"تفاءلنا خيراً بعد رؤية شخصيات شاركت في إجرام نظام الأسد البائد (أحمد حسون وعاطف نجيب ومحمد الشعار...) تُحاكَم في جلسات علنية ومحترمة، مع تمتعها بمعاملة جيدة. لكن الصدمة عاجلت أهالي المعتقلين، بعد أخبار محاكمة أبنائهم في مغارة في منطقة سرمدا من قضاة ومحامين وحضور ملثّمين"، يقول أبو محمد الدرعاوي لرصيف22، مفضّلاً عدم الكشف عن هويته الكاملة لأسباب أمنية. ويؤكد ذلك محمد خالد، وهو معتقل سابق لدى هيئة تحرير الشام ومهتم بقضايا المعتقلين.
ويتابع الدرعاوي، وهو مسؤول في حزب التحرير الإسلامي، "محامي الدفاع ملثّم أيضاً، وهمّه الأكبر تثبيت التهم المزعومة بدلاً من نفيها". وتراوحت الأحكام بين 4 و10 سنوات. كما شهدت المحاكمات اتهامات افتراضيةً، كالاتهام بأنكم "قد تخرجون في تظاهرات مستقبلاً، إذا دعا الحزب لذلك. وحين فنّد أحد المعتقلين عدم قانونية ذلك، قابله القاضي بشتائم وألفاظ نابية، فضلاً عن جلده 40 جلدةً". ويشير إلى أنّ "هناك قرابة 35 شاباً معتقلاً من زملائنا في التحرير، إلى جانب آخرين يتبعون لفصائل عسكرية، وناشطين مدنيين، بعضهم أحداث حُكم على أحدهم بـ8 سنوات سجناً، في سجون الهيئة في شمال غرب سوريا".
وسبق أن وثّقت منظمة "هيومن رايتس ووتش" حالات اعتقال تعسفي، بينها حالات تعذيب، منها واحدة لصبي عمره 16 عاماً. ولفتت إلى أنّ المعتقلين حُرموا من التمثيل القانوني، ولم يُعرضوا على قضاة مستقلين، وأُجبر بعضهم على توقيع تعهدات بعدم ممارسة نشاطهم الإعلامي، فيما شملت أساليب التعذيب: الضرب، الحبس في صناديق معدنية ضيقة (التابوت)، و"الدولاب" (إدخال الجسد في إطار وضربه).
نفت الهيئة حينذاك استخدام التعذيب، وقدّمت مشروع قانون ينصّ على منع الاعتقال من دون مذكرة قضائية (مع استثناءات)، وعُرض المعتقل على قاضٍ خلال 48 ساعةً، مع منع التعذيب، وضمان الغذاء والرعاية الصحية. ولكن، على الرغم من ذلك، لا يضمن القانون حق الدفاع أو الاستئناف، ولا يعترف بحقوق القاصرين.
في سوريا، "جرت المحاكمات بشكل سري من قضاة ملثّمين، ما يحرم المتهم من حقه في محاكمة علنية ويهدر مبدأ علانية الجلسات. كما أن المحاكمة أمام قضاة ملثمين تُعدّ سابقةً لا مثيل لها، حتى بالمقاييس السابقة لمحاكمة تتبع للفصائل المسلحة"...
احتجاز أميري وحكم سلطاني
خلال كلمته في حفل إطلاق الهوية البصرية لسوريا الجديدة مطلع تموز/ يوليو الماضي، قال الرئيس الانتقالي أحمد الشرع: "لقد تم حلّ سجونكم". مع ذلك، لا يزال ثمّة سجناء يقبعون في سجون "هيئة تحرير الشام" على خلفية آرائهم السياسية ونشاطاتهم المدنية، هذه الهيئة التي جرى حلّها مع توليها السلطة في دمشق وتحول قائدها "أبو محمد الجولاني" إلى أحمد الشرع، الذي أكّد حينها على ضرورة التحول من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة.
