ورزازات ليست مجرد مدينة في جنوب شرق المغرب، بل ذاكرة نابضة للفن السابع وواحدة من أكثر فضاءات السينما سحراً في العالم. على شاشاتها الكبرى عُرضت مشاهد لا تُنسى، وفي فضاءاتها انحنت عدسات كبار المخرجين، لتصوغ الواقع في لوحات بصرية آسرة. هذه "هوليوود إفريقيا" قدّمت للعالم قائمة طويلة من الأفلام والمسلسلات والوثائقيات، واحتفظت أزقتها واستوديوهاتها ومتاحفها بأرشيف متنوع يختزل لقاء حضارات متعددة. من فرنسا وأمريكا وإسبانيا إلى كوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا والبرازيل، شدّ إليها المخرجون الرحال بحثاً عن جغرافيا بصرية فريدة. ومع ذلك، يظل هذا البريق السينمائي في كثير من الأحيان مجرد صدى مرتفع بلا أثر عميق، كجعجعة بلا طحين.
بؤرة السينما العالمية
منذ أكثر من قرن، نسجت ورزازات لنفسها فهرساً سينمائياً يضاهي مكتبات كبرى المدن العالمية؛ فهنا وُلد أول شريط صُوِّر في المغرب سنة 1897، "راعي الماعز المغربي" للفرنسي لويس لوميير، وهو شريط صامت وثّق حياة رعاة الماعز في المغرب، وبعد عقود، احتضنت المدينة واحدة من أعظم كلاسيكيات السينما العالمية، "لورانس العرب" لديفيد لين، عام 1962. ثم جاءت عدسة لويس تيج لتصوّر "جوهرة النيل" سنة 1985، وبعدها بثلاث سنوات نزل مارتن سكورسيزي بكاميراته ليصنع "الإغراء الأخير للسيد المسيح". ولم تقف القائمة عند هذا الحد، بل اتسعت لتشمل أفلاماً ومسلسلات كبرى تستعيد قصص الأنبياء وسير شخصيات تاريخية مثل سليمان ويوسف ومحمد، لتصبح ورزازات مسرحاً أسطورياً يزاوج بين الواقع والأسطورة.

كانت هذه بعض الأعمال السينمائية، التي استلهمتها ورزازات في تسعينيات القرن الماضي، أما في الألفيات فعرفت المدينةُ موجةً عالمية أخرى، مع مخرجين اختاروا المدينة للتصوير فيها، ومنها: "عودة المومياء" (2001)، "الإسكندر الأكبر" (2004)، "مملكة الجنة" للمخرج البريطاني ريدلي سكوت (2005)، "بابل" (2006)، "هرقل" (2014)، ثم "كليوباترا"، وتستعد شركة الإنتاج "يونيفرسال بيكتشرز"، منذ نهاية السنة الماضية، لتصوير مشروع سينمائي آخر، يتناول شخصية الملكة المصرية كليوباترا، في ورزازات، بالإضافة إلى فيلم "غلادياتور" الذي صورت فيها نسخة منه سنة 2000، ليتم إعادة تصوير الجزء الثاني منه خلال العام الماضي، وهو العمل الذي خرج للقاعات العالمية خلال الأشهر الماضية، بميزانية تناهز 200 مليون دولار.
ورزازات، رغم سحرها السينمائي، تبقى مدينة تئن تحت وطأة غياب البنية الثقافية الحقيقية التي تليق بها، فلا قاعات عرض تستضيف جمهورها ولا تنظيم يحمي حقوق العاملين في صناعة السينما
وفي الأشهر الأخيرة، خضع للتصوير في أرجاء المدينة فيلم "الأوديسة" للمخرج البريطاني كريستوفر نولان، الحائز على عدة جوائز عالمية، بما فيها الأوسكار، بميزانية قياسية وصلت إلى 250 مليون دولار، ومن المرتقب أن يتم عرضه في شهر تموز/يوليو سنة 2026، وتدور قصة الفيلم حول الملحمة الشعرية الشهيرة "الأوديسة" للشاعر الإغريقي هوميروس.

