غزّة… اللعبة التي يبتلعها الفيل في كل مرّة

غزّة… اللعبة التي يبتلعها الفيل في كل مرّة

مدونة نحن والحقوق الأساسية

السبت 11 أكتوبر 20258 دقائق للقراءة

في كل مرة أحاول فيها أن أفهم غزّة، أعود منها وأنا أكثر حيرةً. أقول لنفسي: هذه ليست مدينةً، بل لغز قديم، أو أحجية على الأرض لا يمكن حلّها. كأنّ غزّة فكرة وُجدت لتختبر قدرة الإنسان على الاحتمال، أو لتمنحه درساً في الحب الموجع الذي لا خلاص منه.

في الليل، أستيقظ كمن يعتني بمريض عزيز عليه، أضع على جبينها كمّادات، وأتحسّس حرارتها بكامل حواسي. الحمّى لا تهدأ داخلك يا غزّة، وأنا لا أشفى. ترقد غزّة في داخلي مثل نار خبيثة، لا تحرقني تماماً، لكنها تذيبني ببطء.

أعود إليها بعد نزوحي بقلبٍ واسع، وما أن أصل إليها، ينفجر قلبي بالصراخ. غزّة التي أحملها مثل خطأٍ كبير، أخاف أن تسقط عليّ حجارتها، ومع ذلك لا أستطيع التخلّص منها.

الحياة في غزّة هي ذلك الفيل الذي يبتلع أحلامنا، يكسرنا، ويلقي بنا من أعلى الجبل، ومع ذلك نرجع إليها مشاةً منهكين، نتحسّس طرقاتها، نتيه عن عناوينها، ونتوق إلى حلمٍ جديد… يا للغباء!

وأنا طفل، كنت ألعب في خيالي مع فيلٍ عملاق. كنتُ أظن أنّ الحياة لعبة صوتٍ وحركةٍ وإيقاع، وأنّ كل شيء يمكن أن يُخلَق بحركة يدَيّ ويد الآخر. كنت أبني أحلامي من خيوطٍ خفيفة، يكاد الهواء لا يشعر بها. لكن في لحظة واحدة، كان الفيل يبتلع اللعبة كلها. كنت أعود خائباً، ثم أبدأ من جديد، أبدأ لعبةً أخرى، وبفيلٍ آخر.

الآن فقط فهمت: كان الفيل هو الحياة نفسها.

تمنحك الحياة اللعبة لتسلبها منك، تتركك تواجه خواءها لتكتشف أنك تلعب بلا جدوى، كل ما تعلّمته منذ صغرك وهم، فقاعات من القناعات التي تجبَر أن تتخلّى الآن عنها، وأن ترى كل شيء من حولك يهدم بلا شفقة، كل ما تعبت لأجله صار عجينةً جافّة.

وفي حالتي هذه، الحياة في غزّة هي ذلك الفيل الذي يبتلع أحلامنا، يكسرنا، ويلقي بنا من أعلى الجبل، ومع ذلك نرجع إليها مشاةً منهكين، نتحسّس طرقاتها، نتيه عن عناوينها، ونتوق إلى حلمٍ جديد… يا للغباء.

غزّة التي بلا مرايا

لعبتُ في صغري لعبة "بيوت بيوت" مع صديقتي المفضّلة. بنينا بيتاً من الرمل والماء، من ثم مللنا، فهدمناه، وبهدوء عاد كلٌّ منّا إلى بيته الحقيقي. لم أكن أعلم أنني كنت أقرأ مستقبل مدينتي في تلك اللعبة. غزّة، أيضاً، تبني بيوتها ثم يتم هدمها، فلا تتوقف يد الشر اللعينة، يد الاحتلال، عن هدم الحياة في مكان لم يتعرّف بعد على الحياة. إننا نرى بأعيننا كل ذلك الهدم، ومع ذلك نسمّي غزّة مدينةً.

غزّة التي تغيّر مواقعها كما يغيّر المرء غرف نومه في فندقٍ آيل إلى السقوط، نرى غزّة كلها نوافذ للحياة، بالرغم من أنّ كل نافذة تطلّ على مقبرة. 