ويحظر الإعلان الدستوري الناظم للانتقال السياسي في سوريا، التعذيب والاحتجاز التعسفي، ويكفل حق الدفاع في المادتين 17 و18. مع ذلك، يمنع المعتقلون من توكيل محامين أو المثول أمام قضاة تحقيق، ويشيع التعذيب ويتم الاحتجاز في زنازين انفرادية أو مهاجع مكتظة، مع ظروف سيئة جداً من حيث الغذاء والرعاية الصحية في السجون، بحسب موقع سوريا على طول. وغالباً ما تحدث الاعتقالات من دون أوامر قضائية، في ما يُعرف بـ"الحكم السلطاني أو الاحتجاز الأميري". وتتعرض عائلات المعتقلين للاعتقال أو الابتزاز في أثناء البحث عن معلومات. ويلفت إلى أنّ حلّ "الهيئة" رسمياً يجعل سجونها "غير قانونية"، كما أنّ استمرار احتجاز سجناء الرأي يقوّض شرعية المرحلة الانتقالية ويهدد مفهومها للعدالة.
"تمت محاكمة عدد من المعتقلين في سوريا (علي دلو، صبري عباس، وآخرون) في أيلول/ سبتمبر الماضي، أمام محاكم سرّية غير معلنة الاختصاص"، بحسب مدير آليات التحقيق في رابطة الحقوقيين السوريين الأحرار، ياسر شالتي. ويلفت إلى صدور أحكام بحقهم تتراوح ما بين 6 إلى 10 سنوات، بسبب آرائهم السياسية وانتمائهم المزعوم إلى "حزب التحرير".
أبرز مظاهر الانحراف القضائي في هذه المحاكمات، طبيعة المحاكمة غير القانونية، بحسب شالتي. يقول: "جرت المحاكمات بشكل سري من قضاة ملثّمين، ما يحرم المتهم من حقه في محاكمة علنية ويهدر مبدأ علانية الجلسات. كما أن المحاكمة أمام قضاة ملثمين تُعدّ سابقةً لا مثيل لها، حتى بالمقاييس السابقة لمحاكمة تتبع للفصائل المسلحة. ناهيك بانتهاك حق الدفاع، حيث حُرِم المتهمون من الحق الأساسي في الدفاع عن أنفسهم أو بواسطة محامٍ، أو استجلاب شهود".
يروي شالتي، لرصيف22، أنّ "هذه المحاكمات تدلّ على مأزق دستوري أو سيادي، فإن كان لوزارة العدل دور فيها، فهي بذلك تشارك في محاكمات غير قانونية وتضرب بعرض الحائط القوانين السورية. وإن لم يكن لها دور، فهذا يعني أن 'الدولة' الجديدة لا تزال تحت سيطرة فصيل يمارس أفعال الميليشيات، متنكراً بثوب الدولة".
بحسب شالتي، استمرار هذه المحاكمات يدلّ على أن "'الدولة' الجديدة لا تزال تحت سيطرة فصيل يمارس أفعال الميليشيات، متنكراً بثوب الدولة"، في حين يحذّر نور الدين من أن "التكتم على هذا الملف يزيد من معاناة الأهالي، ويضاعف فقدان الثقة بأي خطاب يتحدث عن العدالة أو حقوق الإنسان في سوريا"
بعد إسقاط النظام السوري في كانون الأول/ ديسمبر 2024، تعالت الأصوات المطالبة بالإفراج عمن اعتُقلوا نتيجة نشاطهم المدني أو آرائهم السياسية. وتواجه "هيئة تحرير الشام"، التي قادت عملية "ردع العدوان"، ضغوطاً شعبيةً وشرعيةً للإفراج عن المحتجزين في سجونها، وفقاً لموقع "عنب بلدي"، عبر دعوات من ناشطين وشرعيين، أبرزهم عبد الرزاق المهدي، تطالب الشرع، الجولاني سابقاً، بإصدار عفو شامل عن معتقلي الرأي. كذلك دعا بيان لـ"ناشطي الحراك الثوري السوري" إلى إقفال ملف المعتقلين لدى جميع القوى العسكرية، وتفعيل "محاكم سوريا الحرة" لمحاسبة منتهكي الحقوق.
