يواجه السودان هذا العام، مع حلول فصل الخريف، موسم تساقط الأمطار في أنحائه المختلفة، شبح السيول، والفيضانات المدمرة، للعام الثالث على التوالي، في ظل الارتفاع المفاجئ لمنسوب مياه النيل، بعد عجز إثيوبيا عن إكمال الملء الثاني لسد النهضة، وفي ظل ضعف البنية التحتية، وتراكم النفايات في العاصمة الخرطوم، والعديد من المدن الأخرى، وامتلاء مصارف المياه بمخلفات الأضاحي، وما ينتجه ذلك من تلوث بيئي يؤدي إلى توالد الذباب والبعوض، وهما الناقلان الأساسيان للكوليرا والملاريا، بالإضافة إلى الحمّيات النزفية مثل "الصفراء"، و"الضنك"، و"الوادي المتصدع"، و"الشيكونغونيا".
الفيضانات في السودان مأساة متكررة
تتمثل الإشكالية الرئيسة لموسم الخريف في السودان، أنه يتزامن مع ارتفاع منسوب مياه النيل، جراء تساقط الأمطار بكثافة على الهضبة الإثيوبية، وهو ما يؤدي إلى صعوبة تصريف المياه في مجاريها الطبيعية، وإلى حدوث فيضانات موازية في الأنهر الدائمة والموسمية في شرقه، والتي تلتقي بنهر النيل، كنهر الدندر، ونهر الرهد، ونهر عطبرة، أو في نهر القاش النابع من المرتفعات الإريترية، والذي تتدفق مياهه في سهول مدينة كسلا، وهي حالة لم تكن تجري في مصر، حينما كانت تتعرض للفيضانات قبل بناء السد العالي.
وفي هذا الإطار، تعرض السودان خلال العقود السبعة الماضية للعديد من الفيضانات والسيول في مواسم الخريف في أعوام 1946، و1988، و1996، و2003، و2019، و2020، فيما شهد فيضان العام الماضي أعلى ارتفاع في مناسيب النيل، إذ سجلت محطة الخرطوم ارتفاعاً قدره 17.68 متراً مكعباً، بينما سجلت المحطة في 2019 ارتفاعاً قدره 17.26، وفي 2013 ارتفاعاً قدره 17.4، وفي 1988 ارتفاعاً قدره 12.4.
ومع الارتفاع غير المسبوق لمناسيب مياه النيل العام الماضي، وكثرة الأمطار، اجتاحت الفيضانات والسيول نحو 16 ولاية سودانية، ولقي مئة وشخصاً حتفهم بسببها، في حين تأثر بها أكثر من 500 ألف شخص بشكل مباشر، وأدت إلى تدمير أكثر من 100 ألف منزل، وتشريد سكانها.
الفيضانات والملء الثاني لسد النهضة
لم تتعاون إثيوبيا مع جارتها السودان في تقديم أي معلومات متعلقة بتفاصيل الملء الثاني لسد النهضة خلال هذا العام، ما أثار ارتباكاً لدى الجانب السوداني في التعامل مع خزان الروصيرص، جنوب غرب البلاد. فإدارة الخزان تقوم كل عام بفتح بواباته استعداداً لتصريف المياه أثناء ارتفاع منسوب مياه النيل الأزرق، غير أنها امتنعت عن ذلك هذا العام حفاظاً على المياه الموجودة في الخزان، حتى لا تصاب الجروف النيلية، والأراضي الزراعية، بالجفاف، فأوقفت تصريف ما يزيد عن مليار متر مكعب من المياه.
