هل نُسقِط الطاغية ونُبقي الطغيان؟… الاستبداد ديني أو سياسي؟

هل نُسقِط الطاغية ونُبقي الطغيان؟… الاستبداد ديني أو سياسي؟

رأي نحن والتطرف نحن والتنوّع

الخميس 18 سبتمبر 20257 دقائق للقراءة

ليست المعضلة في أن يسقط نظام ليقوم آخر، بل في أن تبقى الفكرة الجوهرية واحدةً: مصادرة الإنسان لصالح سلطة ما، سواء لبست ثوب الدولة الحديدية أو التحفت برداء الدين.

وهنا نطرح السؤال: هل حقّاً يمكن أن تتحرّر الشعوب من القمع ما لم تتحرّر أوّلاً من استبدادها الداخلي؟! ففي كل مرة يُقال للشعوب إنّ البديل أخطر، ويُدفع بها لتقبل قيداً مقابل اتّقاء قيد آخر. 

ليس الاستبداد لوناً واحداً، بل طيفٌ يتبدّل من زيّ الأمن إلى عباءة الواعظ، وفي النهاية يبقى القفص نفسه وإن تغيّر الحارس. والتجربة العربية تعجّ بهذه الازدواجية؛ حين سقطت أنظمة عسكرية أو تزعزعت، فخرج من تحت ركامها خطاب الإسلام السياسي بقوّة، كما في مصر بعد رحيل الرئيس محمد حسني مبارك، أو في ليبيا حين انهار حكم العقيد الراحل معمر القذافي، وكأنّ الشعوب لم تجد بين القطبين المتناحرين سوى إعادة إنتاج الاستبداد بأقنعة مختلفة.

الأنظمة الحاكمة روّجت لهذا الاحتمال كفزّاعة للبقاء؛ الأسد قالها، ومبارك قالها، والقذافي كذلك: "نحن أو الفوضى، نحن أو الإرهاب". وحين قامت الثورات، أُفرج عن الإسلاميين المتشدّدين أو تُرك لهم المجال لينتصبوا كبديل وحيد، لتكتمل دائرة التخويف ويُعاد تثبيت فكرة أنّ الحرية ليست ممكنةً. 

جوهر الأزمة ليس في أيّهما أهون: الاستبداد العلماني أو الاستبداد الديني، بل في بنية الاستبداد ذاتها. فكلاهما يشتركان في ثلاثيةٍ متكرّرة: احتكار المعنى، مصادرة الحرية، والخوف من التعدّد

هذا ليس "قدراً" عربياً فحسب، فالتجربة الإيرانية خيرُ شاهد: ثورة 1979 التي خرجت طلباً للحرية من قبضة الشاه الاستبدادية انتهت إلى سلطة رجال الدين، حيث صارت العمامة بديلاً للتاج، واستُبدلت شعارات الحرية بمقولات "ولاية الفقيه" واحتكار الحقيقة باسم السماء. 

وفي تركيا أيضاً، حين ضعفت قبضة العسكر، صعدت هيمنة الإسلام السياسي بأدوات الديمقراطية نفسها، لتعيد إنتاج مركزية الفرد الواحد فوق الدولة. وحتى في التجربة الأوروبية، شهدت القرون الوسطى قبضة الكنيسة التي حكمت الحياة والسياسة باسم الخلاص الأبدي، ثم استُبدلت لاحقاً بسلطة الدولة المركزية الصلبة في ظلّ أنظمة مطلقة لم تكن أقلّ قسوةً.

هكذا يتّضح أن جوهر الأزمة ليس في أيّهما أهون: الاستبداد العلماني أو الاستبداد الديني، بل في بنية الاستبداد ذاتها. فكلاهما يشتركان في ثلاثيةٍ متكرّرة: احتكار المعنى، مصادرة الحرية، والخوف من التعدّد. وكلاهما يخشى من أن يعيش الإنسان كفرد حرّ يختار مصيره، فيُختزل إمّا إلى تابعٍ في دولةٍ أمنية أو مؤمنٍ مطيعٍ في دولةٍ دينية. 