وتتفاوت ظروف الاعتقال، بحسب الموقع، لكن سجن "الـ55" في حارم وُصف بأنه "بشع جداً"، وبعض الزيارات جرت فقط عبر وساطات شخصية، فيما ينقل موقع العربي الجديد شهادات عن وجود سجون سرّية تُنقل عند كشفها، مثل سجن شاهين وسجن عقاب، بالإضافة إلى سجن "الفرع 107" في سرمدا، الذي يُستخدم لاحتجاز المعارضين السياسيين. كما تشتمل أساليب التحقيق على التقييد، وعصب العينين، والضرب والصعق الكهربائي.
ولا تزال هناك سجون في إدلب تقع خارج نطاق سلطة الدولة، بحسب ما أفاد الصحافي والحقوقي، محمد نور الدين، لرصيف22، مشيراً إلى أنها "تضم عدداً من العسكريين والمدنيين بالإضافة إلى إعلاميين، منهم من جرى تغييبهم قسراً من دون محاكمات منذ سنوات طويلة. هذه السجون السرية موجودة بالفعل، لكن لا تتوافر لديّ معلومات دقيقة حول أعداد المعتقلين داخلها. لكن من الضروري أن تتحرك لجان حقوقية مستقلة للكشف عن مصير هؤلاء المعتقلين، وتوثيق الانتهاكات والضغط من أجل إطلاق سراحهم، أو ضمان محاكمات عادلة لهم، أو كشف مصيرهم وإبلاغ ذويهم".
"التكتم على هذا الملف يزيد من معاناة الأهالي، ويضاعف فقدان الثقة بأي خطاب يتحدث عن العدالة أو حقوق الإنسان في سوريا"، يُردف نور الدين.
وفقاً لمحمد خالد، نظّم أهالي المعتقلين تظاهرات واحتجاجات، ومقابلة شخصيات من "الهيئة" والحكومة، لكن من دون استجابة. اللافت في هذه اللقاءات، كان إبلاغهم من إحدى هذه الشخصيات أن هذا الملف خارج القضاء والشرع، وهو ملف "سلطاني" بيد الأمير (الشرع/ الجولاني)، أو أبو أحمد حدود (أنس خطاب، أمني الهيئة سابقاً ووزير الداخلية حالياً)، أو عبد الرحيم عطّون (رئيس مجلس الإفتاء في حكومة إدلب، ورئيس المكتب الاستشاري للشؤون الدينية لدى رئاسة الجمهورية، وعضو مجلس الإفتاء السوري حالياً). وأبدت شخصيات حكومية تعاطفاً مع مطالب الأهالي، عادّةً أنّ الهيئة تحولت من فصيل إلى "دولة"، ولا مبرر لاستمرار الاعتقال.
"رجال النظام السابق طلقاء... ماذا عن معتقلينا؟"
في وقت سابق، قال الباحث في معهد "واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، المختص في شؤون الجماعات الجهادية بشمال أفريقيا وسوريا، آرون زيلين، إن "هيئة تحرير الشام" تمثل نظاماً استبدادياً، والتعذيب ليس مفاجئاً بالنظر إلى جذورها في تنظيم "الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة". لذا لا ينبغي النظر إليها ككيان ديمقراطي ليبرالي يعطي الأولوية لحقوق الإنسان على النحو المحدد في قانون حقوق الإنسان، على الرغم من التغييرات التي طرأت عليها. بينما رأى الباحث السوري في الجماعات الجهادية، عباس شريفة، والمقرب من الحكومة حالياً، أن نموذج القيادة المركزية لـ"الهيئة" انهار، والجهاز الأمني بات "مسالخ بشرية" تديرها "عصابة مافيوية".
خرج محمد خالد من اعتقاله الثاني في سجن إدلب مصاباً بشلل نصفي تعافى منه لاحقاً، إذ بدأت حملة الاعتقالات الواسعة ضد "حزب التحرير" برأيه في 7 أيار/ مايو 2023. وكان السبب الحقيقي، كما يروي، أن شباب الحزب كانوا ينشطون بالتنسيق مع عسكريين ومدنيين ووجهاء لفتح جبهة حقيقية ضد نظام الأسد، في ظل تقاعس الهيئة عن ذلك.