السودان يواجه هذا العام، مع حلول فصل الخريف، موسم تساقط الأمطار في أنحائه المختلفة، شبح السيول، والفيضانات المدمرة، للعام الثالث على التوالي، في ظل الارتفاع المفاجئ لمنسوب مياه النيل، بعد عجز إثيوبيا عن إكمال الملء الثاني لسد النهضة
ومع مواصلة إثيوبيا للملء الثاني لسد النهضة، خلال شهر تموز/ يوليو الجاري، بدا واضحاً للعديد من المراقبين أنها لن تتمكن من إيصال المياه في بحيرة السد إلى منسوب 590 متراً، وهو الارتفاع الذي يُمكّن بحيرة السد من احتجاز ما لا يقل عن 15 مليار متر مكعب.
وبينما تحتاج إثيوبيا إلى أن ترفع السد 30 متراً جديدة بحلول آب/ أغسطس القادم، لإكمال التعبئة الثانية، يتوقع خبراء سودانيون ومصريون عدم قدرة إثيوبيا في هذا الوقت القصير على بناء أكثر من 15 متراً؛ لتحتجز من 5 إلى 7 مليار متر مكعب، بدلاً من الـ13 مليار متر مكعب المُعلنة.
وبطبيعة الحال، أدى هذا التذبذب في الملء الثاني لسد النهضة إلى ارتفاع مناسيب النيل الأزرق، وارتباك الخطط التشغيلية للسدود السودانية، فقررت وزارة الري السودانية مؤخراً فتح عدد من بوابات سد الروصيرص، إلى جانب الفتح الاضطراري لبوابتين في سد مروي في الولاية الشمالية؛ تحسباً للفيضانات، قبل إعلان غرفة الطوارئ والفيضانات في مدينة مروي حالة الطوارئ، نتيجة وصول كميات كبيرة فوق المتوقع من المياه إلى بحيرة السد.
في الوقت الذي أنشأت فيه عدد من الولايات السودانية غرف "طوارئ الخريف"، وشرعت في معالجات التصريف المتمثلة في إنشاء حفريات جديدة، وتطهير المصارف الموجودة، وصيانتها، وتدعيم التروس النيلية، وصيانتها، ونظافة مسارات الخيران والأودية، وتدعيم التروس الواقية من السيول، وتركيب العبّارات الخرصانية المسلحة.
بداية تداعيات السيول
وشهدت مدينة الفاو في ولاية القضارف، في ثالث أيام عيد الأضحى، أولى حالات التأثر بهطول الأمطار، حيث اجتاحت مياه وادي "البار"، الذي يسيل من منطقة البطانة، مناطق واسعة من المدينة، والقرى المجاورة لها. ووصل منسوب المياه، وفقاً لمنظمات مجتمع مدني محلية، إلى 120 سنتيمتراً، ما أدى إلى غرق الجزء الجنوبي من سوق المدينة، الذي يشمل المنطقة الصناعية بورشها، ومخازن السوق ودكاكينه، وهيئة الرهد الزراعية، ومحطة مياه الفاو، ومباني الري، ومبنى الكهرباء، إلى جانب غرق إحدى المدارس، ومباني مؤسسات الشرطة، والمحكمة، والنيابة، والمرور.
وأوضحت تقارير المتابعة الصادرة من الفاو، أن سيول وادي "البار"، الذي حدث آخر فيضان كبير له في عام 2002، دمرت قرية كاملة، وألحقت الأضرار بأربع قرى أخرى، كما اجتاحت ستة أحياء في المدينة، نتيجة سوء التصريف؛ بسبب عدم صيانة المجاري قبل موسم الأمطار.
وبيّنت أن مئات الأسر فقدت المأوى، ونزح بعضها إلى المدارس، كما تزايدت أسعار السلع الضرورية، وبرزت أزمة في رغيف الخبز، مع تزايد مخاطر الثعابين، وتوقف ضخ المياه النقية، متوقعةً تدهور الوضع الصحي، في ظل اختلاط مياه السيول بمياه الصرف الصحي.
