تشهد هذه الأيام الذكرى السنوية الثالثة لقتل مهسا أميني على يد عناصر دورية الأخلاق في طهران(16 أيلول/سبتمبر)، والتي كانت بداية أعظم وأوسع احتجاجات الإيرانيين ضد الحكومة.
جراح مهسا وكل الشابات والشبان الذين فقدناهن/م في طريق الاحتجاج وفي سبيل الحرية لا تزال طازجة. من اليوم، وخلال الأشهر المقبلة، كثير من الأيام هي ذكرى أحد هؤلاء الأبطال. أبطال غالباً ما كانوا شباباً ولم يعيشوا بعد، وقد قُتلوا جميعاً بوحشية بتهمة السعي إلى الحرية. من 16 أيلول/سبتمبر 2022 وحتى عدة أشهر بعدها كان كل صباح يبدأ بالبكاء. كل صباح كان يُقرأ اسم عدد من أبناء وبنات بلدي الذين/اللواتي قُتلوا/ن في اليوم السابق في سبيل الحرية، وتوضع صورهم/ن وفيديوهاتهم/ن بجانب صورة جینا (مهسا أميني)، وتزداد أعدادهم يوماً بعد يوم، فتزداد حرارة قلوب الناس في إيران ويزداد غضبنا اتساعاً ومدى.
منتصف أيلول/سبتمبر 2022، كنت مشغولة بصناعة فيلمي القصير الثالث، كان فيلماً صعباً وتحدياً كبيراً شَغَل كلّ حواسي. خلال ذلك، سمعت عدة مرات أن دورية الأخلاق ضربت فتاة بسبب سوء الحجاب وأن الفتاة في المستشفى. انتهى التصوير أخيراً. كنا نخطط للراحة عدة أيام لننتقل بعدها إلى مرحلة ما بعد الإنتاج والبدء في مونتاج العمل. ثم أُعلن أن شابة تبلغ من العمر 22 عاماً، التي أرسلتها دورية الأخلاق إلى المستشفى وكانت في غيبوبة، قد توفيت. شيء ما ارتجّ في قلوبنا. كل يوم كانت تُكشف تفاصيل أكثر تزيد غضب الشعب أكثر فأكثر. مهسا أميني كانت فتاة من كردستان إيران، جاءت في رحلة من مدينتها سَقِّز إلى طهران. قال أخوها: قلت لرجال دورية الأخلاق: لا تأخذوا أختي، نحن غرباء هنا!
ليست الحرية مجرّد كلمة، بل هي الهواء الذي تعلّمت نساء إيران تنفّسه أخيراً، ولو بثمن الحياة
تلك الجملة الواحدة كانت كافية لتفجر غضب الشعب في إيران. في غمضة عين اهتزّ النظام الذي حكم بالقوة والضغط لسنوات طويلة. إيران ثارت. لم تقتصر الثورة على طهران فقط، بل شملت كثيراً من المدن الإيرانية. اندلعت موجة احتجاج غمرَها غضب شديد، وفاجأت الحكومة. لم يتخيلوا أن مقتل شخص واحد آخر سيجعل البلاد كلها تنهض ضدهم فجأة.
بقيت أنا وفيلمي الذي كان يحتاج إلى مونتاج. كان لدي خطط كثيرة للفيلم. في الأيام التي كنت ألتقي فيها بالمونتير، أخرج من البيت والشارع كان طعمه دماً وتراباً وغازاً مسيلاً للدموع، ومن كل جهة في المدينة أسمع هتافات مناهضة للحكومة وإطلاق نار، بينما كنت أركض من جهة إلى أخرى وأمسك بوشاح لم أعد أحتمل أن أضعه على رأسي، لأغطي فمي. أقطع الأزقة بمزيج من الغضب وبالطبع بالخوف والارتجاف وأصل إلى مكتب المونتاج.
أنا والمونتير ننظر إلى بعضنا بعضاً. نتنهد، نتبادل كلمات قليلة عن الوضع، ثم يسود الصمت. بينما أحاول ألا أسمح لبقايا غاز الدموع أن تبقى في رئتي، أتنفس بعمق مراراً وقلبي يعتصر. أحدق في الشاشة محاوِلةً التركيز على مشروعي، لكني لا أستطيع. بدا أن المونتير فقد مركز ثقله؛ من حين لآخر كان ينزلق كرسيه من تحت قدميه. حتى مهارته في المونتاج كأنها تلاشت ولم يعد يعرف ما يفعل. حاولت أن أعمل بدماغٍ ضبابي لأتذكر لماذا صورتُ تلك اللقطات؟ ماذا أردت من هذا الفيلم؟ هل كان فيلماً رومانسياً؟ كأنني صورته قبل مئة سنة وصرت غريبة عنه. بأي طريقة أكملتُ المونتاج، أو بالأحرى خيطته بخيوط لا مبالية. لم يكن ذلك أبداً ما كنت أريده في البداية.
