لماذا يتمسّك الشرع بتجنيس المقاتلين الأجانب؟

لماذا يتمسّك الشرع بتجنيس المقاتلين الأجانب؟

سياسة نحن والتطرف

الثلاثاء 30 سبتمبر 202520 دقيقة للقراءة

منذ إسقاط نظام الأسد ووصول "هيئة تحرير الشام" إلى سدة الحكم في سوريا، طفت على السطح عدة ملفات متباينة الأهمية والخطورة. ويُعدّ ملف تجنيس المقاتلين الأجانب الذين شاركوا الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وهيئته، منذ كان "أبو محمد الجولاني"، أحد أكثر هذه الملفات سخونةً وإلحاحاً للحسم، لعدة اعتبارات داخلية وإقليمية ودولية.

وشهد هذا الملف تجاذبات كبيرة في تشكيل العلاقة مع النظام السوري الوليد، وإدارته المتمسّكة بقرار دمج هؤلاء المقاتلين وتجنيسهم. في هذا التقرير، يرصد رصيف22 التحوّلات في ملف المقاتلين الأجانب وتجنيسهم، وآخر تطوراته، وأسباب تمسّك السلطات السورية بهم، وكيف تنظر إليهم القوى المحلية الأخرى وتلك الدولية الفاعلة في الشأن السوري.

دوافع الحكومة لتجنيسهم

يلحظ المتابع للشأن السوري حجم الضغوط المحلية والخارجية التي تعرّض لها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وإدارته لمنع تجنيس المقاتلين الأجانب ودمجهم في صفوف الجيش السوري. لكنه، ورغم ذلك، أبدى صلابة شديدة في هذا الملف وتصميماً كبيراً على المضي قدماً في ذلك.

أسباب ذلك جاءت على لسان الشرع نفسه أو مسؤولين في إدارته. ففي مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في نيسان/ أبريل 2025، ألمح الشرع إلى تجنيس بعض المقاتلين الأجانب كنوع من "ردّ الجميل" لهم، لكونهم "ثبتوا إلى جانب الثورة السورية"، على حد تعبيره، متعهِّداً بعدم استخدام الأراضي السورية لاستهداف أي دولة أجنبية لتهدئة بعض المخاوف الخارجية من هذه الخطوة.

لاحقاً، صرّح مصدران مقرّبان من وزارة الدفاع السورية لوكالة رويترز، مطلع حزيران/ يونيو 2025، بأن الشرع والمقربين منه حاولوا إقناع مفاوضين غربيين بأن ضمّ المقاتلين الأجانب إلى الجيش السوري سيكون أقل خطورة من التخلّي عنهم حيث قد يدفعهم ذلك إلى الانضمام مجدّداً لتنظيمات متطرّفة مثل القاعدة أو داعش.

"ما يحدث هو خلق سبب دستوري لوجود طرف ضمن مفاوضات اقتسام سوريا ما بعد الأسد، فهؤلاء يطلبون ثمن موقفهم، والإدارة تقدّم سبباً قانونيّاً لدفعه"... ملف تجنيس المقاتلين الأجانب يحدث انقساماً بين السوريين، وإدارة الشرع لا تُشركهم في قرار حسمه

وفي هذا السياق، يقول الناشط السياسي منذر الحلبي، لرصيف22، إن "إدارة الشرع متمسّكة بتجنيس المقاتلين الأجانب لأنهم شكّلوا 'رأس حربة' في عملية "ردع العدوان"التي أدّت إلى إسقاط بشار الأسد، والأهم من ذلك لدرء خطرهم عن الحكم الوليد. فوسط ما يعانيه حكم الشرع من تخبّطات أمنية ومشاكل اقتصادية، تجعلانه في غنى عن خلق أي جبهة عداء جديدة تؤثِّر على استمرار سلطته".

