لا نساء في برلمان مدينتي… عن العبث السياسي في الساحة السورية

لا نساء في برلمان مدينتي… عن العبث السياسي في الساحة السورية

رأي نحن والنساء نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 13 أكتوبر 20256 دقائق للقراءة

لو أنّ دمشق امرأة، لصرخت بصوتٍ عالٍ: من يمثّلني اليوم؟ 

انتهت الحرب، وتعانق القادة، تغيّرت الوجوه والاتجاهات والأهواء، وحتى المزاج العام للبلد تغيّر، وبقيت الفاتورة الأكبر برسم النساء…

جاءت انتخابات اختيار أعضاء البرلمان السوري الأول بعد إسقاط نظام الأسد بحضورٍ نسائيٍّ مخجل، فيما كانت الصفعة الكبرى تتمثل في عدم وجود وجوه نسائية تُتوّج تاريخ دمشق النسوي الحافل.

هذه المدينة الزاخرة بالأصوات الأنثوية التي أسّست وجه السياسة النسائية السورية من ثريا الحافظ إلى ماري العجمي ونازك العابد، أمست فصلاً من حكاية سياسية انتهت قبل أن تبدأ.

على مقاعد القرار، اختنق الصوت الأنثوي، كما لو أنه يُقال لنا: "مكانكنّ المطبخ".

هذا الإقصاء المجحف للنساء ليس مجرد سقطة كبيرة للبرلمان السوري الجديد، بل طعنة رمزية لتاريخ السياسة السورية التي أسّستها النساء جنباً إلى جنب مع الرجال، إنه تنكّرٌ صريح لحقٍّ دفعت النساء ثمنه بالدم والتعب، ومحاولة جديدة لإسكات الصوت الأنثوي الذي كان يوماً نبض دمشق

في مشهدٍ يقول بصوتٍ جهوريّ: "يا الله، يا الله، انتخبوا يا نسوان".

في صورةٍ نمطيةٍ حاولت دراما البيئة الشامية ترسيخها على مدى سنواتٍ مضت، يقف الرجال وحدهم في قاعة كان يُفترض أن تُمثّل فئات الشعب بمكوناته جميعها، يتبادلون الأدوار، فيما تُترك النساء على هامش الصورة، برغم أنهنّ حملن لعقود أعباء الموت والفقد والتهجير وإعادة الحياة من تحت الركام.

هذا الإقصاء المجحف ليس مجرد سقطة كبيرة للبرلمان السوري الجديد، بل طعنة رمزية لتاريخ السياسة السورية التي أسّستها النساء جنباً إلى جنب مع الرجال، إنه تنكّرٌ صريح لحقٍّ دفعت النساء ثمنه بالدم والتعب، ومحاولة جديدة لإسكات الصوت الأنثوي الذي كان يوماً نبض دمشق. 

أولاً: إسقاط النظام وسقوط الطرق القديمة

بدايةً، علينا الحديث عن الطريقة التي لم يألفها الشعب السوري في انتخابات مجلس الشعب، حيثُ لم نجد حملات انتخابيةً ولا صوراً لناخبين في الشوارع ولا صناديق معونات غذائية ولا حتى حلقات دبكة. جاءت الانتخابات هذه المرة وفق نظام انتخابي جديد يعتمد على الانتخاب غير المباشر عبر "هيئات ناخبة" تم تشكيلها في كل دائرة انتخابية، على مستوى المحافظات السورية، وهذا بحجج مختلفة من بينها التهجير والنزوح، وفقدان الوثائق، وتدمير السجلات المدنية، وجميعها عوامل تصعّب إجراء اقتراع مباشر، لذا جاءت الهيئات الناخبة كبديل أمرٍ واقع. 

فضلاً عمّا سبق، تم تأجيل انتخابات مجلس الشعب في السويداء والحسكة والرقة لأسباب أمنية، وبقاء ثلث مقاعد البرلمان بـ"تعيين مباشر" من قبل رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع. 

ثانياً: هيمنة ذكورية وتهميشٌ مقنّع للنساء 

برغم ترديد المطالبة بـ"الحرية" منذ اليوم الأول للثورة السورية، إلا أن السياسة في هذه البلاد لا تزال تُدار بمنطق الأب والوصيّ، حيث يُعامل حضور النساء كاستثناء يجب تبريره، وجاءت الانتخابات لتقول بصراحة: لم يتغير شيء. الأسماء تبدّلت، لكن الذهنية عادت هي ذاتها، وإن في ثوبٍ جديدٍ مخضبٍ باللون الأخضر. 