"شعرت الهيئة بالخطر من هذا الحراك"، يقول خالد لرصيف22، والتي "اعتقلت عدداً من العسكريين وبعض أعضاء الحزب، ثم وسّعت الحملة لتشمل قيادات الحزب في القرى والبلدات بحجج دعائية، مثل 'طعن الحزب بالمجاهدين'، 'يرجّف الناس'، و'له قيادات مرتبطة ببريطانيا'، وهي تهم واهية هدفها شرعنة الاعتقال السياسي".
يثبت استمرار وجود سجون سرّية وتعذيب سجناء في مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" بعد إسقاط نظام الأسد، أنّ تغيير الشعارات لا يعني بالضرورة تغيير الممارسات، وهو ما قد يقوّض شرعية المرحلة الانتقالية برمّتها
لاحقاً، أُفرج عن بعض المعتقلين لأسباب مثل وفاة قريب، أو قرار داخلي، الأمر الذي يشي بأنّ الاعتقال لم يكن مبنياً على جرم حقيقي، بحسب خالد. ويؤكد أنّ أحكام هذه المحاكم تصدر بطريقة مزاجية: "ستة"، "ثمانية"، و"عشرة"، دون تفسير أو شفافية، مقارناً بقسوة بين الإفراج عن شخصيات كانت مواليةً لنظام الأسد، بينما يبقى معتقلو حزب التحرير في السجون، على الرغم من تاريخهم الثوري المشرف. واليوم، يبقى هؤلاء محتجزين كـ"درس" لبقية السوريين، لمنع أي نشاط سياسي مستقل.
يقول الدرعاوي: "لا يزال الثوار الذين طالبوا بتحرير سوريا قابعين في السجون حتى اليوم، ويواجهون مصيراً مختلفاً تماماً"، مضيفاً أنّ "أهالي المعتقلين يعيشون في حيرة ويأس وتساؤل، إذ كيف يعامَل من قتل السوريين وشرّدهم (شبيحة النظام) باحترام، بينما يعامَل أبناؤنا الذين طالبوا بالحرية بهذه القسوة، عادّين أن استمرار هذا الظلم "مسمار يدق في نعش" السلطة الحالية، وسيقودها إلى مصير النظام السابق إذا استمرت على هذا النهج". ويروي عن أحد المتنفذين في "القطاع القضائي" لدى "الهيئة" وصفه هذه المحاكم بأنها "محاكم أمنية" تدار بعقلية أمنية بحتة، لافتاً إلى وجود عدد من السجون السرية، مثل سجن المعصرة في بلدة قاح، وسجن حارم، وسجن سرمدا المسمى سجن المغارة، وسجن الزنبقي في دركوش ناهيك بسجون أخرى مجهولة حتى اللحظة.
ووفق شالتي، "هذه المحاكم الأمنية أو الاستثنائية غير قانونية، لم تنشأ بموجب القانون ولا تخضع لأي رقابة قضائية. وهي أداة إرهاب تُستخدم لقمع المعارضة وإصدار الأحكام بناءً على أهواء السلطة، من دون ضمانات قانونية. وتشبه بشكل خطير المحاكم الاستثنائية التي أنشأها نظام الأسد (كمحكمة أمن الدولة، ومحكمة الإرهاب)، التي انتهكت أبسط حقوق الإنسان في سوريا. وإذا كانت هذه هي الممارسات في الدولة الجديدة، فهذا يمثل درجةً في التوغل بالإرهاب لم يسبق لها مثيل، حيث تُضفى الشرعية الرسمية على انتهاكات كانت تُدان سابقاً".
يثبت استمرار وجود سجون سرّية وتعذيب سجناء في مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" بعد إسقاط نظام الأسد، أنّ تغيير الشعارات لا يعني بالضرورة تغيير الممارسات. وهو ما قد يقوّض شرعية المرحلة الانتقالية برمّتها، ويهدد مفهوم العدالة الانتقالية. وتكمن الخطوات الأساسية في إقفال السجون غير القانونية نهائياً، ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، وتحويل الملفات إلى النيابة العامة. وهو ما يمثّل اختباراً حقيقياً للسلطات الجديدة، لإثبات جدوى خطابها الإصلاحي وقطع الطريق أمام إعادة إنتاج استبداد جديد تحت شعارات مختلفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.