ويضيف الحلبي إلى ما سبق "كون المقاتلين الأجانب ورقة ضغط مهمة يملكها الشرع في وجه المجتمع الدولي، لما يعلمه من رفض دولهم استعادتهم من جهة، و التلويح بخطر انضمامهم لداعش من جهة أخرى، ما يعني إعادة إحياء التنظيم الإرهابي. خصوصاً وأنهم راكموا خبرات قتالية عالية خلال سنوات الصراع السوري، ما يجعل الغرب ينظر إلى الشرع على أنه 'ضابط' لهؤلاء الأجانب ومسيطر عليهم، بما يحدّ من خطرهم، الأمر الذي يجبر الغرب على قبول هذا النظام ورفع العقوبات عنه".

أين وصل الملف؟

خلال الشهرين الأخيرين، زادت التقارير التي تتحدّث عن بدء السلطات السورية الجديدة فعلياً في تجنيس مقاتلين أجانب، دون تحديد عدد دقيق للمقاتلين الحاصلين على الجنسية السورية ولا الكشف عن آلية تنفيذ ذلك. غير أن تقارير عدة حدّدت معلومات حول حالات تجنيس، منها حالة مقاتل فرنسي نال الجنسية السورية نتيجة زواجه من مواطنة سورية خلال سنوات الثورة.

ولا تعلّق الحكومة السورية على هذه الأخبار، بالتأكيد أو النفي. وهو نهج تتبعه السلطة الانتقالية في التعامل مع الملفات الشائكة، كما حصل مع الطلب الذي تقدّم به مقاتلون أجانب في سوريا إلى وزارة الداخلية في منتصف آب/ أغسطس 2025، للحصول على الجنسية، بحسب "رويترز".

في الرسالة المذكورة، طالب عدد من المقاتلين الأجانب بمنحهم الجنسية السورية حتى يتمكّنوا من الاستقرار والتملّك والسفر، بعد ما قدّموه في سبيل "مستقبل حر وعادل لسوريا"، وفق تعبيرهم. واكتفى متحدّث باسم الداخلية السورية بالقول لرويترز إن الرئاسة السورية هي وحدها صاحبة القرار في قضية منح الجنسية للأجانب.

أما مقدِّم الطلب، فهو بلال ممثل كوميدي أمريكي، يُدعى عبد الكريم، وقد تحوّل إلى مراسل عسكري، ويقيم في سوريا منذ عام 2012، وهو أحد الأصوات البارزة بين الإسلاميين الأجانب في سوريا. قبول هذا الطلب يعني حصول آلاف الأجانب من أكثر من 10 دول، بينها مصر والسعودية ولبنان وباكستان وإندونيسيا وجزر المالديف، وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وأمريكا وكندا، والشيشان وحتى من قومية الأويغور، على الجنسية السورية. وليس هناك عدد واضح للمقاتلين الأجانب في البلاد.

تورّط في إراقة الدم السوري

كان للمقاتلين الأجانب دور كبير في سطوع نجم "هيئة تحرير الشام" خلال سنوات ما قبل إسقاط نظام الأسد، حيث كانوا القوة الضاربة للهيئة في مواجهة النظام الأسدي، والفصائل المناوئة للجولاني من جيش حر أو فصائل جهادية. واستمر ذلك في "ردع العدوان" التي أفضت إلى إسقاط الأسد، وما تبعتها من معارك في الساحل السوري ومدن مثل السويداء.

ورغم تأكيدات السلطة السورية أن التعامل مع المقاتلين الأجانب سيكون منضبطاً، ولن يضرّ بسوريا وشعبها، إلا أن مجازر الساحل والسويداء، وما كشفته شهادات الأهالي والناجين أو المواقع المصوّرة والصور التي توثّق الهجمات والاعتداءات على المدنيين، تكشف جميعها الدور الكبير الذي لعبه الأجانب بما يخوّف من تحوّلهم إلى عاملٍ مهدِّد لوحدة البلاد وأمان شعبها.