المفارقة أنّ الاثنين يتغذّيان على بعضهما؛ فالدولة الأمنية تُبرّر قبضتها بخطر الإسلاميين، والإسلاميون يُبرّرون صعودهم بظلم الدولة، وكأنّنا أمام مسرحيةٍ يبدّل فيها الممثلون الأزياء، لكن النص واحد.

ومع ذلك، فالتاريخ يقدّم شواهد أخرى تقول إنّ الطريق الثالث ممكن. أوروبا بعد حروبها الدينية المريرة لم تسقط في دوّامة الاستبداد المزدوج، بل أنجبت الدولة المدنية الحديثة التي فصلت بين الكنيسة والدولة من جهة، وبين السلطة والمواطن من جهةٍ أخرى، لترسم عقداً اجتماعياً يضمن الحرية. 

وجنوب إفريقيا لم تنزلق بعد عقود من الأبارتهايد إلى ثأرٍ دمويٍّ ولا إلى دولةٍ دينية، بل صنعت مسار العدالة الانتقالية بزعامة مانديلا، حيث صار الإنسان غايةً لا الجماعة أو العقيدة. 

القضية إذاً ليست في بقاء نظام أو زواله، بل في أن يقتنع المجتمع بأنّ الحرية لا تولَد من رحم الخوف. إنّ الخوف من البديل الديني، كما الخوف من البديل الأمني، ليسا إلا إعادة إنتاجٍ للهشاشة الداخلية التي تُبقي الاستبداد قائماً. وما يفتح هذا الباب أكثر هي سيكولوجيا الشعوب نفسها، تلك السيكولوجيا التي لم تكتفِ بقبول الاستبداد، بل غذّته وأمدّته بشرعيّته النفسية. 

حين نتأمّل المنطقة، لا نرى أنّ الاستبداد جاء من فوق، أو من الجنرال أو الشيخ أو الزعيم، بل نراه أيضاً يتسرّب من الداخل، من البنية النفسية للجماعة التي تعلّمت عبر قرون أنّ الخوف وسيلةٌ للبقاء.

فالشعوب التي عاشت على حافة التهديد الدائم، بين غزوٍ خارجي أو قمعٍ داخلي أو صراعٍ أهلي، طوّرت نوعاً من "التعايش النفسي مع الاستبداد"، بحيث لم يعد الطغيان مجرد سلطةٍ مفروضة، بل صار حاجةً نفسيةً تُشبع شعوراً بالاستقرار الزائف. 

الخوف الجماعي هنا ليس حالةً طارئةً بل قاعدة. في ظل هذا الخوف، يبحث الفرد عن ملاذٍ أكبر منه: القبيلة، الطائفة، الزعيم، أو الخطاب الديني. وبذلك يتحوّل الاعتماد على السلطة إلى ما يشبه الاعتماد النفسي على الأب الصارم؛ هو الذي يحمي من الفوضى، حتى وإن كان يجلد ويقمع. فاللاوعي الجمعي يربط غياب المستبد بانفجار الفوضى، كما يربط غياب الأب بانهيار البيت. وهنا تتجذّر مقولة "الاستبداد أهون من الفوضى"، كقناعة جمعية تصعب زحزحتها.

هذه البنية النفسية ليست وليدة الصدفة، بل نُسجت عبر قرونٍ من الصدمات التاريخية: انهيار بغداد أمام المغول، اجتياح الصليبيين، الاحتلال العثماني، الاستعمار الغربي، والهزائم الحديثة من فلسطين إلى العراق. 

كل جرحٍ تاريخي رسّخ في النفس الجمعية قناعةً بأنّ "الخارج" دائماً يتربّص، وأنّ الخلاص لا يكون إلا بالتكتّل حول سلطةٍ مركزيةٍ تردّ الخطر. وبهذا، صار الاستبداد مبرّراً سيكولوجياً بقدر ما هو سياسي. 