نسبة 14% للتمثيل النسائي ليست رقماً نقرأه ببساطة ونمضي، إنما هي إهانة يجب التوقّف عندها كثيراً لمحوها وهي تستوجب الاعتذار عنها، لأنها إهانة سافرة لتاريخ هذه البلاد التي كانت المرأة عنصراً أساسياً في صنع حضاراتها منذ آلاف السنين، وهذا بمثابة خطوة إلى الوراء تضعُ عصيّاً في دواليب التقدّم وخلع العباءات التقليدية. ليس هذا فحسب، إنما أيضاً تعكس هذه النسبة إصرار النظام السياسي الجديد على إعادة إنتاج هرمية التهميش ذاتها، مع تغيير طفيفٍ في الوجوه المكسوّة باللحى.

أما الطامة الكبرى، في هذا السياق، فهي التبريرات التي جاءت استمراراً لسلسلة تبريرات ذكورية ضاربة في تاريخ الصراع النسوي الذكوري على مدى عقودٍ خلت، حيثُ عزا البعض سبب هذه النسبة المتدنّية إلى التمثيل النسائي وإلى أن "القيم التقليدية المحافظة" تُعيق مشاركة النساء ولا سيّما عقب مرور 14 سنةً من الصراع ساهمت بدورها في الحدّ من قدرة النساء على الترشّح أو التنافس. 

في الحقيقة، لا يمكننا أن ننكر أنّ هذه النسبة المنخفضة في التمثيل النسائي كانت منذ عهد النظام الساقط، ولكن استمرار هذا التهميش يجعلنا نقول: "ليس لأجل هذا قامت الثورة".

لذا، فإنّ هذا التمثيل المنخفض ليس إلا انعكاساً للهيمنة الذكورية السابقة التي استمرت برغم تغيّر الوجوه التي كانت تنادي بالتغيير أصلاً، بالإضافة إلى وجود الأغلبية المحافظة في الهيئات الناخبة، وذلك ما تترتب عليه نتائج سلبية في طريق الإصلاح. 

ثالثاً: هل يُصلح الشرع ما أفسدته هيئاته؟

في العالم، تُكرَّم النساء بألقابٍ كـ"الملهمة" أو "صانعة التغيير"، أما هنا فتكفي السلطة بوصمهنّ بـ"الرمز"، بينما تتواطأ السياسات والمجتمع معاً لسحب الأضواء من كل يدٍ نسائية تحاول الإمساك بالمقود. فما الذي يعكسه التمثيل الهزيل لهنّ بعد الانتخابات؟ وهل تغيّر تعيينات الرئيس الانتقالي هذه الصورة؟

هل هذا التمثيل الرمزي للنساء في البرلمان الجديد مجرد صدفة انتخابية؟ أو بداية مرحلة تُعاد فيها النساء إلى الهامش؟ في كل الأحوال، يبدو أنّ دمشق ونساءها اللواتي اعتدن أن يكنّ قلب السياسة والثقافة، صرن اليوم مجرّد متفرّجات على مشهد يزداد انغلاقاً

وذلك لأنّ انتخابات مجلس الشعب هذا العام لم تتوقّف على شكلها الجديد بتعيينات الهيئة الناخبة، فهناك ثلثٌ متبقٍّ من الأعضاء (70 عضواً) سيعيَّن بشكل مباشر من قبل الشرع، فهل ستتمّ زيادة التمثيل النسائي بوساطة هذا التعيين وسد الثغرات السابقة ورفع النسبة إلى 20% بأقل تقدير، أم أننا على أعتاب حجج جديدة ستساهم بشكل جديد في تدعيم التمثيل الرمزي الوهن للنساء في سوريا؟ 

وهل هذا يعني بداية الغيث، ما يعني أنه سيقال لنا بشكل غير مباشر: مكانكنّ ليس في السياسة وإدارة البلد؟ ففي هذا المشهد مكتمل الذكورة، الذي يبدو وكأنه رسالة أوضح من أي بيان رسمي تقول بكلّ وقاحة: "السياسة ليست ملعبكنّ".

المشهد هُنا أكثر من مخيّب للآمال، وكأنّ النظام الجديد قرّر أن يكتب اسم البلد كما يريد أن يرسم وجهها: بلا تاء، بلا أنوثة، وبلا حضورٍ مؤنث. "سوريا" بلا تائها، تماماً كما البرلمان بلا نسائه.

فهل يُعقل أن لا وجود لإمرأة واحدة من بين آلاف الناشطات والمدافعات عن هذه المدينة تستحق أن تُمثّل نساء بلدها وتساهم في رفع مطالبهنّ؟ 

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بتجرّد: هل هذا التمثيل الرمزي للنساء في البرلمان مجرد صدفة انتخابية؟ أو بداية مرحلة يُراد فيها إعادة النساء إلى الهامش؟ في كل الأحوال، يبدو أنّ دمشق ونساءها اللواتي اعتدن أن يكنّ قلب السياسة والثقافة، صرن اليوم مجرّد متفرّجات على مشهد يزداد انغلاقاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

الإعلام الموجّه والرسمي لا ينقل الواقع كما هو. 

رصيف22 يعمل كي لا تُحرَّف السردية.


Website by WhiteBeard
Popup Image