لم يتوقّف الأمر عند مشاركتهم في أحداث العنف الطائفي في السويداء واللاذقية، بل ظهرت فيديوهات تُظهر مقاتلين غير سوريين في دمشق، يتحدّثون ويتوعّدون أبناء الأقليات الدينية، علناً دون خوف.

وتُقدّم لمياء*، من حي القصور في بانياس، عبر رصيف22، شهادتها حول تواجد المقاتلين الأجانب إذ تقول: "كان هناك مقاتلون أجانب في بانياس، شاهدتهم بشكلٍ شخصي خلال رحلة هروبي وعائلتي من حي القصور في ثاني أيام المجزرة. كانوا متواجدين على الحواجز وداخل المدينة، ويرتدون لباساً مختلفاً وطويلاً، وأشكالهم مختلفة، وشعرهم أحمر وطويل".

ويؤكد سومر* من حي قرفيص في اللاذقية، لرصيف22، وجود المقاتلين الأجانب، مشدّداً: "نعم، رأيت ذلك بأمّ العين خلال فترة مجازر الساحل، في منطقة السن قرفيص الغربية. كانوا غالباً شيشان، وواحد منهم لبناني. اليوم، ما زالوا يتواجدون في الساحل، خصوصاً في منطقة الكلية البحرية، ونشاهدهم، لكن ليس بكثافة، فغالباً لا يتحرّكون كثيراً".

بدوره، يقول سعيد* من السويداء، لرصيف22، إنه: "مع بدء الهجوم على السويداء في تموز، كان خط القتال الأول من قبل قوات وزارة الدفاع مؤلّفاً من الأجانب وقوات النخبة المتشدّدة، ومن ثم العشائر خلال الهجمة الثانية. وبعد خروجهم من قلب المدينة، وعند القيام بإحصاء الجثامين، وجدت جثث لمقاتلين ذوي ملامح غير سورية عند دوّار العمران وعند المشفى الوطني. كما لوحظ تمركز للمقاتلين الأجانب في المقرن الغربي، عند الحدود الإدارية مع درعا".

الناشط المدني عادل* من السويداء أيضاً، يقول لرصيف22 إن تقاطعات الشهادات من المدنيين في السويداء تثبت وجود مقاتلين أجانب في عدّة محاور بالريف الغربي، وخلال عمليات اقتحام المدينة، إضافةً إلى تأكيدات حول وقوع أسير أجنبي واحد على الأقل في يد المقاتلين المحليين.

موقف السوريين من تجنيس "المهاجرين"

ملف تجنيس من يُطلق عليهم أحياناً "المهاجرين" الأجانب الذين قاتلوا في صفوف هيئة تحرير الشام وانضووا في القوات الموالية للشرع لاحقاً، أحد أبرز القضايا التي تشهد انقساماً بين السوريين راهناً. فقد أيّد البعض هذا القرار انطلاقاً من ولاء هؤلاء المقاتلين للقيادة السورية الجديدة، أو لأنهم يرونه حلاً وحيداً لحسم هذا الملف، لكن الغالبية العظمى من السوريين ترفض تجنيس هؤلاء وتخشى من تبعات ذلك على النسيج السوري، في وقت لا تزال البلاد عاجزة عن لملمة آثار الحرب الأهلية التي امتدت لأكثر من عقد من الزمن.

ويرى المحلل السياسي سامح حسامي أن "جوهر الموضوع ليس في تجنيس هؤلاء المقاتلين، بل في كيفية تعاطي الإدارة السورية مع هذا الملف. فهي تركّز على بعده الأمني، وتُخفي الجوانب الاجتماعية والثقافية، فتروّجه للداخل باعتباره الوسيلة الوحيدة لضمان تحييد هؤلاء المقاتلين وعدم تحوّلهم إلى بؤرة توترات أمنية وصراع، وتروّجه للدول الخارجية كوسيلة لمنع عودة هؤلاء المقاتلين إلى بلادهم، بحيث تتحمّل سوريا عبء احتوائهم وتمنعهم من أن يتحوّلوا إلى تنظيمات إرهابية تعيد إنتاج ما يشبه داعش".

