لم يكن المزارع حسين صبرا، ابن بلدة حداثا الجنوبية، يتخيّل أن يمرّ عليه موسم زراعة التبغ من دون أن يكون منهمكاً في توضيب محصوله. فهذا العام، لم يتمكّن صبرا من زراعة أرضه الممتدة على مساحة ثلاثة دونمات والملاصقة لمنزل أهله بسبب ركام خلّفته الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان جرّاء تدمير المنازل المحيط.
في حديثه إلى رصيف22، يُعبّر صبرا عن أسفه لعدم تلقّيه أي تعويض مادي بغية استصلاح أرضه التي كانت تُنتج له نحو 200 كيلوغرام من التبغ، وقد بات مضطراً إلى الاعتماد كلياً على راتبه من عمله في وزارة الشؤون الاجتماعية، بعد أن كان ما يحصده في موسم التبغ يساعده في زيادة مدخوله. يأمل صبرا أن يزرع أرضه الموسم القادم، إلا أنّ ذلك غير مرتبط بقدرته على إزالة الركام فقط، بل يحتاج كذلك إلى توافر عامل الأمان من أجل العمل بأريحية ومن دون مخاطر في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المناطق الجنوبية.
واقع مزارعي الشريط الحدودي
حال صبرا ليس فريداً أو استثنائياً، فحال مزارعي الجنوب عموماً والقرى الحدودية خصوصاً يتقاطع كثيراً. يشرح ذلك رئيس تجمّع مزارعي الجنوب، محمد الحسيني، في حديث إلى رصيف22، قائلاً إنّ "الجيش الإسرائيلي قام بخلق مناطق عازلة بعمق نحو خمسة كيلومترات من الحدود مع لبنان، بحيث يمنع أي مواطن من الوصول إليها وهي المنطقة التي تضم الأراضي الزراعية والبساتين".
"يستخدم الجيش الإسرائيلي أساليب عدة لمضايقة المزارعين، منها إلقاء قنابل صوتية أو تهديدهم بالدرون أو تخريب شبكات المياه أو إطلاق النار بالقرب منهم وغيرها من أدوات الترهيب"... الحرب الإسرائيلية على قطاع الزراعة في جنوب لبنان لم تنتهِ
ويضيف: "يستخدم الجيش الإسرائيلي أساليب عدة لمضايقة المزارعين، منها إلقاء قنابل صوتية أو تهديدهم بالدرون أو تخريب شبكات المياه أو إطلاق النار بالقرب منهم وغيرها من أدوات الترهيب".
ويلفت الحسيني إلى أنّ "مزارعي القرى الحدودية ينقسمون إلى فئات عدة، فهناك عدد كبير منهم يحاول العودة إلى حقوله في بعض المناطق مثل الوزاني والخيام إلا أنّ الجيش الإسرائيلي يمنعهم. وثمة من تمكّنوا، وعددهم أقل بكثير، من استصلاح أرضهم وزراعتها، وهناك جزء ثالث يهيئ أرضه للموسم المقبل على أمل أن يستطيع ممارسة نشاطه الزراعي بشكل طبيعي".
وينفي الحسيني وجود أي أرقام دقيقة تعكس وضع مزارعي القرى الحدودية، أو تقيس خسائر القطاع الزراعي في هذه المناطق، إذ إن التقارير التي تصدر تعتمد على خرائط جوية، وعادةً ما تكون أقل من الإحصاءات الدقيقة بنحو 25%. يؤكد الحسيني عدم وجود أرقام دقيقة لأعداد المزارعين، فقد حاولت وزارة الزراعة إطلاق السجل الزراعي قبل سنوات عدة بهدف تعداد المزارعين وتصنيفهم إلا أنها لم تنجح في ذلك.
كما يشير في الوقت نفسه إلى أنّ آخر الإحصاءات التي صدرت عن الجامعة الأمريكية اللبنانية تقدّر الأراضي المتضرّرة من العدوان في محافظتَي الجنوب والنبطية بنحو 16 ألف هكتار، ما بين غابات وبساتين ومناطق مزروعة. جدير بالذكر أنّ رصيف22 لم يتسنَّ له التحقّق من هذه الأرقام بشكل منفصل.
وفي تقرير صادر في 19 آب/ أغسطس الجاري، سلّط "الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين" في لبنان الضوء على "معاناة العاملين في الاقتصاد غير المنظم وعمال الزراعة والبناء وأبناء القرى الحدودية"، قائلاً إنها "بلغت مستويات غير مسبوقة"، وخصّ مزارعي التبغ تحديداً بالقول إنهم "يخسرون موسمهم للعام الثالث على التوالي، بعدما أتلفت النيران أراضيهم وزراعاتهم، ولم تلتفت الدولة إلى صرخاتهم ولا إلى مطالبهم البسيطة بالعيش بكرامة".
زراعة التبغ مُهدّدة بالتقلّص
في غضون ذلك، ينقسم المزارعون في تلك البقعة الجغرافية إلى قسمين؛ الأوّل يعتمد بشكل كلّي على النشاط الزراعي ويتفرّغ لممارسته كمصدر دخل وحيد. وهؤلاء حاول بعضهم الزراعة في مناطق أخرى لتلبية احتياجاته واحتياجات أسرته الأساسية. أما النوع الثاني، فيمارس إلى جانب الزراعة نشاطاً تجارياً أو صناعياً آخر، وهو يعتمد كلياً على هذا المردود المالي كمصدر دخل في الوقت الحالي.
ويُقدِّر رئيس اتحاد نقابات العاملين في زراعة التبغ والتنباك، حسن فقيه، في حديثه إلى رصيف22، الإنتاج الزراعي للتبغ في الجنوب بنحو خمسة ملايين كيلوغرامات قبل الحرب الأخيرة، إلا أن هذا الناتج ينخفض إلى أكثر من النصف في العام الحالي، إذ لن يتخطى مليونَي كيلو، على حد تقديره. وعلى هذا الأساس يرى فقيه أن ثمة تهديداً حقيقياً بتقلّص زراعة التبغ في ظل تكرار العدوان الإسرائيلي، مستذكراً ما حدث بعد حرب تموز/ يوليو 2006 حيث أُصيب الكثير من مزارعي التبغ بالقنابل العنقودية.
يوضح فقيه لرصيف22، أنّ منطقة الشريط الحدودي هي روح وعصب زراعة التبغ في لبنان كونها منطقةً كانت تُعاني تاريخياً من البطالة، والشريان الحيوي الذي أصبح يغذّي الأهالي اقتصادياً يتمثّل في زراعة التبغ إذ إنّ قرى عيترون وعيتا الشعب ورميش من أكبر القرى الزراعية في البلاد
ويلفت إلى أن "هناك جزءاً قليلاً جداً من مزارعي التبغ في القرى الحدودية قرّر نقل زراعته إلى بلدات خلفية مثل صديقين وتولين وقبريخا وغيرها، حيث لا يزال هؤلاء المزارعون نازحين، إلا أنّ ذلك زاد من التكلفة عليهم نتيجة استئجارهم الأرض".
ويوضح فقيه أنّ منطقة الشريط الحدودي هي روح وعصب زراعة التبغ في لبنان كونها منطقةً كانت تُعاني تاريخياً من البطالة، والشريان الحيوي الذي كان يغذي الأهالي اقتصادياً يتمثّل في زراعة التبغ حيثُ تُصنّف قرى عيترون وعيتا الشعب ورميش من أكبر القرى الزراعية في لبنان. وباستثناء رميش التي تمكّنت من الحفاظ على منتوجها من زراعة التبغ، فجميع البلدات الحدودية تدمّرت بشكل شبه كلي بما انعكس بشكل حادّ على الزراعة.

وفي حين يُحاول بعض المزارعين العودة إلى حقولهم في تلك البلدات، إلا أنهم يواجهون الاعتداءات والمضايقات الإسرائيلية، حيث "رصدنا سبع عمليات رمي قنابل من قبل الدرون الإسرائيلية على مزارعين في أثناء قيامهم بالزراعة أو القطاف في البلدات الحدودية"، وفقاً لفقيه. وأمام الخسائر المتتالية للمزارعين، حاولت إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية (الريجي)، دعم مزارعي التبغ، فقدّمت دولارين ونصف دولار عن كل كيلو كانت قد تمت زراعته خلال عام ما قبل الحرب، أي أنه حصل على قيمة ربحه تقريباً. وفي أثناء فترة الحرب، أعطت الريجي لكل مزارع ألف دولار عن الموسم.
لكن هذه المساعدات لم تكن كافيةً لحماية المزارعين من شبح العوز. يقول مزارع التبغ حسن ناصر، ابن بلدة عدشيت الجنوبية وهو ربّ أسرة مكوّنة من ثمانية أولاد وزوجة، لرصيف22، إنّ الحرب جاءت في توقيت تسليم الدخان إلا أننا اضطررنا إلى المغادرة على عجل وترك المحصول، ما أسفر عن خسائر هائلة.
يقوم ناصر في الوقت الحالي بزراعة نحو 27 دونماً في بلدته، إلا أنّ "المخاوف من استهدافنا من قبل إسرائيل كبيرة، فنحن نقوم بقطف الدخان منذ الساعة الثانية فجراً، أي قبل بزوغ الفجر، وهذا ما يزيد من صعوبة الأمر ومن مضايقات الدرونز الإسرائيلية"، بحسب قوله.
القطاع الزراعي بالأرقام
يُشير التقرير الأوّلي لتحديد الأضرار والحاجات الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على لبنان، الذي أعدّه البنك الدولي والمجلس الوطني للبحوث العلمية، إلى أنّ الزراعة كانت بالغة الأهمية للأمن الغذائي في لبنان. واعتباراً من عام 2020، شكّلت 9% من الناتج المحلي الإجمالي للبنان، و4% من فرص العمل، وكانت محافظة الجنوب وحدها مسؤولةً عن 64% من أشجار الحمضيات في البلاد، و94% من الموز، و15% من أشجار الزيتون، و44% من أشجار الفاكهة الاستوائية، بما في ذلك 63% من أشجار الأفوكادو.
يُقدّر تقرير للبنك الدولي أضرار الزراعة والأمن الغذائي جرّاء العدوان الإسرائيلي بنحو 79 مليون دولار أمريكي، وهي تشمل البنية التحتية، وإنتاج المحاصيل، والثروة الحيوانية، ومصائد الأسماك، وأنظمة الريّ. ما يزيد من أثر هذه الخسائر هو غياب البدائل الاقتصادية في قرى الشريط الحدودي
كما يُحدّد التقرير أضرار الزراعة والأمن الغذائي جرّاء العدوان الإسرائيلي بنحو 79 مليون دولار أمريكي، وهي تشمل البنية التحتية، وإنتاج المحاصيل، والثروة الحيوانية، ومصائد الأسماك، وأنظمة الريّ. وتبلغ الأضرار المباشرة الرئيسية التي لحقت بالمحاصيل المروية 34 مليون دولار أمريكي، وتشمل اقتلاعاً كبيراً لمحاصيل رئيسية مثل الزيتون والأفوكادو، كما بلغت قيمة الأضرار التي لحقت بأنظمة الري 16 مليون دولار أمريكي.
غياب البدائل
ما يزيد من أثر هذه الخسائر هو غياب البدائل الاقتصادية في قرى الشريط الحدودي. يوضح المهندس الزراعي وسام رزق، في حديثه إلى رصيف22، أنّ "مشكلة غياب البدائل تزيد من حجم المعاناة"، موضحاً أنه "منذ بداية الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2023، تأثّر قطاعنا بشكل كبير، فهناك مشاريع لم نتمكّن من الوصول إليها من أجل تشغيلها، وهناك مزارعون قلّصوا مساحة الأراضي المزروعة خوفاً من صعوبة القطاف والاهتمام بالمزروعات. فمثلاً، سهل الخيام كان مشهوراً بزراعة التبغ إلا أنه بات اليوم خالياً من أي زراعة. كذلك في منطقة الشريط الحدودي لم نتمكّن من قطف الزيتون منذ ثلاث سنوات بسبب الاعتداءات الإسرائيلية".

يشرح رزق، الذي يقوم بإدارة مشاريع زراعة عنب وبطيخ وأفوكادو في منطقة الماري والمجيدية وإبل السقي وراشيا الفخار، أنّ "هناك مناطق شهدت تدميراً للقطاع الزراعي بشكل كبير جداً، فمثلاً في منطقة وطى الخيام والمجيدية، هناك نحو 300 دونم دراق (خوخ)، قام الجيش الإسرائيلي بجرفها". ويُتابع: "هناك مناطق مثل كفركلا وحولا وميس الجبل لا يمكن الوصول إلى أشجار الزيتون فيها. وهناك مناطق أخرى استرجعت عافيتها إلى حدّ ما، مثل سهل الماري وإبل السقي".
*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية "DRI"، ضمن مشروع "أصوات من الميدان… دعم الصحافة المستقلّة في لبنان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.