هل تواجه السودان ومصر تبعات تصرّفات إثيوبيا المائية؟

هل تواجه السودان ومصر تبعات تصرّفات إثيوبيا المائية؟

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الاثنين 6 أكتوبر 202510 دقائق للقراءة

تشهد مصر والسودان، منذ أيام، أزمةً بيئيةً متصاعدةً ناتجةً عن ارتفاع منسوب مياه نهر النيل في مناطق عدة، ما أدّى في مصر إلى غمر المياه منازل وأراضي زراعية في محافظتَي المنوفية والبحيرة، في مشهد أعاد إلى الأذهان المخاوف من الفيضان الموسمي، وأثار تساؤلات واسعةً حول إدارة الموارد المائية في ظلّ استمرار أزمة سدّ النهضة الإثيوبي ومواصلة الجانب الإثيوبي ملء بحيرته دون تنسيق مع دول المصبّ.

وبينما تصرّ وزارة الموارد المائية والريّ المصرية على أنّ ما يحدث نتيجة "تصرّفات أحادية متهورة" من الجانب الإثيوبي، يرى خبراء المياه أنّ سوء إدارة السدّ، إلى جانب التعدّيات على حرم النيل والبناء العشوائي على الأراضي الزراعية، جميعها عوامل تفاقم حجم الأضرار في مصر.

وواصلت وزارة الريّ والموارد المائية السودانية، اليوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، تحذيراتها لـ"جميع المواطنين على ضفاف النيل" لاتخاذ كل ما يلزم لحماية أرواحهم وممتلكاتهم إزاء ارتفاع منسوب مياه النيل في مناطق عدة والتصريف القياسي لسد جبل الأولياء.

مشاهد غرق بعض الممتلكات والأراضي في البلدين تجدّد السجال والاتهامات بين القاهرة وأديس أبابا… فهل الظواهر البيئية في مصر والسودان من تبعات سدّ النهضة؟ وما مدى خطورتها؟

في مصر، شهدت محافظات المنوفية والبحيرة والغربية غرق منازل عدة لمواطنين على جانبَي نهر النيل، وسط اتهامات متزايدة من خبراء مصريين لإثيوبيا بـ"سوء إدارة الموارد المائية"، وغياب التنسيق بين دول المصبّ في إدارة مياه نهر النيل، بعد ارتفاع ملحوظ في منسوب المياه خلال الأسابيع الأخيرة. وتداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي على مدار الأيام الماضية، مقاطع فيديو تُظهر خسائر ارتفاع منسوب مياه نهر النيل في مناطق عدة.

وكانت مشاهد غرق عدد من المنازل وغمر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في قرية دلهمو التابعة لمركز أشمون في محافظة المنوفية، شمالي البلاد، الأكثر إثارةً للقلق.

السدّ الإثيوبي متّهم أوّل

واتهمت وزارة الموارد المائية والريّ المصرية، في بيان رسمي، إثيوبيا بتهديد أمن واستقرار شعوب دول المصبّ، لافتةً إلى أنها تتابع تطورات فيضان نهر النيل لهذا العام، وما ارتبط بها من "تصرّفات أحادية متهوّرة" من جانب إثيوبيا في إدارة سدّها الذي تعدّه القاهرة "غير شرعي، ومخالفاً للقانون الدولي"، مستدركةً بأنّ هذه الممارسات تفتقر إلى أبسط قواعد المسؤولية والشفافية، وتمثّل تهديداً مباشراً لحياة وأمن شعوب دول المصبّ.

في المقابل، لم يوجّه السودان أيّ اتهام لإثيوبيا بالمسؤولية عن الظواهر المتصلة بفيضان المياه وغمر بعض المساحات مؤخراً، على الرغم من التبعات الجسيمة التي شملت غرق منازل ومرافق حيوية، ونفوق أعداد كبيرة من الماشية وتلف محاصيل زراعية.

في المقابل، رفضت الحكومة الإثيوبية الاتهامات المصرية ونفت أن يكون لسدّ النهضة دور في هذه الظواهر البيئية الأخيرة في البلدين، بل عدّت أنّ التبعات كانت لتصبح "أكثر خطورةً" لو لم يكن السدّ موجوداً، ملمّحةً إلى أنّ الأمطار الاستثنائية أجبرت السلطات على غلق بعض بوابات السدّ. وبخصوص التنسيق مع دول المصبّ، أكدت إثيوبيا وجود تنسيق وتبادل بيانات مع الجانب السوداني.

لكن الخبير المائي المصري أحمد فوزي دياب، يقول إنّ المشاهد الأخيرة لفيضان المياه في مصر غير مرتبطة بفيضان طبيعي لنهر النيل، وإنما هي نتاج سوء إدارة من الجانب الإثيوبي لسدّ النهضة. ويشرح أنّ المسؤولين الإثيوبيين قاموا بملء البحيرة بشكل كامل قبل حدوث الأمطار في إثيوبيا، وتالياً مع موجات الأمطار التي اجتاحت البلاد أخيراً، لم تعد لدى السدّ القدرة الكاملة على استيعاب كميات إضافية من المياه، فاضطر الجانب الإثيوبي إلى فتح بوابات الطوارئ.