الوضع البيئي مع الفيضانات والسيول
تزداد الخطورة المتوقعة لموسم الفيضان هذا العام، مع تنامي التلوث البيئي في المدن السودانية المختلفة، بسبب ظاهرة تراكم النفايات، وتكدسها، وتأخر نقلها إلى المحطات الخارجية، إذ تنتج العاصمة الخرطوم نحو 55 طناً من القمامة يومياً، إلى جانب 14 طناً من النفايات الطبية من المستشفيات، والمراكز الصحية، حسب إحصائيات غير رسمية. ومع دخول فصل الخريف، وتزايد النفايات جراء مخلفات الأضاحي، يبدو أن الخطة الحكومية للتعامل الاستثنائي مع الحالة، غير واضحة.
يقول الباحث في الشأن البيئي السموأل بدوي، لرصيف22، إنه على الرغم من قيام ولاية الخرطوم، أكثر ولايات السودان تلوثاً، بفتح العديد من مصارف المياه لتنظيفها، إلا أن هناك تأخيراً كبيراً من قبل الجهاز الحكومي في الاستعداد لموسم الأمطار، والتعامل الوقائي معه، وفقاً لتقديرات ورؤى جديدة، وهو ما ظهر جلياً في الأزمة المتكررة كل عام، والمتعلقة بتكدس مخلفات الأضاحي، إذ كان من الواجب على السلطات التفكير في خطة جديدة لتلافي هذا الوضع، والتحضير له جيداً قبل حلول عيد الأضحى.
تزداد الخطورة المتوقعة لموسم الفيضان هذا العام، مع تنامي التلوث البيئي في المدن السودانية المختلفة، بسبب ظاهرة تراكم النفايات، وتكدسها، وتأخر نقلها إلى المحطات الخارجية، إذ تنتج العاصمة الخرطوم نحو 55 طناً من القمامة يومياً
وأشار إلى أنه زيادة على التقصير الحكومي في استحداث طرق جديدة للتعامل مع أزمة النفايات والتلوث البيئي، فمن المؤكد أن التداعيات البيئية للفيضانات والسيول تتجاوز إمكانات الحكومة، وقدراتها بشكل عام، في ظل وجود عدد كبير من الأحياء العشوائية، إلى جانب معسكرات اللاجئين والنازحين الموجودة في مناطق لا يوجد فيها أي شكل من أشكال البنية التحتية الكفيلة بامتصاص آثارها، ما يمثل تحدياً يحتاج إلى عمل دؤوب، وإلى تواصل مع المنظمات الدولية المهتمة بهذا المجال، بالإضافة إلى دور التوعية الإعلامية، لزيادة الوعي بمشكلة البيئة، وتشجيع الناس على الانخراط في برامج الإصحاح البيئي، وحملاته.
توقع انتشار وبائي في موسم الأمطار
عانت مناطق واسعة من السودان في فصل الخريف خلال السنوات الماضية، من تفشي وباء الكوليرا، وأنواع مختلفة من الحمّيات النزفية، خاصةً في عهد النظام السابق، الذي لم يكن يعترف بوجود تلك الأمراض، فضلاً عن اتخاذ إجراءات لمكافحتها.
وبناء على توقعات منظمات صحية، ومختصين، بحدوث انتشار وبائي كبير للكوليرا، والحمّيات النزفية، والملاريا، في شهري آب/ أغسطس، وأيلول/ سبتمبر القادمين؛ لوجود عدد مقدر من العوامل التي تساعد على هذا الانتشار، وحاول رصيف22 التواصل مع عدد من المسؤولين في وزارة الصحة السودانية، وتحديداً في إدارة الطوارئ الصحية ومكافحة الأوبئة، للوصول إلى معلومات دقيقة عن احتمالية تفشي تلك الأوبئة، ومدى استعداد الوزارة للتعامل معها، لكن من دون جدوى.