بجانب الخوف، هناك عاملٌ آخر يتمثّل في التربية على الطاعة. الطفل في معظم مجتمعات الشرق الأوسط يُربّى على السمع والطاعة في البيت، ثم في المدرسة، ثم في الدين، وحتى في لغة الشارع. الطاعة تتحوّل من سلوك إلى قيمة، ومن قيمة إلى قدَر. وحين يكبر هذا الطفل، يجد نفسه أكثر انسجاماً مع السلطة القمعية لأنّها تكرّر ما عاشه منذ الصغر؛ فالاستبداد هنا لا يُرى كعدوّ، بل كامتدادٍ طبيعي لنسق الطاعة المزروع في اللاوعي. 

كل جرحٍ تاريخي رسّخ في النفس الجمعية قناعةً بأنّ "الخارج" دائماً يتربّص، وأنّ الخلاص لا يكون إلا بالتكتّل حول سلطةٍ مركزيةٍ تردّ الخطر. وبهذا، صار الاستبداد مبرّراً سيكولوجياً بقدر ما هو سياسي

ثم تأتي ثقافة العار والذنب كآلية نفسية تحكم السلوك الجمعي. في المجتمعات التي تُقدّس الجماعة على حساب الفرد، يصبح الخروج عن المألوف فعلاً مُجرّماً اجتماعياً قبل أن يكون مجرّماً سياسياً. الحرية الفردية تُربط بالأنانية، والتمرّد يُربط بالخيانة، والاختلاف يُربط بالعار. هذه المنظومة النفسية تُسهّل على أيّ سلطةٍ استبدادية أن تجد في المجتمع رقيباً إضافياً، حيث يتحوّل كل فرد إلى أداة ضبط للآخرين.

فهل ينجح الاستبداد لأنّه يملك سلاحاً وجيشاً، أو لأنّه يجد في نفوس الناس تربةً خصبةً مثل الخوف، والطاعة، وثقافة الجماعة، والشعور المزمن بالتهديد، وبذلك يصبح المستبد مرآةً للشعوب بقدر ما هو جلّادها. 

الطاغية لا يولد من فراغ، بل من رحم القبول النفسي والجماعي الذي يُهيّئ الأرضية لاستمراره. ومع ذلك، فإنّ سيكولوجيا الشعوب ليست قدَراً ثابتاً. كما أنّ هذه الشعوب التي استسلمت للسلطة، فجّرت ثورات في لحظاتٍ تاريخية عندما بلغ الخوف أقصى درجاته وانقلب إلى شجاعة يائسة. 

من بيروت إلى طهران، ومن بغداد إلى الخرطوم، رأينا كيف يمكن للجماهير أن تتحوّل من خاضعة إلى هادرة في لحظةٍ واحدة، كأنّها تكسر فجأةً جداراً داخلياً لا سياسياً فحسب. وهذا يثبت أنّ ما يبدو استسلاماً أبدياً هو في حقيقته توتّر متراكم، ينتظر لحظة الانفجار. 

فمعركة التحرّر في الشرق الأوسط ليست سياسيةً أو عسكرية فحسب، بل هي معركة نفسية قبل كل شيء؛ معركة مع الخوف المتجذّر، ومع الطاعة التي صارت فضيلةً، ومع ثقافة العار التي تحاصر الفرد باسم الجماعة. فإذا لم تتغيّر هذه البنية النفسية، فإنّ سقوط أيّ نظام لن يكون سوى تمهيد لولادة نظام استبداديّ جديد بوجهٍ آخر؛ وحينها سنكتشف أنّنا لم نخرج بعد من المسرحية ذاتها، بل ما زلنا نتفرّج على النص القديم بأزياءٍ متغيّرة، نكرّر الحكاية نفسها جيلاً بعد جيل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image