معبد إيزيدي جديد في عامودا... خطوة دينية أو توظيف سياسي؟

معبد إيزيدي جديد في عامودا... خطوة دينية أو توظيف سياسي؟

سياسة نحن والتنوّع

الجمعة 19 سبتمبر 202510 دقائق للقراءة

شهد ريف مدينة عامودا، غربي القامشلي في شمال شرق سوريا، في 3 آب/ أغسطس الماضي، وضع حجر الأساس لمعبد إيزيدي جديد، بمبادرة من اتحاد الإيزيديين في سوريا، وبالتزامن مع إحياء الذكرى الحادية عشرة لما يُعرف بـ"الإبادة الإيزيدية".

شاركت في الفعالية وفود من اتحاد الإيزيديين القادمين من أوروبا، والمجلس الروحاني من شنكال، بجانب ممثلين عن مكوّنات شمال سوريا وشرقها.

وبحسب القائمين على المشروع، سيُبنى المعبد بشكل كامل من تبرّعات أبناء الديانة الإيزيدية، فيما ستتكفل الإدارة الذاتية بتوفير مواد البناء وتقديم الدعم الإداري اللازم.

إلا أنّ المشروع سرعان ما أثار نقاشات داخل الأوساط الإيزيدية، بين من رأى فيه خطوةً للحفاظ على الهوية الدينية والثقافية للإيزيديين، وبين من اعتبر أنّ فكرة المعبد لا تنسجم مع الميثولوجيا الإيزيدية التقليدية.

معاناة الإيزيديين الطويلة

تُعدّ الطائفة الإيزيدية من أكثر الأقليات الدينية تعرضاً للاضطهاد في سوريا، إذ واجهوا حرماناً ممنهجاً من ممارسة شعائرهم الدينية وتعلم أصول عقيدتهم، إلى جانب غياب أي اعتراف دستوري بديانتهم.

مع اندلاع الاحتجاجات عام 2011، بدأت الانتهاكات بحقهم بالتصاعد، حيث سُجّلت أولى الهجمات في قرية قسطل جندو في ريف عفرين أواخر عام 2012، تلتها هجمات لتنظيم "الدولة الإسلامية" على قرية رأس العين في آب/ أغسطس 2013، حين اعتبر التنظيم أبناء هذه الديانة "كفّاراً". 

وُضع حجر الأساس للمعبد الإيزيدي الجديد في عامودا في سوريا يوم 3 آب/أغسطس الماضي، بتمويل وتبرعات من أبناء الطائفة، مع دعم إداري ومواد بناء من الإدارة الذاتية؛ خطوة تُقدَّم كحماية للهوية، لكنها تُتهم بأنّها توظيف سياسي يصطدم بميثولوجيا تعتبر معبد "لالش" مرجعاً دينياً لا يُستنسخ

في أيار/ مايو 2014، دخل مقاتلو التنظيم قرية الطليلة في ريف الحسكة، وارتكبوا عمليات إعدام بحق سكانها، اعتقاداً منهم أنّهم جميعاً من الإيزيديين، قبل أن يتبيّن أنّ الضحايا مدنيون من العرب السنّة، في مشهد عكس الطابع الإبادي الذي تعرّض له أبناء هذه الطائفة.

لاحقاً، وثقت اللجنة الأممية المستقلة للتحقيق في آب، أغسطس 2020، ما لا يقلّ عن 49 عملية احتجاز لنساء إيزيديات وكرديات في مناطق خاضعة للسيطرة التركية شمالي سوريا.

تقول لافا شارو، وهي شابة إيزيدية تقيم في الحسكة، إنّ أعداد أبناء الطائفة تراجعت بشكل ملحوظ خلال الأعوام الأربعة عشر الأخيرة نتيجة الهجرة.

وبحسب المتحدث الرسمي باسم المجلس الإيزيدي في سوريا، فـ"عدد الإيزيديين في سوريا يتراوح مع المهاجرين بين 200 و250 ألف نسمة وفق ما هو موثق في أدبيات المجلس".