وبخصوص المسلسلات، فإن أشهر الأعمال العالمية، انطلق بعض مشاهدها من ورزازات؛ أحد هذه المسلسلات، "صراع العروش" الذي ألفه الكاتب الأمريكي ديفيد بينيوف، ومسلسل "الهروب من السجن"، الذي صُوّرت مشاهد من موسمه الخامس سنة 2017 في فضاءات المدينة وشوارعها.
مشاهد خالدة في قلب الصحراء
أينما وضع المخرجون السينمائيون كاميراتهم في ورزازات، ثمة أماكن تتهيأ لتصبح مشاهد خالدة، من قصر أيت بن حدو الذي يبعد مسافة 30 كيلومتراً من ورزازات، ويضم تجمعات لبنايات تقليدية يحيط بها حصن دفاعي، وهو مكان استحوذ على العديد من المشاهد السينمائية، منها اتجاه الملكة دينيريس رفقة جحافلها إلى يونكاي، إلى جانب قصبة تاوريرت، الواقعة في قلب ورزازات، ويعود بناؤها إلى القرن السابع عشر الميلادي. كما يلائم ضوء المدينة الطبيعي، وجوّها القاري الحار صيفاً والبارد شتاءً، كاميراتِ المصورين. الامتياز الآخر للمدينة، يكمن في جغرافيتها الممتدة على طول طريق 1000 قصبة، من ورزازات إلى أرفود عبر تنغير، هذا دون واحات النخيل الكثيفة التي تحضنها، والمساحات المتناقضة فيها، من الكثبان الرملية والصحراء القاحلة والأودية الجافة.

لا تساهم الطبيعة وحدها في المدينة في استقبال الفن السابع، بل تحتوي كذلك على عناصر أخرى، مثل إستوديوهات التصوير، ويتوزع أغلبها في أرجاء المدينة، كإستوديو "أطلس"، الذي شُيّد سنة 1983، ويمتد على مساحة تناهز 30 هكتاراً، وإستوديو "أندروميدا"، الذي شيد سنة 1993، ويحظى بمساحة تقدّر بأربعة هكتارات، ثم إستوديو "كان زمان" الذي بني سنة 2000، وتقدر مساحته بـ40 هكتاراً، وفي سنة 2004، تم بناء إستوديو "CLA" على مساحة تناهز 160 هكتاراً، وبعدها بسنة، عرفت إستوديوهات "شينسيتا" (Cinecittà) والتي دشنها الملك محمد السادس. وللمتحف السينمائي أيضاً، والذي يقابل قصبة تاوريرت، نصيب وافر في تصوير العديد من الأفلام والمسلسلات، والذي شيد سنة 1981، من قبل الإيطاليين.
مدينة تصنع الأفلام ولا تشاهدها
مع كل هذه السمعة السينمائية المحيطة بورزازات، إلا أنها تظل خالية من أبسط ملامح هذا الفن، فلا وجود لقاعة سينمائية واحدة فيها، تفتح أبوابها للجمهور، وتقدم أفقاً جديداً للمشاهدين؛ الأمر أشبه بأن نتحدث مثلاً عن مكتبة بدون كتب! وليست حصتها من الإنتاج السينمائي، سوى مجسمات من البلاستيك والبوليستر، يلتقط أمامها السياح والزوار صوراً للذكرى ولحالات الإنستغرام والفيسبوك.

هكذا تعجز مدينة ورزازات عن تحقيق ذاتها، مختفية وراء ظلال أشرطة الكاميرا وأطلال الماضي، ومنها القاعتين السينمائيتين المسدودتين منذ نهاية القرن الماضي، ويتعلق الأمر بكل من "سينما الصحراء" و"سينما الأطلس"، اللتين كانتا خلال السبعينيات والثمانينيات مقراً لكل عشاق الفن السابع في المدينة ونواحيها، قبل أن تكون القاعتين الآن مجرد ذكرى أو نوستالجيا "هوليوود إفريقيا"، لحاضرة ليس لها من نفسها غير ما يتم تداوله الآخر عنها.