ويضيف دياب: "بوابات الطوارئ بصفة عامة لا يتم فتحها إلا عندما يكون هناك خطر داهم على جسم السدّ نفسه. كان من المفترض أن يقوم المسؤولون الإثيوبيون بتوليد الكهرباء وتشغيل التربينات. لكن هذا لم يحدث للأسف. وعندما فتحت بوابات الطوارئ فجأةً، أصبحت تصريفات المياه فجائيةً تتجاوز 700 متر مكعب في اليوم".

وينبّه دياب إلى أنّ ذلك يضاف إلى "الفيضان الطبيعي الذي يأتي في هذا الوقت من العام من الهضبة الاستوائية، مع كمية المياه القادمة من النيل الأزرق، وكذلك كمية المياه القادمة من نهر عطبرة في السودان، ما أدّى إلى المشكلات التي نراها الآن وتتمثّل في غرق بعض الأماكن نتيجة الارتفاع المفاجئ لمستوى نهر النيل، وهي ليست مشكلةً طبيعيةً وإنما ناتجة عن سوء إدارة".

"طرح النهر" و"البناء العشوائي المخالف على الأراضي الزراعية" من بين الأسباب التي يفسّر بها خبراء مصريون مشاهد الغرق الأخيرة جرّاء ارتفاع منسوب نهر النيل. فلماذا تتهم السلطات المصرية السدّ الإثيوبي فقط بـ"تهديد أمن واستقرار شعوب دول المصبّ"؟

يتفق معه الدكتور أستاذ الموارد المائية، عباس شراقي، الذي يقول لرصيف22، إنّ المياه المصرية محدودة نظراً إلى محدودية مواردها. لذلك، تتم إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي وهي لحلّ مشكلة نقص المياه وزيادة عدد السكان، لأنّ التحديات المائية في مصر كبيرة، وأهمها محدودية حصة القاهرة المائية. حالياً، توجد بعض المشكلات وأصلها من منابع النيل وسدّ النهضة نتيجة التصريف الزائد منه، وعدم التشاور والتنسيق مع مصر والسودان، والتخبّط في تشغيل السدّ، بما أدّى إلى فيضانات كبيرة في السودان، يردف شراقي، مؤكداً أنّ "السدّ العالي قادر على الاحتفاظ بهذه المياه في بحيرة ناصر، وفتح البوابات يتم حسب الحاجة".

ويواصل شراقي: "أحياناً، تزيد وزارة الريّ (المصرية) ولأسباب فنية، تحسين نوعية المياه وتقليل تركيز الملوّثات، من تدفّق مياه النيل وهو ما يُغرق بعض الأراضي ونسمّيها أراضي 'طرح النهر'، وهي أراضٍ بين جانبي نهر النيل منها بعض الجزر التي بمجرد ارتفاع سطح النهر تتعرّض للغرق، وهذه الجزر ليس فيها عمران رسمياً ولا هي مخصّصة للزراعات وبعض المواطنين يأخذونها من الوزارة كحق انتفاع لأجل الزراعة أو تربية المواشي، وهم على علم تامّ بأنّ هذه الأراضي 'طرح نهر'، وبأنها معرّضة للغرق".

يضيف شراقي، أنّ أراضي "طرح النهر" يمكن استغلالها في فترة الشتاء التي ينخفض فيها منسوب المياه، لأنّ الاحتياجات المائية للزراعة تقلّ، لكن المؤسف أنه يتم استغلالها على مدار فصول العام، عادّاً أنّ ما يحدث الآن ليس فيضاناً لأنّ هذه الأراضي داخل النهر وهي جزء أصيل من نهر النيل نفسه.

لماذا بعض المناطق أكثر تضرراً؟

إلى ذلك، يوضح دياب أنّ محافظتَي المنوفية والغربية هما الأكثر تضرراً بسبب زيادة ممارسة البناء العشوائي المخالف على الأراضي الزراعية، لافتاً إلى أنها معرّضة للانحسار خلال أيام قليلة نتيجة التسرّب.

ويلفت دياب إلى أنّ ما يحدث "مفيد" للجانب المصري في عمل نظام محاكاة وسيناريوهات مختلفة لاستيعاب أي مشكلات طارئة، متابعاً بأنّ هذه الأراضي تقع في نطاق أملاك وزارة الريّ والموارد المائية، وتحصل عنها من المواطنين على حق انتفاع في الزراعة وحتى في البناء. "هذه التعدّيات أصبحت مشكلةً اجتماعيةً أمنيةً ولا بدّ أن تبحث الدولة عن حلّ يسمح بسرعة سريان المياه. ومصر بصفة عامة في وضع آمن لاستيعاب أيّ كميات من المياه"، يردف.

أما شراقي، فيرى أنّ حوادث غرق بعض المناطق ليست خطيرةً، لافتاً إلى أنّ معظم المقاهي والنوادي النيلية غير مهدّدة، منبّهاً إلى أنه ليست كل أراضي طرح النهر مثل بعضها، ولا سيّما أنّ المياه مرّت بمحافظات عدة قبل أن تصل إلى المنوفية. ويشدّد شراقي على أنّ كورنيش النيل أعلى من النيل نفسه، وحالياً عندما يرتفع النيل يسجَّل الارتفاع بالسنتيمتر وليس بالأمتار، وتالياً لن يتأثّر بالارتفاع الحالي لمنسوب مياه نهر النيل.