وبحسب تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية عام 2020، فإنّ الانتهاكات ضد الإيزيديين تفاقمت خلال عملية "نبع السلام" التي شنّتها تركيا في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وذلك بعد عام واحد من التوغل التركي في عفرين عام 2018

وحذّر خبراء في شؤون الإيزيديين، آنذاك، من أنّ هذا المجتمع الصغير مهدد بالاندثار، نتيجة سنوات من سقوط الضحايا على يد تنظيم "الدولة الإسلامية"، والحرب السورية، والتهديدات التركية المستمرة.

كما وثّقت التقارير مغادرة نساء ورجال وأطفال إيزيديين كانوا يقيمون في نحو 13 قريةً في منطقة رأس العين، فيما انخفض عددهم في شمال شرقي سوريا إلى نحو 15 ألفاً فقط من أصل 50 ألفاً.

وتوضح شارو أنّ كثيراً من الإيزيديين يفتقرون إلى مصادر موثوقة لتعلّم تعاليم ديانتهم، إذ يقتصر نقل المعرفة غالباً على الرواية الشفوية، ما يخلق تباينات واسعةً بين الأجيال والمناطق المختلفة.

هذا الواقع، بحسب ما تقول، يعكس حالة تغييب ديني ومعرفي عاشها الإيزيديون لعقود في ظل الاضطهاد المستمر.

هل تسمح الديانة الإيزيدية ببناء المعابد؟ 

تحتلّ المعابد والمزارات مكانةً محوريةً في العقيدة الإيزيدية، ويُعدّ معبد لالش الواقع في قضاء الشيخان شمالي الموصل، وشرقي مدينة دهوك، المركز الديني الأقدس للإيزيديين حول العالم، إذ يحتضن ضريح الشيخ عدي بن مسافر، ويُعدّ الشاهد الأبرز على طقوسهم وصلواتهم.

يؤدي الإيزيديون في معبد لالش، طقوساً سنويةً أبرزها "عيد جما"، الذي يجمع أبناء الطائفة من مختلف دول العالم، ما يعزز مكانته كمرجع ديني لا بديل عنه.

تقوم الحجّة الدينية على أنّ المزارات الإيزيدية ترتبط بمكان وزمان وشخصيات روحية محددة، فهل يُمكن ترجمة ديانة طقسية باطنية إلى عمارة حديثة بلا سياق مقدّس؟

الباحث في التاريخ السياسي والاجتماعي، مهند الكاطع، يوضح أنّ الديانة الإيزيدية ديانة طقسية باطنية ذات نظام مغلق، ولا تقوم على بناء معابد عامة كما هو الحال في ديانات أخرى، مشيراً إلى أنّ المواقع المقدسة المعروفة لدى الإيزيديين تقتصر على:

لالش في منطقة شيخان في العراق.

جيل ميرا في جبل سنجار في العراق. 

أكتاليش في أرمينيا.

ويلفت الكاطع إلى أنه برغم وجود نحو 40 ألف إيزيدي في ألمانيا، لا يوجد أي معبد هناك، معتبراً أنّ محاولات بناء معابد خارج هذه المواقع لا تعكس الموروث الديني بقدر ما تحمل بعداً سياسياً، كما في حالة الإدارة الذاتية التي تسعى ـبحسب وصفهـ إلى الظهور بمظهر الحامي للأقليات.

من جهته، يؤكد المتحدث باسم مجلس إيزيديي سوريا، سرحان عيسى، أنّ الميثولوجيا الإيزيدية تنصّ صراحةً على عدم جواز إنشاء معابد جديدة بعد معبد لالش، مشيراً إلى أنّ الفلسفة الدينية للإيزيديين تقوم على اعتبار أنّ "كل قطعة أرض هي صلة مع الرب".

ويعرب عيسى عن مخاوفه من تكرار تجارب سابقة، منها بناء معبد في روسيا على قبر ميرزا، والذي أدى إلى التباس لدى العامة وصل حدّ الاعتقاد بأنّ الإيزيديين يعبدون الأصنام، مضيفاً أنّ حادثةً مشابهةً كادت أن تقع في عفرين حين حاول البعض إنشاء معبد لزرادشت، الأمر الذي قوبل بالرفض والإدانة من المجلس.