في كتابه "المخاض النقابي والسياسي العسير، ورزازات تتحدث بلسان حالها عن المغرب، يقول الكاتب والسياسي، حميد مجدي: "لا تستفید ميزانية الجماعات الحضرية والقروية، ولا المجالس الإقليمية لورزازات وزاكورة وتنغير، من أية موارد مرتبطة بإنتاج وتصویر الأفلام السینمائیة، على الرغم من الأموال الضخمة التي ترصد لهذه الأخيرة. ولا یتم توظيف أي جزء من العائدات المالية الھامة التي تحصل علیھا شركات الإنتاج".
ويتحدث الكاتب في نفس الكتاب عن غياب أي مكتب يمثل المركز السينمائي المغربي، وهي المؤسسة العمومية الوصية على قطاع السينما، الذي ترك الساحة خاوية لسماسرة السينما، مشيراً إلى أوضاع استغلال المهنيين والتقنيين والكومبارس من قبل شركات الإنتاج المغربية وسماسرة السینما بشكل غير لائق، بعيداً عن أي رقابة أو علاقة شغل قانونية.
وإذا تأملنا في التظاهرات والمهرجانات الثقافية والسينمائية التي تُنظم في المدينة، نجدها باهتة، إن لم تكن غائبة تماماً، مقارنة بالمدن المغربية الأخرى التي تحتضن مهرجانات دولية للفيلم والسينما على نحو موسمي، مثل مراكش والرباط وطنجة. والأمر يزداد وضوحاً عند إلقاء نظرة على أجندة التظاهرات السينمائية الوطنية لعام 2025، كان قد أعلن عنها المركز السينمائي المغربي، حيث تغيب ورزازات تماماً عن القائمة، مقابل 15 مدينة مغربية تحتضن فعاليات سينمائية على مدار العام.
صناعة ثقافية تحت الهيمنة
انطلاق الصناعة السينمائية في ورزازات، أدى إلى تدفق واسع للمنتجين والمخرجين على ورزازات، تم فيها تصوير العديد من الأفلام الطويلة. كما استوعب القطاع السينمائي آلافاً من العمال والعاملات، حرفيين وكومبارس وغيرهم، غير أن المشهد تغير؛ هذا ما أكده لنا عمو أوبوهو، ناشط نقابي وحقوقي في المنطقة، في تصريحه لرصيف22: "نتج عن ظهور جمعية تولت دور الوسيط بين الشركات الأجنبية وسوق الشغل السينمائي، سوءُ تدبير القطاع ونشوء شبكة من اللوبيات المتحكمة فيه، والتي ترتبط بعمالة إقليم ورزازات والمركز السينمائي المغربي، وقد تفاقمت الأوضاع مع استغلال هذه الشبكات لجمعيات تنظيم الكومبارس، إذ تُمنح لهم أجور تقل عن المستحَق". ويقدم الناشط الحقوقي مثالاً عن هذا الاستغلال: "قد تكون أجرة الكومبارس 50 دولاراً أو أكثر، غير أن الوسيط يحتفظ بالنصف، ليصل ما يتقاضاه الكومبارس إلى 25 دولاراً أو أقل في بعض الحالات".