ويضيف حسامي لرصيف22 أن الإدارة السورية تغفل في هذه المقاربة أي رؤية اجتماعية أو ثقافية للمسألة، فلا تتحدّث عن كيفية إعادة إنتاج هؤلاء المقاتلين كسوريين، ولا عن كيفية إنتاج سردية سورية يكون الأجانب جزءاً منها، خصوصاً وأن الإدارة السورية تعجز عن إنتاج سردية جديدة تدمج جميع السوريين ضمن "سوريا الجديدة"، وبالتالي لن تكون عملية دمج الأجانب سوى إضافة مكوّن جديد لخطاب المكونات الذي تبنّته الدولة، ما يعني طرفاً جديداً ضمن عمليات التفاوض حول شكل سوريا المستقبلية، على حد تعبيره.

"بما أن الحكومة أمّنت هذا الملف، لا أرى أي تحدٍّ يواجهها باستثناء اعتراض إسرائيل على عملية تجنيس المقاتلين الأجانب. وبالتالي، تمثّل عملية تطمين إسرائيل وإزالة الفيتو على التجنيس العقبة الوحيدة. أما الدول الأخرى، فهي تفضّل عدم عودة هؤلاء المقاتلين إليها، وترى في تجنيسهم في سوريا حلاً جيداً طالما أن الحكومة السورية تضمن عدم خروجهم عن السيطرة. أما السوريون، فهم خارج عملية التفاوض التي تديرها الحكومة أصلاً حول تجنيس هؤلاء المقاتلين"، يتابع المحلل السوري.

يعتبر حسامي أن إدارة الشرع حسمت موقفها من ملف تجنيس الأجانب حتّى قبل وصولها إلى الحكم في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024. يشرح: "الإدارة تنظر إلى ملف المقاتلين الأجانب ليس باعتبار تجنيسهم بنداً للتفاوض، بل باعتبارهم أحد حواملها وأسلحتها ودروعها تجاه 'الآخرين'. وبالتالي، فإن فشلها في تجنيسهم وإدماجهم في المجتمع السوري يُعدّ فشلاً للإدارة نفسها، وفشلاً للسردية التي قدّمتها هيئة تحرير الشام حول وصولها إلى الحكم، والتي وصفت هؤلاء بأنهم 'مقاتلون من أجل الحرية قدموا للدفاع عن الشعب السوري وحقه في تقرير مصيره وإزالة نظام الأسد'. ومن هنا، فإن فشل التجنيس قد يُشكّل قطيعة مع هذه السردية، ويُعطي شرعية لسرديات أخرى ترى فيهم مجرّد إرهابيين قدموا لأجل أجندات غير سورية، وهو ما يُعدّ ضربة للإدارة السورية".

"حكومة الشرع أمّنت هذا الملف، لا أرى أي تحدٍّ لذلك سوى اعتراض إسرائيل. عملية تطمين إسرائيل تمثّل العقبة الوحيدة. الدول الأخرى تفضّل عدم عودة هؤلاء المقاتلين إليها. أما السوريون، فهم خارج عملية التفاوض التي تديرها الحكومة حول تجنيس هؤلاء المقاتلين"

"أخلاقيات" سلطة الشرع

إلى ذلك، يرى الناشط عمر شاهر رحال أن مسألة تجنيس المقاتلين الأجانب "لا تشكّل أي خطر على الديموغرافيا السورية، فعددهم لا يتجاوز 3500 مقاتلاً، وهو عدد غير مؤثر". لكنه يستدرك في حديثه إلى رصيف22 بالقول إن هذا التوجّه "يُظهر أخلاقيات السلطات السورية الجديدة التي ترفض نكران جميل المقاتلين الأجانب الذين ساعدوا الثورة السورية، مثلهم مثل إخوتهم السوريين".