وفي السياق، نبه المستشار الصحي السابق لرئيس الوزراء السوداني الدكتور أمجد فريد إلى أهمية التعامل المبكر مع الأوبئة المحتملة، من خلال القدرة على توقع حجم الانتشار الوبائي بشكل مسبق، لأن ذلك يُمثل العامل الحاسم للنجاح في التحكم فيها، والتقليل من آثارها.
وأوضح أن زيادة معدل الأمطار، وفقاً للتنبؤات الجوية، وإمكانية أن يشهد السودان هذا العام فيضانات كبيرة، وتراكم النفايات في المدن، سيخلق بيئة مواتية لتوالد الحشرات الناقلة، سواء أكانت الذباب أو البعوض، تتمثل في الماء الراكد، والرطوبة العالية، وتراكم الأوساخ، خصوصاً العضوية المتخلفة عن عمليات ذبح الأضاحي.
وبيّن فريد أن فترة توالد الذباب المنزلي، وهو الناقل الأساس للكوليرا، تكون ما بين 6 و42 يوماً، بمتوسط أسبوعين في درجات الحرارة السائدة حالياً في السودان، وهو ما يرجح أن يشهد شهر آب/ أغسطس القادم موعداً لانفجار وباء الكوليرا، الذي سيبدأ في العاصمة، نسبةً لانخفاضها الكنتوري النسبي مقارنةً مع بقية المناطق.
"زيادة معدل الأمطار، وفقاً للتنبؤات الجوية، وإمكانية أن يشهد السودان هذا العام فيضانات كبيرة، وتراكم النفايات في المدن، سيخلق بيئة مواتية لتوالد الحشرات الناقلة، سواء أكانت الذباب أو البعوض"
وأكد أن الانتشار المتكرر للكوليرا في ولايات كسلا، والشمالية، ودارفور، وجنوب كردفان، خلال الأعوام الخمسة الماضية، يجعل تصنيفها بأنها أصبحت مرضاً مستوطناً، وليس مجرد وباء موسمي، على الرغم من حملة التطعيم بلقاح الكوليرا الفموي، التي انتظمت قبل سنتين، لكنها وحدها غير كافية، للتأكد من القضاء على المرض، بقدر ما أنها تفرض مهاماً جديدة، لضمان فعاليتها.
وقال فريد إنه بالنسبة إلى الملاريا، فناقلتها، بعوضة "الأنوفليس"، تحتاج إلى فترة الذباب نفسها تقريباً للتطور من بيضة، إلى يرقة، إلى شرنقة، إلى بعوضة كاملة قادرة على نقل الملاريا، في وقت يظل انتشار الملاريا يمثل خطراً حقيقياً في السودان، لكون عدد الإصابات فيه يصل إلى نصف عدد الحالات المصابة في منطقة شرق المتوسط.
وأضاف أنه في ما يخص الحمّيات الأخرى المنقولة بواسطة أنواع مختلفة من البعوض، وتحديداً الحمّيات النزفية، كـ"الصفراء، والضنك، والوادي المتصدع، والشيكونغونيا"، والتي شهدت مناطق شرق السودان انتشاراً واسعاً لها في السنوات الماضية، فهذه لا سبيل أفضل غير الوقاية منها بالرش المبكر؛ للقضاء على البعوض، ومنع توالده، بتجفيف البرك الراكدة، لافتاً إلى أن العلاج من الحمّيات النزفية بطبيعته صعب، ولا يوجد ما يمكن تقديمه غير مخفضات الحرارة، والسوائل الوريدية.
وحذر فريد من انشغال وزارة الصحة بالتعامل مع جائحة كورونا، متجاهلةً وبائيات الخريف التي قد تكون بمستوى الخطورة نفسه، إن لم تكن أخطر، إذ ينبغي الاستعداد للتصدي لها، داعياً للتأكد من جاهزية المرافق الطبية للتعامل مع الحالات العاجلة، وتوفير مخزون كافٍ من السوائل الوريدية، بعد حساب "الحوجة" المتوقعة منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين