في ظهيرة حارقة من أواخر آب/ أغسطس الماضي، وقف المزارع علي أبو ديّا، بين كرومه في بحوشا، على تلال البقاع، يقلّب عناقيد متشقّقةً بين يديه. حبّات العنب بدت ذابلةً قبل أن تنضج، في موسم بلا حصاد. يقول لرصيف22: "هالسنة العنب ما قدرت نزّله عالسوق لأنه كانت حالته سيئة جدّاً".
علي الذي اعتاد أن يملأ السوق بعنب طازج كل صيف، وجد نفسه هذه المرّة بلا موسم. يضيف بأسى: "كنت متأمّل على الأقل طلّع لي دفعة السنة… وهالشي ما صار".
على بُعد كيلومترات قليلة منه، في كفرزبد، في قلب سهل البقاع، المشهد لا يختلف كثيراً. تراقب المزارعة وفاء دغيدي، حقولها وقد تقلّصت من 500 إلى 100 دونم فقط. تقول عن الأرض: "هالسنة بالموسم التاني زرعنا أقلّ من ثلثها لأنه كمية المياه ما بقى تكفّي، والآبار أغلبها نشّفت، بهاللّحظة حسّينا الموسم بخطر".
وفاء، التي تزرع منذ أكثر من 35 عاماً، اختصرت موسمها بخسارة موجعة. تضيف: "البطاطا أكتر شي تأثرت، فضّلنا ما نزرعها، ونكمّل بالأشجار لأنها ما بتنترك بلا مي".
بين علي ووفاء تتّضح صورة واحدة: جفاف يلتهم المواسم ويترك المزارعين أمام خسائر لا تُعوَّض. لكن الخطر لم يعُد يقتصر على أرزاقهم فحسب، بل بات يطرح سؤالاً أكبر: هل سيتأثّر غذاء اللّبنانيين إذا استمرّت المواسم في التآكل بهذا الشّكل؟
مواسم تذبل قبل أوانها
لم يكن عام 2025 عادياً. الشتاء انقطع باكراً، الثلوج ذابت بسرعة، والأمطار لم تصل إلى نصف معدّلها السنوي. الأنهار جفّت في أيار/ مايو بدلاً من تموز/ يوليو، والآبار انخفض منسوبها بشدّة. أما الحرارة، فتجاوزت المعدلات المُعتادة وبقيت لأيام طويلة، لتضرب المحاصيل في لحظة حرجة.
تراجع الإنتاج الزراعي في لبنان تحوّل إلى تهديد حقيقي للأمن الغذائي والاقتصاد الوطني. ففي السوق المحلي، المزارعون يزرعون بالدولار ويبيعون بالليرة، وغالباً بخسارة.
لجأ علي، الذي يواجه هذه الظروف بصعوبة بالغة، إلى صهاريج المياه، فملأ خزانات صغيرةً، لكن النتيجة كانت فادحةً. يقول: "خسرت نحو 80% من المحصول… والباقي ما بينباع بالسوق العادي، إنما للمعاصر بسعر زهيد".
هذه قصص بسيطة مما يعانيه المزارعون في لبنان مؤخراً من تغيّر المناخ. عن هذا الأمر يشرح الصحافي المتخصّص في القضايا البيئيّة مصطفى رعد، لرصيف22: "ما يحصل ليس أزمةً موسميةً، بل نمط طويل الأمد مرتبط بتغيّر المناخ. الثلوج التي كانت تبقى على الجبال 110 أيام، أصبحت بالكاد تبقى لـ30 أو 40 يوماً. والأمطار التي كانت تسقط على مدى شهر، صارت تهطل في يوم واحد كسُيول لا تمتصّها الأرض".
يضيف: "تراجع الإنتاج الزراعي لم يعد مسألةً تقنيةً. صار تهديداً مباشراً للأمن الغذائي والاقتصاد المحلي". وهنا تقول وفاء: "في السوق المحلي المزارعين عم تبكي. نزرع بالدولار ونبيع باللبناني، وآخر النهار إمّا راس براس أو خسارة".

مبادرات حكومية
وسط هذا المشهد القاتم، برزت بعض المشاريع التي تحاول التّخفيف من حدّة الأزمة، وإن بشكل محدود.
رسمياً، يصرّح وزير الزراعة نزار الهاني، لرصيف22، بأنّ الوزارة تعمل على أكثر من مسار لمواجهة أزمة المياه. يقول: "على المدى القريب نركّز على التوجيه لترشيد استخدام المياه وتشجيع الرّي بالتنقيط، وعلى المدى المتوسّط نعمل من خلال المشروع الأخضر والبنك الدولي على إنشاء تجمّعات مائية أكبر".
بحسب تصريح وزير الزراعة، فمعركة المياه في لبنان يومية والبحث عن الحلول متنوّع: من خطط عاجلة لترشيد الاستهلاك والري بالتنقيط، إلى برك جبلية ومشاريع البنك الدولي، وزراعات حديثة كالهيدروبونيك، مع عقود تربط المزارعين مباشرة بالمصانع والأسواق
ويضيف أن التنسيق في ملف المياه أصبح يومياً مع وزارة الطاقة ومصلحة اللّيطاني ومصالح المياه في المناطق: "المياه همّ أساسي ومشترك. نحاول أن نجعل زراعتنا أكثر تكيفاً مع التّغيرات المناخية، عبر تشجيع الزراعات الحديثة مثل الهيدروبونيك التي تحتاج إلى كميات أقل من المياه".
ويتابع الهاني: "المشروع الأخضر ينفّذ عشرات البرك الجبلية كل سنة، وهذه التّدخلات موجّهة بالأساس إلى صغار المزارعين: من خزانات صغيرة بسعة أربعين متراً مكعّباً، مروراً ببرك بلاستيكية متوسّطة، وصولاً إلى برك جبلية جماعية. هدفنا تثبيت المزارع بأرضه بدل أن يتركها".
كما يشدّد على أهمية الزراعة التعاقدية: "ما بدنا المزارع يزرع محصول بلا سوق. لذلك ندفع باتّجاه عقود تربط المزارع مباشرة بالمصنع أو بالمستهلك. التجارب ناجحة في قطاع الدواجن ومع شركات النبيذ، ونأمل أن يشمل النموذج محاصيل أخرى".
… وأخرى أهلية
بجانب هذه الجهود الرسمية، تبرز مبادرات محلية ودولية. ففي زحلة، أعيد تشغيل محطّة تكرير مياه الصرف الصّحي بدعم من اليونيسف، وهي الوحيدة في لبنان التي تملك نظام تكرير ثلاثي يشمل استخدام الأشعة فوق البنفسجية. المحطّة توفّر مياهاً معالَجةً للرّي، لتشكّل مورداً إضافياً. ولكنها مهدّدة بعدم الاستدامة، إذ تحتاج إلى صيانة وتمويل دائمين.
كما أنشأت مصلحة الأبحاث العلميّة الزراعيّة والجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب، ضمن مشروع "الحلول المائية المرنة لمواجهة تغيّر المناخ في الأردن ولبنان"، المموَّل من قبل جهات أمميّة، موقعاً تجريبياً للزراعة المستدامة في تلّ عمارة، المحاذية لبلدة رياق في البقاع الأوسط.
المشروع يمتدّ على عشرين ألف متر مربّع، حيث تُختبر أنظمة زراعية أكثر مرونةً، ويُدرَّب المزارعون والطلاب على تقنيات تساعدهم على التكيّف مع المناخ المتقلّب.
يقول كريستيان شكيّة، مدير المشروع في الجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب لرصيف22: "المبادرة توضّح أنّ الشراكة بين البحث العلمي والمجتمع المحلي قادرة على تقديم حلول عملية لمشكلات شحّ المياه، وتفتح مجالاً لنموذج زراعي أكثر استدامةً في البقاع ولبنان عموماً".
الجفاف يزرع الخوف ويعمّق الفجوات
لكن مع غياب مصادر مياه نظيفة، اضطر بعض المزارعين إلى اللجوء إلى الرّي من الليطاني الملوّث.
وفي هذا الشأن يحذّر رعد من أنّ "الخضروات المروية بمياه الليطاني تصل يومياً إلى مطاعم وفنادق في بيروت، ما يؤدي أحياناً إلى ظهور حالات تسمّم أو سالمونيلا".
مع غياب مصادر مياه نظيفة، يضطر مزارعون إلى ريّ محاصيلهم من نهر الليطاني الملوّث. وهذه الخضراوات تصل يومياً إلى مطاعم وفنادق بيروت، وتتسبب بمشاكل صحيّة.
لكن خيارات المزارع اللبناني باتت أضيق من أي وقت، فإلى جانب المناخ القاسي، يواجه المزارعون سوقاً تُغرقه الخضروات المهرّبة. تقول وفاء: "بس لو بينفتح طريق التصدير ليوقف المزارع عإجريه، لأنه اليوم السوق اللبناني مَيت وكل يوم عم يفوت خضرة أرخص من إنتاجنا".
ويوضّح رعد: "لبنان وقّع عام 1991 اتفاقيةً مع جامعة الدول العربية لتبادل البضائع، معفيّة من الرسوم الجمركية، لذا فالحاصل هو عجز في الميزان التجاري بين الصادرات والواردات".
كما أنّ الأزمة لم تعد زراعيةً فحسب، إذ يذكّر رعد بحادثة من البقاع حين هاجم مسلّحون مزارعاً ليستولوا على بئره، عادّاً أن الجفاف قد يتحوّل إلى قنبلة اجتماعية وأنّ مثل هذه المشاهد قد تتكرر مع تفاقم الأزمة. وبينما المزارع الكبير قادر على حفر بئر أعمق أو تركيب طاقة شمسية، يبقى الصغير مضطراً إلى ترك أرضه أو العمل عند غيره.
هكذا تتوسع الفجوة الطبقية، ويُحاصر المزارع اللبناني بين مناخ لا يرحم وسوق لا ينصف. من هنا ينتقل النقاش إلى جوهر المسألة: مصير الغذاء في لبنان.

غذاء اللبنانيين على المحكّ
ما يجري في البقاع لم يعد أزمةً زراعيةً محليةً، بل أزمة وطنية تمسّ المياه والغذاء والاستقرار الاجتماعي. يقول رعد: "لا يمكن معالجة أزمة الأمن الغذائي من زاوية مناخية فحسب. المطلوب إدارة مياه رشيدة، وسياسات تجارية وزراعية وتسويقية متكاملة، ففي لبنان نجحت تجربة زراعة بندورة بمياه البحر المالحة وبيعت في السوق… فلماذا لا نوسّع هذه الخطوات بدلاً من أن تبقى معزولةً؟".
ما يجري في البقاع لم يعد أزمة محلية، مزارعون كثر يفكرون بالهجرة أو التخلي عن محاصيلهم الموسمية، فيما يتشبث آخرون بأرضهم رغم الخسارة. لذا فالخيار إمّا خطة وطنية لإدارة المياه والزراعة، أو مستقبل تُترك فيه الحقول عطشى والمائدة مهددة
أما دغيدي، فتختصر الإحباط بقولها: "المزروعات الموسمية ممكن نتركها ونضلّ على الأشجار لأنه ما فينا نقطع عنها المياه، وفي هيك حالة أغلب المزارعين رح يتركوا الأرض ويهاجروا. وأنا وحدة منّن".
أما أبو ديّا، فيتشبّث بأرضه برغم الخسارة: "إذا استمرّت الأزمة، ممكن أقلع كروم العنب وأتحوّل لزراعة تحتاج مياه أقل. بس الأرض ما بتركها".
بين صوت يفكر في الرحيل، وآخر يقاوم للبقاء، تتجسّد معادلة لبنان: إما أن تضع الدولة والمجتمع خطةً تنقذ الأرض والمائدة معاً، أو أن نواجه مستقبلاً تُترك فيه الحقول عطشى والغذاء مهدّداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.