ألهمت المجموعة الغنائية المغربية الأمازيغية "إزنزارن"، جيلاً كاملاً بعنفوانها وصيتها ورصانتها وكاريزما شخوصها وقوة لحنها وعذوبة كلماتها. كانت سحراً غنائياً يحترق ليشعّ كأنه شهاب يخترق سماء منطقة سوس (جنوب المغرب)، معانقةً بقصائدها وأغانيها ألباب المحليّ، وسابرةً بأدائها مكنونات الإنساني.
"إزنزارن " تعني أشعة الشمس، وهي تسمية بدلالات عميقة؛ وبالأخص لأنها جاءت في فترة ما يُسمّى في المغرب بزمن "الجمر والرّصاص"، حيث كان للكلمة والموقف ثمن، والقمع السياسي والمعتقلات هما القاعدة.
كان للرّمز تأويل، أما الإيحاء فيُخَطّ على أنّه صكّ ودليل. فيمَا كانت المنصة في حالة "إزنزارن" ثكنةً، والقصيدة رصاصاً، أمّا اللحّن والعزف والغناء ففي مقام البنادق.
كلمات كالرصاص
"كلماتي رصاص، ولحن أكوت وغناؤه بندقية"؛ هذا ما قاله محمد الحنفي، المؤسس وعضو المجموعة السابق وشاعرها، في تصريح لرصيف22، مبيّناً أن كلمات مجموعة إزنزارن "تحتضن هموم الناس، وتنافح عن معاركهم. تُعبّر عن إرادتهم في عيش كريم، وهي رغبة حقيقية لتحسين الوضع في ظرفية صعبة عاشها الناس في تلك الفترة".
ألهمت المجموعة الغنائية المغربية الأمازيغية "إزنزارن"، جيلاً كاملاً بعنفوانها وصيتها ورصانتها وكاريزما شخوصها
تأسست مجموعة إزنزارن سنة 1974، وسبقتها قبل ذلك تجارب للأعضاء المؤسسين تحت أسماء أخرى مثل مجموعة "تابغينوست" التي تأسست في الستينيات و"لاقدام" (الأقدام) التي تأسست سنة 1972، وجاءت "إزنزارن" بعد مجموعة "لقدام" واستعانت ببعض أشعارها وأغانيها في سنواتها الأولى.
بدأ هذا الشباب الحالم، مسيرته من حي "الدشيرة الجهادية" في أكادير، التي كانت حينها مدينةً عماليةً، وحملوا آلات موسيقيةً مثل "الكمبري" و"البانجو" والكمان، ليبحثوا عن إيقاع وموسيقى أولى أغانيهم، التي حملت نفساً قوياً في اللغة الأمازيغية التي كانت معتادةً على القصائد التقليدية ومواضيعها.
يقول الحنفي، المولود سنة 1954، في أداوتنان (نواحي أكادير)، إنه عاش تجربة "لاقدام" قبل أن يؤسس مجموعة إزنزارن هو وأعضاء آخرون: لحسن بوفرتال، حسن بيري، مولاي إبراهيم طالبي، عبد العزيز الشامخ، عبد الهادي أيكوت، لتلتحق بهم بعد ذلك أسماء أخرى.
كانت المجموعة، وعلى امتداد عقود، قريبةً من معاناة الإنسان المغربي المقهور، في العديد من الأغاني مثل أغنية "تيخيرا" (النهاية) وأغنية "البارود"، كما غنّت للأم ومعاناة اليتم من خلال أغنية "إيمي حنا"، فيما تغنّت بالحب "واد أتمودون" (المسافر) وأغنية "وا الزين"، فيما صدحت للعالم كله من خلال أغنية "توزالت" (السكّين)؛ داعيةً من خلالها إلى السلم العالمي وتجنّب القتل والحروب التي تطال البشرية.
سياقات بروز "إزنزارن"
أرجع خالد العيوض، وهو أستاذ باحث مهتم بقضايا التراث والثقافة والتنمية، بروز "إزنزارن" إلى "ظاهرة انتشار المجموعات الغنائية في منطقة سوس في السّبعينيات، وحصل ذلك تقريباً بين 1971 و1972، أي مباشرةً بعد ظهور المجموعات الغنائية على الصعيد الوطني، ومن بينها الظاهرة "الغيوانيّة"، مع "ناس الغيوان" الذين حملوا بدورهم هموم الطبقات الفقيرة وتطلعات الجيل الشاب.
تجربة "إزنزارن" تميزت أيضاً بانتشارها عبر الكاسيت، ومن خلال حفلات المجموعات التي استطاعت تقديم عروضها في مسرح "الأولمبيا" في باريس، والذي يُعدّ تكريساً لكل موسيقي يتلمّس خطاه في مسار النجومية. هذا المسار جعل المجموعة أيقونيةً في الموسيقى الأمازيغية الحديثة.
أوضح العيوض، في حديث إلى رصيف22، أن الشباب بدأوا يقلّدون هذه المجموعات سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون، بالإضافة إلى تأثّرهم كذلك بالثقافة العالمية من خلال طريقة اللّباس وتصفيفة الشّعر.