تقييم إدارة الموقف

وعن إدارة الموقف الحالي من قبل السلطات المصرية، يوصي دياب بالعمل على شقّين أساسيَّين: الأول هو إعداد السيناريوهات بالنسبة للمستقبل وما يسمّى بنموذج محاكاة وتوقّع، ولا بدّ -والحديث لدياب- أن تتم عليها عمليات اختبار، ولا تتم إلا إذا كانت معامل التخزين مرتفعةً في مفيض توشكى. ويعقّب بأنّ الإدارة المصرية في هذا الجانب، حتى الآن، تتم بشكل جيد.

والشقّ الثاني يتمثّل في تضرّر المواطنين، ويلفت دياب إلى أنه جرى إبلاغ المواطنين وتحذيرهم بأنّ هذه المناطق معرّضة للغرق، خاصةً أننا في فصل "العروة النيلية" -أي شهرَي تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر- بين الزراعات الصيفية والشتوية، وعليه تأثّر الزراعات محدود، ولكن التأثير يشمل بصورة أساسية المباني المشيّدة في حرم النهر.

ويضيف دياب أنّ مصر لديها القدرة على استيعاب هذه الكميات من المياه، ومنذ فترة قامت الإدارة المصرية بتفريغ السدّ العالي استعداداً لاستقبال هذه الكميات من المياه، وفتحت مفيض توشكى وتقوم بما يسمّى "غسيل النهر"، ويعني إزالة المياه الراكدة والملوّثة وأيّ رواسب قاعية وطردها في البحر المتوسط للحفاظ على الصحة العامة للمواطنين، وأيضاً لمنع انتشار الأوبئة والأمراض وخفض تكلفة معالجة المياه بالنسبة لمياه الشرب.

بدوره، يوضح رئيس قطاع مياه النيل الأسبق في وزارة الري، عبد الفتاح مطاوع، أن الموسم الحالي هو موسم فيضان ويبدأ في شهر آب/ أغسطس ويستمر حتى شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، ويكون التصرف أعلى في هذه الشهور لأنّ السدود المبنية في إثيوبيا والسودان تحجز مياهاً في بداية موسم الفيضان، ثم تُخرج فائض المياه من أجل تشغيل توربينات المياه.

وعن متابعته للوضع في السودان، يقول مطاوع لرصيف22، إنه لا يرجّح وجود استعدادات في السودان للتعامل مع الموقف، وهو ما ينذر بالكثير من المخاطر نتيجة عدم الاستفادة من فائض المياه، وبناءً عليه الوضع في السودان الآن أكثر خطورةً.

في حين ليس واضحاً مدى استعداد السودان لمواجهة فيضان المياه، يقول دياب إنّ ارتفاع منسوب المياه "مفيد" للجانب المصري في عمل نظام محاكاة وسيناريوهات مختلفة لاستيعاب أيّ مشكلات طارئة. لكن استعداد الأهالي في المناطق على ضفاف النهر لمثل هذه الظواهر البيئية المفاجئة ليس واضحاً

ثقافة البناء العشوائي

وكانت ورقة بحثية قد رصدت أنّ مصر تواجه نمواً استيطانياً كبيراً غير مخطط له على الأراضي الزراعية منذ خمسينيات القرن العشرين، وأنّ الفهم الكامل للنمو الاستيطاني غير المخطط له على الأراضي الزراعية لا يزال يفتقر إلى الفهم. بحثت الدراسة في أسباب وكيفية حدوث هذا النمو العمراني غير المخطط له في محافظة أسيوط جنوبي البلاد، وكشف تحليل النظام المؤسسي للأراضي بين عامي 1805 و2020 عن أنّ العشوائيات في أسيوط مدفوعة بقوى مؤسسية وسياسية وثقافية واقتصادية، وتنجم عن مزيج من السياسات العامة غير المتماسكة واستخدام الأراضي وحقوق الملكية.

وتشير هذه النتائج إلى أنّ خطة التنمية الوطنية الحالية ستؤدي على الأرجح إلى انتكاسات مماثلة إذا لم تُعالج تعقيدات نظام الأراضي، كما كشفت أنّ العديد من المؤسسات غير الرسمية والقيم والعادات المحلية قد تُشكّل أيضاً عقبات كبيرةً أمام التنظيم الفعال لتنمية الأراضي الزراعية في منطقة وادي النيل والدلتا.

يُذكر أنّ وزيرة التضامن الاجتماعي المصرية مايا مرسي، أعلنت السبت 4 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، في بيان رسمي، عن تقديم الدعم والمعونة للمتضررين من ارتفاع منسوب مياه نهر النيل من خلال الهلال الأحمر المصري، ووجهت بإجراء مسح ميداني لتقييم الأضرار والاحتياجات بالتنسيق مع الجهات المعنية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image