أعود إلى غزّة التي لا تصلح إلا للبكاء، هذه المرة بانكسار يشبه شوارعها. يخبرني رجل على الطريق: لم تعد للمرايا حاجة في غزّة، فكل الوجوه تشبه بعضها؛ منكسرة حزينة، وصفراء مثل ورق الخريف.

أعود وأرجع، أتنقّل وأنهار، مثل رحّالة لا يجد أرضاً تحمله. 

نعم، غزّة صارت المدينة التي لا تستطيع حمل سكانها.

أمشي في شوارع غزّة ، أتفقّد الخراب من حولي، وكأنّ البيوت تكسّرت في لعبة كونية كبيرة، هُدمت غزّة في لعبة سخيفة، مُحي جمالها، من أجل لعبة يلعبها المهووسون بالدم والخراب. وضعوا لي ذاكرةً بجانب ذاكرتي، وكل واحدة منهما تنهش الأخرى.

صارت غزّة مثل لعبة البازل التي كنت أعبث بها في طفولتي، لعبتي المفضلة التي لم أكملها قط، حتى لا يموت شغفي. أتركها غير مكتملة لأعود إليها مرةً أخرى، ويكون عليّ أن أفعل شيئاً ما، فلا تكتمل حياة في غزّة، ولا يُمنح المرء فرصةً للعيش. يموت الإنسان دون أن يروي قصته، تنهار ذاكرة جمعية، وتصير في لحظة مدينةً مفرغةً من صوتها.

مشهد مكرّر

خلال جولتي في شوارع دير البلح، نظرت إلى المحال، وإلى الشوارع الضيقة، سمعت أصوات الباعة ذاتها، واختنقت بالزحام وتلامس الأكتاف الإجباري. صار عقلي ينبض، لماذا يتكرّر المشهد نفسه الذي لا أحبّ؟ إنه مشهد النزوح نفسه الذي عشته قبل أشهر قليلة. ما الذي أعادني إلى هنا؟ ألم أذهب إلى غزّة في كانون الثاني/ يناير 2025، في مشهد مهيب، سمّيناه العودة المقدّسة إلى شمال غزّة؟ الآن يتكرّر مشهد العودة مرةً أخرى، بالتفاصيل ذاتها، لكن بفرحة باردة، كأنها ألم جديد. تُرى لماذا تتكرّر الآلام ذاتها في حياتي؟ ما هذه القوّة الغريبة التي تجعل مني حجر شطرنج في قصة الآخر؟ لماذا يتم تجاهل قصتي في كل مرة؟

لا أصدّق أنّ مأساتي تأتي مرتين على الشاكلة نفسها. لا أصدّق أنني مجبر على عيش الألم وتجرّعه بالكامل مثل شراب زيت خروع مقزّز.

غزّة تذهب وتجيء مثل المدّ والجزر، لا تُغيّر شيئاً سوى شكل الخراب. كل عودةٍ منها تؤلمني، وكل فراقٍ عنها يقتلني.

ترى لماذا تملك غزّة كل هذا القدر من الدراما؟ لماذا صارت بديلاً عن كل ألعابي القديمة؟ حتى الكتابة، التي كانت لعبتي المفضلة، شاركتني في صياغتها. صرت أرى غزّة تشبه كل كلمة أريد أن أكتبها؛ محطّمة، بليدة، وبلا معنى. أنا بائس لأنني أحبها. بائس لأنني متمسّك بخيط ينقطع في كل مرة، ثم أعود لأربطه، وأنا أعرف أنه سينقطع مجدداً.

غزّة تذهب وتجيء مثل المدّ والجزر، لا تُغيّر شيئاً سوى شكل الخراب. كل عودةٍ منها تؤلمني، وكل فراقٍ عنها يقتلني. أنا أكره هذا الدولاب الذي يعيدني إلى النقطة نفسها.

لقد سرقتني غزّة من الراحة، صرتُ بين البقاء والرحيل معلقاً مثل وترٍ على وشك الانفجار. أخاف أن أبتعد فتموت ذاكرتي، وأخاف أن أبقى فأموت أنا.

صرت أعيش على الحافة، أراقب اللعبة كاملة، وأخاف من الفيل ومن صوته الذي لا يهدأ.