تابع: "لا ننسى أنه، وفي هذه المدة، انتشرت الموجة الشبابية المعروفة بـ'الهيبيزم'، كما برزت مجموعات غنائية غربية كـ'الريغي'، حيث ساهمت هذه الإرهاصات كلها سواء المحلية منها أو الدولية في بروز ظاهرة تزنزارت في منطقة سوس".
من جانبه، يرى الحسن باكريم، وهو صحافي وباحث في الثقافة الأمازيغية، أن ظاهرة المجموعات تُعدّ من بين الظواهر المثيرة للنقاش والجدل في الساحة الفنية على الصّعيدين الوطني والمحلي، مشيراً إلى أحد أبرز الأقطاب الذين استلهموا تجربة أحواش و"تريوسا"، (نوعان موسيقيان تقليديان) للتأسيس لتجربة غنائية جديدة، أي محمد بايري، الذي يُعدّ المؤسس لهذا التحول الذي تم في الأغنية الأمازيغية في سوس.
وأكد باكريم، في تصريح لرصيف22، أن السياق العالمي بدوره يُعدّ عنصراً مهماً ومحدداً رئيساً في ظهور إزنزارن وبقية المجموعات الغنائية، إذ شهدت سنة 1968 بروز ثورة شبابية عالمية ومغنّين جدد ومجموعات غنائية عالمية؛ كما حدثت ثورة شبابية في أوروبا، بالإضافة إلى الثورة الثقافية في الصين.
ولفت باكريم، إلى تأثير دور السينما التي فرضت نفسها نهاية الستينيات والسبعينيات: "نعلم مثلاً أن سينما كوليزي في مدينة إنزكان كان لها دور كبير في التأثير على مجموعة من الشباب الذين يعزفون ويغنّون ويكتبون الكلمات"، يقول المتحدث.
وتابع: "يجب أن نعلم في هذا الصدد أن لحن أغنية 'يمي حنا' المشهورة لدى مجموعة إنزنزارن، مستوحى من فيلم هندي كان يُعرض في سينما 'كوليزي' في إنزكان مما يبيّن حجم تأثير السينما على الشباب في تلك الفترة واختياراتهم الفنية".
وأوضح باكريم أن الساحة الغنائية عرفت بروز مجموعات أخرى كأرشاش وأودادن وإنرزاف التي عُرفت بالأشخاص؛ إذ نتحدث عن مجموعة مغنّين وعازفين من أمثال علي شوهاد، وحميد إنرزاف، والفوى عبد الله، كما تُعدّ مجموعة أمغران العربي حالياً نموذجاً لهذا التطور الذي حصل في هذا الطيف الغنائي الذي برز فيه الشخص أكثر من المجموعة.
تميزت ببصمتها الخاصة والمعروفة بـ"تازنزارت" من خلال التقاسيم والألحان، فكل أغاني "تزنزارت"
وتابع قائلاً: "اتسعت رقعة المجموعات الغنائية ومرت في مسارها على العموم من مرحلة الظّهور وقوة الحضور، ثم المنافسة وبعدها الانقسامات والانسحابات ثم الضعف مما يُؤدي في آخر المطاف إلى ظهور مجموعات يبرز فيها الشخص أكثر من المجموعة".
من جانبه، أوضح العيوض، أن مجموعة إزنزارن، بعكس المجموعات الغنائية الأخرى، تميزت ببصمتها الخاصة والمعروفة بـ"تازنزارت" من خلال التقاسيم والألحان، فكل أغاني "تزنزارت" تبدأ بالتقاسيم وتعتمد على الكلمة الهادفة التي تحمل معاني كثيرةً.
"الأشعة" تتفرق ولا تخلو...
أرجع العيوض بروز "إزنزارن" إلى سياق خاص يتعلق بسيطرة مجموعة "لاقدام" على الساحة الفنية؛ وهي مجموعة بدأت مسارها بالغناء بالعربية وتضم محمد بايري، حسن بايري، الشرعي، محمد الحنفي لتتوقف بعد ذلك في أواخر سنة 1973 وبداية سنة 1974، لتؤسس بعدها "إزنزارن". ومن الأسماء الأولى التي انضمت إلى المجموعة بايري حسن والحنفي محمد ثم مولاي براهيم وعبد الهادي أكوت وعبد العزيز الشامخ.
أوضح المتحدث ذاته، أن "إزنزارن"، وفي المرحلة الأولى، كانت مجتمعةً بقطبيها الشّامخ وعبد الهادي إلى حدود سنة 1976 ليحدث الانشقاق في المجموعة وتظهر مجموعتان هما: إزنزارن عبد الهادي، ومجموعة إزنزارن، وهو انشقاق أنهى مسار تجربة جماعية لكنه خلق آفاقاً أوسع للأغنية الأمازيغية في خريطة الموسيقى المغربية، وما زالت موسيقى إزنزارن إلى اليوم تقدم في مهرجانات وطنية ودولية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...