يواصل أوبوهو الحديث معنا قائلاً: "تمضي هذه اللوبيات إلى أبعد من ذلك، حيث تُثقِل كاهل الشركات الأجنبية بمبالغ باهظة تتجاوز بكثير ما يُنفق في بلدان أخرى مثل تونس، وكل ذلك يتم عن قصد في ورزازات"، ويشير النقابي: "نحن أمام حالة من اللصوصية والزبونية والاستغلال الواضح، ويصل الأمر أثناء تصوير بعض المشاهد بأراضي الجموع، إلى الاستيلاء على التعويضات التي تُخصص لأصحاب هذه الأراضي من قِبل الشركات الأجنبية، إذ يتم نهبها من قِبل هذا اللوبي بتواطؤ مع بعض نواب الأراضي، ونتيجة لذلك لا تستفيد الجماعات القروية ولا البلديات، ولا حتى العاملون في القطاع".
في ما مضى، تولى عمر أوبوهو، إلى جانب مجموعة من النشطاء التقدميين في ورزازات، مبادرةَ تأسيس جمعية لتنظيم وتأطير الكومبارس، غير أنه يتأسف إلى ما آلت إليه: "يا للأسف الشديد، تعرض أعضاء المكتب المسير لضغوطات وهجمات شرسة، حتى أننا فقدنا أي أثر لهم، لقد اختفوا جميعاً في ظروف غامضة".
بين أروقة قصباتها وامتداد صحرائها، تختزن ورزازات قصصاً سينمائية عالمية
ويروي النقابي والحقوقي، حادثةً وقعت له أثناء جلوسه في أحد مطاعم ورزازات لما التقى بأحد معارفه، الذي بادره بكلمات تحمل في طياتها تحذيراً مبطناً؛ يقول: "همس لي وأخبرني بأنه يمكنني التحدث في أي موضوع، باستثناء السينما، لأن مواجهة اللوبي المتحكم فيها أمر بالغ الصعوبة، وأساليبه لا ترحم.
القطاع السينمائي في ورزازات انهار تماماً بسبب سوء التدبير والأساليب الفاسدة التي تحكمه، حتى الإنتاج السينمائي فقد بريقه، واضطرت العديد من الشركات الأجنبية إلى نقل أنشطتها إلى أقاليم أو حتى بلدان أخرى. أما العاملون الذين كانوا يقتاتون من هذه الصناعة، فقد وجد كثير منهم أنفسهم في دوامة الفقر والتسول، حيث تمر سنة كاملة دون تصوير أي فيلم جديد، وحتى إن وُجد، فلا يكون سوى مشهد قصير لا يتجاوز تصويره أربعة أسابيع".
فساد ثقافي وتهميش للكفاءات
اختلالات عديدة تطال القطاع السينمائي بورزازات، أحدها ذو طابع تقني يتعلق بالكفاءات، كما عبر لنا شوقي، وهو سينمائي، يقول في تصريح لرصيف22: "يُقصى التقنيون الحاصلون على الدبلومات والشهادات المتخصصة، بينما تسود الزبونية في توزيع فرص العمل. أما المركز السينمائي، المفترض أن يكون الجهة المنظمة والمراقبة، فهو يغض الطرف عن تجاوزات شركات الإنتاج في المدينة، ويغيب عنه الحزم في تدبير القطاع"، ويضيف: "أما ظروف العمل، فحدث ولا حرج، إذ لا يتم احترام الأجور، كما تنعدم الثقافة السينمائية لدى المواطنين في ظل غياب الأندية السينمائية داخل المؤسسات التعليمية. المسؤولون لا يولون هذه الصناعة الاهتمامَ اللازم، فيما ينشغل معظم مالكي الإستوديوهات الخاصة بجني الأرباح، دون اكتراث بجودة الإنتاج أو تطوير المجال السينمائي في المدينة، أو أخذ مبادرة إحداث قاعة سينمائية واحدة".

تستقطب ورزازات أعداداً متزايدة من الطلبة الراغبين في دراسة السينما، بفضل معاهدها المتخصصة وتنوع التخصصات التي تتيحها الدراسة السينمائية، لكن معظم الخريجين يضطرون لمغادرة المدينة، بحثاً عن فرصة عمل خارج قطاع السينما، بعدما أصبح المشهد السينمائي، رهيناً بالوساطة. أحد هؤلاء عبد الإله (اسم مستعار)، وهو طالب باحث في مجال السمعي البصري، يقول في تصريح لرصيف22: "الواقع مغاير تماماً لما يُفترض أن يكون؛ فالوحدات التنفيذية، والتي لا تضع سوى الربح نصب أعينها، تستغل الفرصة إلى أقصى حد، رغم وجود معايير وطنية ودولية تحدد أجور العاملين في مواقع التصوير".
يواصل عبد الإله حديثه: "بينما تتراوح الأجور القانونية للممثلين الثانويين والكومبارس بين 70 و100 دولار، لا يحصلون فعلياً إلا على 30 دولاراً فقط، فيما تذهب بقية المبالغ إلى جيوب المستفيدين من هذه المنظومة. يمكنك ملاحظة ذلك في الوساطة التي تنخر القطاع، حيث لا تُعطى الأولوية لليد العاملة الحاصلة على الشهادات والدبلومات". ويشير الطالب الباحث: "يصل الوضع حتى إلى التدريب؛ فمجرد تقديم طلب للتدريب لا يكفي للولوج إلى الفرص المتاحة. والنتيجة واضحة الآن: ضعف في الإنتاج الذي يقتصر على المواسم، إضافة إلى هروب الشركات الأجنبية وتوجهها نحو مصر والسعودية ودول أخرى".
أمام كل هذا، ستبقى مدينة ورزازات أمام مفترق طرق حاسم، قبل أن تختفي وراء عدسات كاميرات الأفلام، وتظل حبيسة في مشهد أو لقطة عابرة لفيلم، تتلاشى خلف الكواليس، إما أن تحافظ على مكاسب هوليوود إفريقيا وتستثمر هذه الفرصة للتألق في سماء الفن السابع، أو أن تتحول إلى قصة عزاء سينمائي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