ويثق رحال في أن "السلطات السورية تضمن بناء جيش وطني يحمي جميع السوريين، وهذا في حد ذاته ضمان وتعهّد من السلطة أمام الشعب الذي آمن بها عقب نجاحها في 'ردع العدوان'. وما يؤكد ذلك هو وجود بوادر ملموسة لتخلّي هؤلاء المقاتلين عن أي نهج متطرّف، وقبولهم بأن يكونوا جزءاً حقيقياً من سوريا التي سعوا إلى تحريرها".

تحديات وحلول

من جهته، يلفت الباحث السوريّ المتخصّص في الحركات الإسلاميّة، حسام جزماتي، إلى أن "كل الفرقاء في الحرب السورية لم يرفضوا وجود مقاتلين أجانب. الجميع استقدمهم؛ نظام الأسد، والمعارضة المسلحة، والكرد، وبالتأكيد داعش. الجميع استقدم مقاتلين أجانب لتدعيم موقفه الميداني".

ويتابع جزماتي حديثه لرصيف22: "السلطة عيّنت أجانب في الجيش وأعطتهم رتباً، لكن حتى تاريخه لم تمنحهم الجنسية، ما يعني أنهم أجانب في جيش سوري. ولم تكتفِ السلطة بمنح أجانب رتباً في الجيش، بل منحت أجانب آخرين حظوةً في وظائف مدنية حكومية ذات أهمية أكثر من تلك العسكرية، مثل أبو مريم الأسترالي، وهو أحد أصحاب السلطة الكبيرة على سير العملية الاقتصادية في البلاد، إضافةً إلى شخص تونسي مسؤول عن اللجنة الوطنية للدراما".

وينبّه جزماتي إلى أن السلطة السورية اليوم، بالمجمل، "تُهمل نقاش هذه النقطة بين السوريين، وتهتم بتحصيل قبول أمريكي لها. أما عن حاضنة السلطة في إدلب والشمال السوري، فهي لا تجد مشكلة مع تجنيس المقاتلين الأجانب وضمّهم، على اعتبار أنهم 'رفاق الثورة'، وربما يكونون للبعض أقرب من سوريٍّ آخر كان يرمي البراميل أو يصفّق لها. وذلك لردّ الجميل لهم من جهة، وخوفاً عليهم من مواجهة الموت والإعدام حال العودة إلى بلدانهم من جهة أخرى".

ويلفت المحلل السوري إلى "كتلة أخرى وازنة من السوريين ترى الموضوع ضرباً من الخيال، وتنظر إليه بكامل الاستهجان والقلق، وتعتبر المقاتلين الأجانب خطراً على البلاد ونسيجها، وعلى المنطقة ككل، وترى أنه يجب طردهم خارج سوريا كي لا تُوسم البلاد بأنها مجمّع للإرهاب".

أما عن وجهة نظره الشخصية، فيرى جزماتي إمكانية منح هؤلاء المقاتلين "فرصة حياة جديدة في سوريا، دون تسليمهم أيّ مركز في السلطة أو الجيش، حيث لا حاجة إلى ذلك"، مشيراً إلى "فكرة مغلوطة عبّر عنها الأمريكيون حول تفهّمهم حاجة الشرع إلى دمج الأجانب لتفادي تهديدهم للحكم، لكنهم لن ينقلبوا على السلطة إن لم يأخذوا حصّتهم من الكعكة. ربما بعضهم متمسّك بالرؤى الإسلامية أكثر مما تفعل سلطة الشرع، وهذا أمر يمكن معالجته، لكنهم لا يشكّلون تهديداً لحكم الشرع. وعليه، يمكن منحهم إقامات ضمن سوريا لممارسة الحياة المدنية والأعمال الخاصة، لا العامة، مع أخذ تعهّدات بعدم تشكيل خطر على أيّ دولة أخرى".

