاعداً، باتت القهوة جزءاً من الهوية الاجتماعية العثمانية، وانتشرت المقاهي بسرعة في دمشق والقاهرة وإزمير وسالونيك وغيرها، ووصلت القهوة من هناك إلى مصر ثم أوروبا، مغيرة ثقافة الشرب.

قهوة في شوارع القاهرة. صورة من مصور إنجليزي مجهول

دمشق وحلب، لموقعهما التجاري، لعبتا دوراً مهماً في نشر القهوة في الدول والمقاطعات المجاورة. عندما انتشرت القهوة في مصر في أواخر القرن السادس عشر، كانت المقاهي في البداية أماكن تجمع للصوفيين، الذين يستخدمون القهوة للسهر والعبادة. وسرعان ما تحولت هذه المقاهي إلى مراكز اجتماعية نابضة بالحياة، حيث يجتمع التجار والفنانون وطلاب الأزهر. في هذا الوقت، اعتبر بعض علماء الأزهر القهوة محرمة، لأنها تُشبه الكحول كمُحفز. حاولت الحكومة المصرية في بداية القرن السادس عشر إغلاق المقاهي عدة مرات، وأصدرت في عام 1524 مرسوماً رسمياً لحظر القهوة، لكن شعبية المقاهي كانت قوية بحيث لم يدم أي من هذه الحظر طويلاً.

مقهى في مصر

في أوائل القرن السابع عشر، وصلت القهوة إلى شمال إفريقيا، إلى المغرب وتونس والجزائر عبر التجار وقوافل الحج. في مقاهي المغرب، كانوا يمزجون القهوة بالتوابل المحلية ليصنعوا نكهة فريدة أصبحت لاحقاً مشهورة عالمياً.

في مصر، كانت المقاهي تُعرف باسم "قهاوي"، وهو مصطلح استخدم لاحقاً في التركية والإنكليزية والفرنسية، وأُضيف أيضاً إلى العربية مصطلح "مزاج" الذي كان يُشير إلى من يتغير مزاجه بعد شرب القهوة، وأصبح لاحقاً جزءاً من اللغة اليومية.

مقهى في مصر خلال فترة الإمبراطورية العثمانية

سواءً في تركيا أو الدول العربية، القهوة ليست مجرد مشروب، بل جزء أساسي من طقوس الضيافة والود، وترتبط بالعديد من العادات والتقاليد، من مراسم الخطوبة إلى العزاء، ومن إشارات الأدب العثماني إلى قراءة الفنجان. طريقة التحضير والتقديم تختلف حسب الذوق المحلي والتاريخ. في تركيا، تُطبخ القهوة في جذوة على نار هادئة، وتستخدم حبوب داكنة ومحمصة بالكامل، ويُولي الاهتمام للكريمة (الرغوة) التي تُغطّي سطح الفنجان بالتساوي. تُقدّم القهوة التركية في فناجين صغيرة مع كوب ماء صغير وحلويات مثل اللوكوم أو البقلاوة.

رجل مصري يدخن الشيشة. لوحة لويس ليوبولد بويلي

في دول الخليج والمملكة العربية السعودية، تُحضّر القهوة من حبوب خفيفة التحميص أو خضراء، وتُطبخ في إبريق صغير يسمى دلة، ويضاف إليها الهيل والزعفران والقرفة أو القرنفل. حبوب هذه القهوة أكبر وألوانها عادةً كهرمانية، وتُقدّم في فناجين صغيرة غير مسننة مع التمر أو الحلويات المحلية أو البقلاوة العربية.

في مصر، تُحضّر القهوة على طريقة التركية في جذوة أو إبريق نحاسي، وأحياناً يُضاف إليها الهيل، ويجب أن يكون مقدار القهوة في الفنجان قليلاً لأن الفنجان يُعاد تعبئته عدة مرات.

الأركيلة (الشيشة)، طقسُ حوار

في المقاهي العثمانية، كانت الأركيلة (الشيشة أو القليان) رفيقة قديمة وثابتة للقهوة. أصل الأركيلة من الهند، ومن ثم انتشرت في الشرق الأوسط في القرن السابع عشر، وارتبطت بالثقافة الصفوية في إيران، ثم دخلت الإمبراطورية العثمانية بدايةً من الشام وحلب، وصولاً إلى إسطنبول. خلال عهد السلطان مُراد الرابع، تم حظرها، وكانت هناك تقارير عن معاقبة من يستخدمها، لكنها عادت بسرعة وأصبحت جزءاً من المقاهي.