تناقضات بين القبول والرفض

لم يمرّ الإعلان عن مشروع بناء معبد إيزيدي جديد في ريف القامشلي بهدوء داخل الأوساط الإيزيدية، إذ انقسمت المواقف بين مؤيد يرى فيه خطوةً تاريخيةً لترسيخ حضور الطائفة في سوريا وصون هويتها الثقافية، ومعارض يعدّه خروجاً عن الموروث الديني وتوظيفاً سياسياً قد يفتح الباب أمام إشكاليات أوسع.

سرحان عيسى، ممثل مجلس إيزيديي سوريا، يوضح أنّ الهوية الدينية للإيزيديين تقوم على ارتباط المزارات بمكان وزمان محددين، وبشخصيات روحية عايشها الناس وارتبطت بذاكرتهم الجمعية.

يتعمّق الانقسام بين مجلس إيزيديي سوريا الذي ينتقد إقصاءه ويحذّر من شرخ داخلي، وبين البيت الإيزيدي الذي يرى المعبد ضرورة لتعذّر الوصول إلى لالش وتعليم الأجيال وتثبيت الهوية؛ فأي سردية ستغلب: الاعتراف بالوجود عبر البناء، أم صون الموروث عبر الامتناع؟

ويشير إلى أنّ أيّ مزار تاريخي، من عفرين إلى شنكال وصولاً إلى لالش، لم يُبنَ إلا ليكون شاهداً على وليّ أو حدث روحي ملموس. وانطلاقاً من ذلك، يرى عيسى أنّ إنشاء معبد جديد لا يستند إلى مرجعية روحية واضحة يتناقض مع الميثولوجيا الإيزيدية، ويفتقر إلى الشرعية الدينية.

وينتقد تخصيص أكثر من ثلاثة ملايين دولار للمشروع في وقت تعاني فيه آلاف العائلات الإيزيدية من التهجير والفقر، معتبراً أنّ الفرح الذي قد يُبديه بعض أبناء الطائفة بالمبادرة لن يخفي حقيقة ابتعادها عن جوهر العقيدة. ويحذّر من أنّ الخطر الأكبر يكمن في الانقسام الداخلي الذي قد يخلقه المشروع بين من يعدّه اعترافاً بالوجود، ومن يراه تجاوزاً للعقيدة.

في المقابل، يرى مناف جعفر، مدير البيت الإيزيدي في حلب، أنّ بناء المعبد يمثل ضرورةً ملحّةً، خاصةً في ظل صعوبة وصول إيزيديي سوريا إلى معبد لالش في العراق. 

ويلفت إلى تخصيص 80 دونماً من الأرض لبناء المعبد، مشدداً على أنّ تمويله يتمّ عبر تبرعات من الداخل والخارج، بينما تقتصر مساهمة الإدارة الذاتية على توفير التسهيلات الإدارية ومواد البناء.

كما تعتبر الشابة الإيزيدية لانا شارو، أنّ وجود معبد داخل سوريا يشكّل مصدر فخر لها ولغيرها من أبناء الطائفة، مشيرةً إلى أنّ الخطوة تمثل رمزاً لهوية الإيزيديين ووسيلةً لتعليم أصول الدين بشكل موثوق

وتؤكد أنّ المشروع لا يقلل من مكانة لالش، لكنه يوفر بديلاً عملياً لأبناء الديانة داخل سوريا لتعلّم مبادئ دينهم، ويتيح تعريف المجتمع الأوسع بوجود الإيزيدية وثقافتهم.

تداخل الدين والسياسة في التجربة الإيزيدية في سوريا 

لم يقتصر الجدل الدائر حول مشروع بناء معبد إيزيدي في ريف عامودا على أبعاده الدينية والاجتماعية، إذ سرعان ما اكتسب بُعداً سياسياً مع طرح تساؤلات حول الجهات الراعية للمشروع وأهدافها، بالإضافة إلى العلاقة بين الدين والسياسة في الحالة الإيزيدية.

الإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها، والتي تبنّت منذ تأسيسها ما تسمّيه "الخط الثالث"، لم تجعل من بناء دور العبادة أولويةً ضمن سياساتها، إلا استجابةً مباشرةً لمطالب مكونات دينية واجتماعية محددة. ومع طرح مشروع المعبد الجديد، برز تساؤل أساسي: هل الإيزيديون أنفسهم طالبوا فعلاً بمكان عبادة في ظل الظروف الراهنة؟

بحسب ما يقوله ممثل مجلس إيزيديي سوريا، لرصيف22، فإنّ معاناة الطائفة "أزمة وجود لا أزمة عبادات"، موضحاً أنّ الإيزيديين لم يغادروا قراهم بسبب غياب المعابد، وإنما نتيجة ما وصفها بعمليات "الاجتثاث الممنهج" في عفرين وسري كانيه، والتي وضعتهم على حافة الانقراض من مناطقهم التاريخية. 

على وقع تراجع أعدادهم بالهجرة، ومع سجل مروّع من الانتهاكات بحقهم، يبرز الاعتراض: لماذا تُرصد ملايين الدولارات للبناء في الوقت الذي يواجه الإيزيديون "أزمة وجود لا أزمة عبادات"؟

ويؤكد أنّ المجلس، وهو أول تنظيم سياسي يمثّل الإيزيديين السوريين، لم تتم استشارته لا في الرؤية ولا في التوقيت ولا في الحاجة إلى المشروع، وإنما طُلب منهم إبداء الموافقة بعد اتخاذ القرار. 

ويعتبر أنّ هذا "إقصاء لتمثيل حقيقي وتجاوز لصوت أساسي"، مشدداً على أنّ الخلاف مع الإدارة الذاتية في هذه النقطة لا يلغي تقديرهم لدورها في حماية جميع المكونات، بمن فيهم الإيزيديين.

ويرى ممثل المجلس أنّ الاعتماد على "مشاورات جزئية أو مباركات رمزية" في قضايا حساسة، قد يفتح الباب أمام انقسام مجتمعي ويضعف وحدة الصوت الإيزيدي، مؤكداً أنّ الأولوية ينبغي أن تكون لإحياء المزارات التاريخية في عفرين وسري كانيه، التي تُركت منذ عام 2011 وتحوّلت إلى مراعي للحيوانات، بدلاً من بناء معابد رمزية جديدة.

في المقابل، يرفض مدير البيت الإيزيدي في حلب، مناف جعفر، موقف المجلس، ويعتبر أنّ اعتراضه "سياسي بحت وليس دينياً"، موضحاً أنّ الانقسام يعود إلى اختلاف المرجعيات السياسية، إذ يتبع اتحاد الإيزيديين للإدارة الذاتية، بينما يرتبط مجلس إيزيديي سوريا بالمجلس الوطني والجيش الوطني. 

ويشير إلى أنّ مؤتمر وحدة الصف الكردي أسفر عن توافقات جزئية، لكنها لم تُترجم عملياً بشكل كامل.

ويؤكد جعفر، أنّ ما يطرحه المجلس "مبالغ فيه"، إذ لا خلاف دينياً بين المكونات الإيزيدية، وإنما تباين سياسي، مشيراً إلى أنّ "البيت الإيزيدي" التابع لاتحاد إيزيديي سوريا، الذي قال إنه يمثل الأكثرية، كان حاضراً في مراسم وضع حجر الأساس للمعبد الجديد.

من هنا يظل الجدل حول مشروع المعبد الإيزيدي مرآةً لانقسام أعمق داخل الديانة، إذ تختلط فيه الاعتبارات الدينية بالرهانات السياسية، في وقت يعيش فيه الإيزيديون واحدةً من أهم مراحل إثبات وجودهم.

بين من يرى في المشروع خطوةً لتعزيز الهوية، ومن يعدّه توظيفاً سياسياً يفتت وحدة الصف، تبقى المخاوف حاضرةً من أن يؤدّي تسييس الدين إلى شرخ داخلي جديد يزيد من هشاشة المجتمع الإيزيدي بدل أن يعزز تماسكه.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image