يعتقد جزماتي أن هذا "يمكن أن يكون حلّاً بعد معالجة القصة من الناحية القانونية، ودراستها عبر نقاش سوري عام"، موضحاً أنهم "لا يؤثّرون بأعدادهم على الديموغرافيا السورية، خصوصاً وأن بعضهم تزوّج سوريات وأسّس عائلات، عدا عن أن بعضهم مضطهد في بلاده ولا يمكنه العودة" على غرار الأويغور.

مأزق العسكرة

ويعتقد الناشط السياسي كميل سليمان، وفق حديثه إلى رصيف22، أن أكبر تحدٍّ يواجه الإدارة السورية خلال عملية دمجها للمقاتلين الأجانب ضمن نسيج المجتمع السوري، هو نيّتها دمجهم مع المحافظة على كون حرفتهم التي يعتاشون منها هي العسكرة.

ويضيف أنها تخاطر بتجنيسهم على أكثر من صعيد، وتجابه أكثر من تحدٍّ؛ أوّلها أنها تقود دولة شبه مدمّرة، وفي الدول المشابهة التي تخرج مفلسة ومنقسمة بعد حرب أهلية طويلة، يختار قادتها غالباً خفض الإنفاق العسكري وتقليل عديد الجيش، لكن الإدارة الحالية يبدو أنها تفعل العكس تماماً عبر ضمّ آلاف المقاتلين الأجانب، وتغفل عن كون هؤلاء اعتادوا ميزات استثنائية، سواء مالية أو في ما يتعلّق بنطاق خصوصيتهم واستقلاليتهم عن بقية الفصائل.

معنى هذا، والحديث ما يزال لسليمان، أن هؤلاء إمّا سيحافظون على ميزاتهم، بما يعني إنفاقاً أكبر وعدم مساواة داخل المؤسسة العسكرية، والعودة إلى المنطق التفضيلي الذي كان النظام الساقط يعامل به بعض الفرق العسكرية مثل الحرس الجمهوري، أو سيخسرون ميزاتهم، وبالتالي قد يتحوّلون إلى ما يشبه حال الانكشارية العثمانية، التي تحوّلت مع تضاؤل عائداتها، جرّاء تعطّل قدرة العثمانيين على مواصلة التوسّع، إلى عامل قلاقل داخلي".

ثاني التحدّيات، بحسب سليمان، أن "دمجهم مع عدم إحداث تغيير نوعي في طبيعة عملهم، يعني بالضرورة أن يحافظوا على البُنى الأساسية لأفكارهم الجهادية، خصوصاً وأن المتداول في حالة الأويغور -على سبيل المثال- كان المحافظة على جسم فصيلهم كما هو، دون دمج أفراده في فصائل أخرى. ويتساءل سليمان: فإن كان الإدارة عاجزة عن دمج هؤلاء مع عسكريين مثلهم، فكيف ستنجح عملية الدمج مع البيئة المدنية؟، مستخلصاً "عمليًّاً، ما يحدث هو خلق سبب دستوري لوجود طرف ضمن مفاوضات اقتسام سوريا ما بعد الأسد، فهؤلاء عمليًّاً يطلبون ثمن موقفهم، والإدارة تقدّم سبباً قانونيًّاً لدفعه".

رؤى متناقضة للعقد الاجتماعي

بدوره، يعتقد الناشط المدني جودت صبح، أن "نجاح عملية إدماج المقاتلين الأجانب في المجتمع السوري يتطلّب إعادة إنتاج للهوية الوطنية السورية، باعتبارها –وإن كان هذا افتراضاً وتجريداً للمسألة– العقد الاجتماعي الذي تعاقد السوريون عليه. بما يجعل عملية إدخال مكوّن جديد تتطلّب تعديلاً للعقد المبرم، لا سيّما".