لم يكن القليان مجرد وسيلة للتدخين أو التسلية، بل كان مرتبطاً بالمكانة الاجتماعية. كانت القليان الكبيرة ذات القواعد الفضية أو النحاسية والأنابيب المزخرفة علامة على الثراء والتميز، وأصبح جزءاً من مراسم الضيافة في القصور والمنازل الثرية. في تركيا الحديثة، يُعرف باسم نارگيليه، وفي معظم الدول العربية يُعرف بالمرادفات: نرجيلة، ارجيليه أو ارکیله، نسبةً لاستخدام جوز الهند في تصميمه. في مصر، أطلقوا على القليان اسم "الزجاج" لكبر حجم القاعدة وجمالها.

الأركيلة (الشيشة) في تركيا

من منتصف القرن الثامن عشر، وصلت ثقافة الأركيلة/الشيشة إلى المنازل في سوريا ولبنان، وأصبحت تُقدَّم للضيوف بجانب الشاي والقهوة. في دول الخليج، انتشرت ثقافة الشيشة في المقاهي والتجمعات الليلية في القرن العشرين، وغالباً كانت هذه المقاهي خافتة الإضاءة وتُصاحَب بالموسيقى الحية. اليوم، تتواجد المقاهي الخاصة بالشيشة في شوارع مزدحمة في مصر وسوريا ولبنان، ويُسمع فيها صوت أم كلثوم أو فيروز. في الخليج، تُقدّم الشيشة في المقاهي الحديثة واللاونجات مع موسيقى البوب الحديثة.


الشيشة والباذنجان ليستا مجرد متعة للذوق، بل لغة ثقافية صامتة، تحكي تاريخ التبادل والحياة المشتركة بين الشعوب على موائد الشرق الأوسط

تفضيل الأتراك كان للتبغ الثقيل والبسيط، بينما اختلف تبغ الأركيلة في الولايات المختلفة من الإمبراطورية العثمانية حسب ذوق كل منطقة، مثل مزج التبغ مع الغليسرين والعسل في مصر، أو استخدام المعسل المنكه بالفواكه العطرية في لبنان وسوريا. في تركيا تُقدّم الأركيلة/الشيشة مع الشاي، وفي الدول العربية مع القهوة العربية أو شاي النعناع أو العصائر.

رغم أن في المخطوطات العثمانية القديمة، كانت تُصوَّر نساء البلاط وهن يدخن الشيشة، إلا أن التدخين في الأماكن العامة كان مقتصراً على الرجال حتى تسعينيات القرن الماضي، ومن بعدها أصبحت النساء يدخّن الشيشة بحرية في المقاهي والتجمعات النسائية. في مصر ولبنان، كانت النساء يدخّنّ منذ زمن طويل وكانت المقاهي القديمة تستقبل النساء أيضاً.

سلطان الموائد الشرقية

أما الباذنجان، فهو عنصر لا غنى عنه على الموائد التركية والعربية. هذه الخضرة اللذيذة تلعب دوراً مهماً في النكهات والمقبلات واليخنات، وقد وصلت من الهند وجنوب شرق آسيا عبر طريق الحرير وإيران إلى الشرق الأوسط. تشير المصادر التاريخية إلى أنه وصل إلى بغداد في القرن الثامن والتاسع خلال العصر العباسي.

في البداية، كان بعض الأطباء العرب يحذرون من الباذنجان لأنه "بارد وجاف" وقد يضر بالصحة، لكن مع مرور الوقت تبددت هذه المخاوف وأصبح الباذنجان مقبولاً تماماً بين الناس. على الرغم من أنه كان في البداية غذاءً للأمراء والنبلاء، إلا أنه انتشر لاحقاً إلى موائد العامة.

صينية مقبلات تركية وعربية بالباذنجان

منذ ذلك الوقت، انتشر الباذنجان في الشام ومصر والأندلس. وفي كتاب "الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب" أحد أقدم كتب الطبخ العربية، توجد وصفات للباذنجان. كما تأثرت مطابخ البلاط العثماني بالطبخ الإيراني والعربي، لذا أصبح الباذنجان عنصراً رئيسياً في المطبخ العثماني قبل القرن الخامس عشر، وقد ذكره العديد من الرحالة الأوروبيين وأشادوا بتعدد طرق طبخه. اليوم، يُحضّر الباذنجان في معظم دول المنطقة مشوياً أو مقلياً بالزيت، أو يُطبخ مع الخضار والتوابل في اليخنات والمقبلات، ويُقدّم على موائد كل البيوت والمطاعم.

إعادة قراءة هذه الروابط العطرية والممتعة تذكّرنا بأن الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط الشرقي ليسا مجرد مناطق صراعات وأزمات، بل أرض يمكن أن تكون فيها التقاليد الغذائية، الطقوس الاجتماعية ورموز الحياة اليومية جسوراً للحوار والصداقة ومستقبلاً مشرقاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image