تشويه المشوّه

غزّة لم تكن يوماً جميلةً بالمعنى البصري. شوارعها غير مرصوفة، بيوتها متعبة، ووجهها مغطّى بالغبار. لكنني أراها جميلةً. أراها في مخيّلتي بين الجماليات، كما لو أنّ الجرح نفسه تحوّل إلى فنّ. وأتعجّب من نفسي: كيف يمكن لمكان مضروب على رأسه أن يتحوّل إلى فكرةٍ جميلة في عقل رجل حالم؟

غزّة، اللئيمة الطيبة، الحنونة القاسية، المبنية المهدمة، الخرافة والحقيقة، الشامخة الباكية، الضعيفة الجاهلة، والحكيمة، في آنٍ واحد… تقبع الآن في منتصف رأسي، في منتصف العالم، ترهقني بقصصها، تملأ العالم بضجيجها، وتجعله مثل حبل مشدود يكاد أن ينقطع.

لو عرف العالم غزّة قبل السينما، لما احتاج إلى مارلون براندو، ولا إلى آل باتشينو، ولا إلى ميريل ستريب أو دانييل داي لويس، لأنّ غزّة وحدها كافية لتكون الفيلم الوحيد الذي يُعاد إلى الأبد. تراجيديا مكتفية بنفسها، أبطالها من لحمٍ ودمٍ ودموع. غزّة مدينة تمثل ذاتها بلا سيناريو، بلا إخراج، وبلا كاميرا. كل شيء فيها حقيقي إلى درجة تفوق التصديق.

فرحٌ مثل فرح غزّة

أعطني حزناً مثل حزن غزّة حين تُقصف، حين يخرج أهلها من بيوتهم إلى لا مكان، وحين تُطفأ الأنوار ويظلّ الصوت وحده يتردّد في الفراغ. أعطني فرحاً مثل فرحها حين يعود أهلها، مرةً واثنتين، حين يلمسون التراب بأصابع متخشِّبة، ويكبرون من شدة الامتنان للبقاء. أعطني قمراً يشبه غزّة، أرضه مأهولة بالناجين والذكريات، وليس بالضوء فحسب. أعطني أرضاً يتساوى فيها الحجر والإنسان في الهدم والبناء.

غزّة هي علّتي الوحيدة، وهي أيضاً العزاء الوحيد في هذا الخراب الكبير، هي الحدّ بين الحياة والموت، بين الذاكرة والنسيان، وبين المعنى والجنون. هي الفيل، وهي الطفل الذي لا يزال ينتظر أن يلعب معه

هذه المدينة قتلتني أكثر من مرة، لكنها أيضاً علّمتني أنّ الحياة تنتهي وتعود. إنها تنهار أمامي وفي داخلي، ومع ذلك أحبّها. غزّة هي المرض النفسي الذي لا أريد الشفاء منه، هي الهوس الذي يعيد تعريف الحياة، ويمنحها في كل مرة عصافير جديدةً. لقد أُصبتُ بغزّة، وإصابتي لا علاج لها.

أنا المجنون الناجي من إبادةٍ لم تترك حجراً ولا بشراً أو طيراً أو فكرةً إلا واستهدفته/ ا، ومع ذلك، أكتب عنها. أكتب كما يكتب مريضٌ تقريره الطبي بنفسه، أكتب من داخل سجن سيئ، يعمل طوال الوقت كل من فيه على إعدامي.

غزّة هي علّتي الوحيدة، وهي أيضاً العزاء الوحيد في هذا الخراب الكبير. كل من مرّ بها خرج منها ناقصاً، كما لو أنه قرأ روايةً ولم يفهمها. من لم يعرفها عاش حياةً سهلةً، لكنه لم يعرف عمق الشعور البشري حين يبلغ حدّه الأقصى.

غزّة هي الحدّ بين الحياة والموت، بين الذاكرة والنسيان، وبين المعنى والجنون. هي الفيل، وهي الطفل الذي لا يزال ينتظر أن يلعب معه. هي أحجية الأرض التي لا تُحلّ، وكلما حاولت أن أجد إجابةً، ابتلعتني مثل لعبتي القديمة.

اعتقلتني مدينتي، حاصرتني بالألم، ومع ذلك، لا أريد النجاة. لأنني، ببساطة، أحب هذا المرض الجميل الذي اسمه غزّة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image