ويلفت صبح، في حديثه إلى رصيف22، إلى أن "الهوية الوطنية السورية تبدو اليوم متهلهلة وسائلة، وليس مردّ ذلك انهيار الهوية نفسها، بل أنها لم تعد محطّ إجماع المكوّنات. فجزء من السوريين، والذين تشكّل الأقليات القسم الوازن فيه، يرى أن المركز الصلب لهذه الهوية قد طرد من هم على طرفها بعيداً وأقصاهم، لتظهر حقيقة الوطنية السورية ليس بوصفها هوية للجميع، بل رؤية جزء من الكل عن سوريا".

كما يستدرك بأن "من تولّى الوصاية على الهوية السورية وأعاد إنتاجها –وهي الإدارة الجديدة– لم تكن مرنة كفاية لاحتواء التصدّعات التي بدأت مع اندلاع الثورة أصلاً، بل تصلّبت إلى حدٍّ ظهرت فيه الهوية السورية مجرّد خطاب دعائي وإقصائي تجاه مصالح بقية المكوّنات"، متساءلاً: كيف لهوية عجزت عن إدماج الكرد أن تنجح في إدماج الشيشان والأويغور؟

ويذكّر صبح بأن "سردية هؤلاء عن سبب قدومهم إلى سوريا تتناقض تماماً مع كلّ ما يؤمن به بقية السوريين. لذا، تستحيل أيّ إعادة إنتاج لهوية سورية جامعة ما لم تكن العلمانية صلبها، بمعنى تحييد الانتماءات الأولية للأفراد ليكونوا ضمن الفضاء العام مواطنين فقط، دون أيّ فضلٍ آخر. وهو أمر يتّضح مدى صعوبته على المقاتلين الأجانب، الذين يرون الشام (حيث يرفضون إطلاق اسم سوريا حتى لحمولة الاسم الحضارية ذات الخلفية السريانية) ملكاً لله، ولا يرون في تاريخ سوريا سوى بضع لحظات، كاللحظة الأموية والأيوبية، على عكس بقية السوريين الذين يرون سوريا كهوية متراكمة من هجرات متلاحقة لشعوب أضافت لسوريا جزءاً من جوهرها. بالتالي، كيف تجد وسطاً ذهبيًّاً بين نقيضين دون جدل وحوار يرفضه هؤلاء المقاتلون الأجانب، مصرّين على أن من يجب عليه التغيّر والاندماج هم السوريون، مخالفين كلّ منطق جرت عليه عمليات الاندماج عبر تاريخ البشر".

مواقف الدول الفاعلة

في غضون ذلك، تتربّع الولايات المتحدة الأمريكية على رأس الدول الفاعلة في الملف السوري، ومن مركزها المؤثِّر تتعامل واشنطن مع ملف تجنيس المقاتلين الأجانب بأسلوب متردّد. فبعد أن كان شرط إبعادهم خطاً أحمر أمريكياً في عملية قبول الإدارة السورية الجديدة ورفع العقوبات عنها، أظهرت الولايات المتحدة بعض الليونة المشروطة في هذا الملف.

وبدأت القضية مع تسليم نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون بلاد الشام وسوريا، ناتاشا فرانشيسكي، قائمة المطالب الأمريكية لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، في اجتماع خاص على هامش مؤتمر المانحين لسوريا في العاصمة البلجيكية بروكسل، في 18 آذار/ مارس الجاري.

ومن ضمن هذه الشروط، وفقاً لـ"رويترز"، عدم تولّي مقاتلين أجانب مناصب قيادية في البلاد، خصوصاً بعد قيام السلطات السورية بتعيين بعض الأجانب ومنحهم رتباً عسكرية ضمن هيكلية وزارة الدفاع الجديدة.

لاحقاً، وبحسب ما نقلت الوكالة عن مبعوث الرئيس الأمريكي إلى سوريا ولبنان، توماس بارّاك، فإن هناك "تفاهُماً وشفافية" بين الولايات المتحدة وسوريا حول خطة للسماح لنحو 3500 من المقاتلين الأجانب، معظمهم من الأويغور ودول الجوار، بالانضمام إلى الفرقة 84 من الجيش السوري، معتبراً أنه من الأفضل ضمّ هؤلاء المقاتلين ضمن مشروع للدولة بدلاً من إقصائهم.

ما بين رغبة السلطة في إظهار "العرفان بالجميل" لهم، في مقابل الدم السوري الذي تورّطوا في إراقته، يبقى ملف تجنيس المقاتلين الأجانب في سوريا أحد أعقد الملفات على طاولة حكومة الشرع؛ فهل تنفّذ إرادتها دون اعتبار لاعتراض شريحة كبيرة من السوريين؟

ويشكّل المقاتلون الأجانب مصدر قلق للدول الأوروبية أيضاً، وفق ما أوضح مسؤولين أوروبيين لوزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، قبل أسابيع، مع تشديدات على ضرورة التخلّص من "المقاتلين الجهاديين". من جهته، طالب المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير أو بيدرسون، السلطات السورية بمعالجة المخاوف المتعلقة بالإرهاب، بما في ذلك ملف المقاتلين الأجانب.

وفيما لا يوجد موقف علني روسي واضح حول تجنيس المقاتلين الأجانب في سوريا، إلا أن تقارير متعددة تشير إلى تحفّظ موسكو، خلال اللقاءات الثنائية مع وفود رسمية سورية، على هذا الأمر نظراً لعلاقاتها المتوترة مع الحركات الإسلامية في آسيا الوسطى.

وتملك أنقرة، الداعم الأول لإدارة أحمد الشرع، بعض التوجّسات من هذا الملف، لما يحمله من تأثيرات على حدودها في المقام الأول، ولإمكانية خلخلة خريطة القوى على الأرض بين الفصائل المدعومة من تركيا وغيرها من الفصائل.

أما عن الموقف العربي، فيتراوح بين الرفض التام لعملية التجنيس والقلق الشديد منها. وتترأّس مصر، وبدرجة أقل كل من العراق والأردن، مسألة الرفض، لما قد يترتب على ذلك من انعكاسات أمنية على هذه البلدان الثلاثة. بينما تتخذ السعودية موقفاً متحفّظاً غير علني، خصوصاً تجاه المقاتلين أصحاب الخلفية الجهادية، لما تراه من خطورة في تحويل سوريا إلى مركز يُعاد من خلاله تصدير التطرف وتهديد الأمن الإقليمي.

وعن موقف إسرائيل من ملف الجهاديين الأجانب في سوريا، فقد تجاوزت تل أبيب هذا الملف مبدية موقفاً صلباً من الرئيس الشرع وحكومته بشكل عام، حيث اعتبرت على لسان مسؤوليها مراراً وتكراراً أنها حكومة "إسلامية متطرّفة متنكرة"، وقد صرّح رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زمير، تموز/ يوليو 2025، بأنه "لن نسمح بتحوّل جنوب سوريا إلى معقل إرهابي"، كما تقوم إسرائيل باستهداف قوات الشرع بشكل متكرّر ومكثف منذ إسقاط نظام الأسد، تحت ذرائع حماية الدروز وتأمين حدودها الشمالية من خطر الجهاديين في دمشق.

ختاماً، يبقى ملف المقاتلين الأجانب وتجنيسهم أحد أعقد الملفات على مائدة الإدارة السورية الانتقالية، خاصة مع وجود دلائل على تورّط بعضهم في الدم السوري المسال في سياق العنف الطائفي في الساحل والسويداء وغيرها من المناطق، ما يوجب على الحكومة السورية التفكير في هذا الملف من منطلق الحق السوري بالقدر الأكبر من نظرة "العرفان بالجميل". 

*اسم مستعار بناءً على طلب المصدر لاعتبارات السلامة الشخصية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image