لقد تمزقنا منذ ما قبل 16 أيلول/سبتمبر، لم نعد أولئك الناس السابقين. لم أعد أنا نفسها التي صنعت ذلك الفيلم وكتبت ذلك السيناريو. تغيّرنا. حتى أمي التي هي امرأة متدينة ومحجبة تغيرت. أمي التي كانت على مرّ السنين سبب ضغط عليّ وعلى أختي، والتي قبل أن نواجه الحكومة، كنا نتصارع معها حول الحجاب الإجباري، تغيرت أيضاً. أمي كانت معلمة قرآن في مسجد كبير في الأهواز، قد أحبّت الآن شعار "أنتِ البلا أخلاق، أنتِ الفاجرة، أنا المرأة الحرة"! وصارت تقول في دروس وعظها: حتى في القرآن لم يُذكر الحجاب كواجِب إجباري، وتحذر النساء المتديِّنات المتزمتات عن مضايقة غير المحجبات. النساء كنّ يحدقن بها مندهشات ولم يعدن يصدقن. كأنْ كان قد وصلَنا الآن صوت تلك المرأة التي قبل إعدامها بعامين قالت: "شعب إيران، استيقظوا… صمتكم يعني دعم الظلم والظالم"، وأيقظنا من نومنا.
كانت ثورة خارجية وبالطبع ثورة داخلية أيضاً. فجأة تمزق رباط التقاليد البالية التي كانت تُحفظ بالقوة داخل العائلات الإيرانية وظهرت رائحة عفنها في وجه حافظيها.
كلما تظاهر النظام بالقوة، زادت المقاومة. في الليالي، من كل الأزقة ومن معظم البيوت، كانت تخرُج هتافات "الموت للدكتاتور"؛ هتاف رجال ونساء معاً، وحتى الأطفال الصغار في عمر ثمانٍ أو تسعٍ كانوا كأنهم فهموا شيئاً من ذلك الجو الثقيل المتلاطم، فيصرخون في الشارع والمدرسة: "زَن، زِندگي، آزادي" (المرأة، الحياة، الحرية).
الأناشيد الثورية التي كُتبت خلال تلك الأيام القليلة كانت تُذاع بصوت عالٍ من السيارات.
فجأة خرجت أساطير من الناس ومن الفنانين؛ كَتايون رياحي، الممثلة التي لعبت دور "زليخا" في مسلسل "النبي يوسف" الشهير، نزعَت الحجاب أمام كاميرا "بي بي سي"، وتحدثت بشجاعة عن اختيارها. كأنها خرجت من حكايات أسطورية ولم تكن تمزح. ثم تباعاً ظهرت بطلات أخريات؛ تَرانه عَليدوستي، أشهر وأحب الممثلات الشابات في إيران، في قمة نجاحها المهني خلعت الحجاب وكتبت: "لن أضع القماش الذي قتل أخواتي على رأسي في أفلامكم"، ومنذ ذلك الحين لم تمثل في أي فيلم.
موجة الاحتجاج الواسعة انتشرت إلى كل المهن والطبقات واستمرت شهوراً. حتى نساء محرومات في محافظة بلوشِستان كن يهتفن "المرأة، الحياة، الحرية". كلما ازداد عنف الحكومة ازدادت المقاومة ضراوة. الإيرانيون في الخارج اتحدوا لأول مرة، وبلغ صوت الحركة المدوي العالمَ كله. اليوم قلّما يوجد أحد في العالم لم يسمع شعار "المرأة، الحياة، الحرية".
الآن مرّت ثلاث سنوات على تلك الأيام. تغيّرنا. ثلاث سنوات نتجول في المدينة بلا حجاب إجباري. في البداية كنا نمشي في الشارع بخوف وارتجاف. كنا نبحث بنظراتنا عن من ترفع رأسها مثلنا، وتسير بلا حجاب إجباري، ونتبادل نظرات العيون ونبتسم ابتسامة باهتة ونمضي بجانب بعضنا لنطمئن بعضنا قليلاً. الخروج إلى الأزقّة والشوارع بلا حجاب إجباري كان يحتاج شجاعة في البداية.
لقد هربت مراراً من شاحنات دورية الأخلاق البيضاء. من الشارع إلى الزقاق، من زقاق فرعي إلى زقاق آخر راجيةً ألا يكون مسدوداً. كنت أخفض رأسي في الشارع حتى لا تقع عليّ كاميرات المراقبة المخصصة لضبط الحجاب. اشتبكت عدة مرات مع عناصر متشددين وأنقذت نفسي بأي وسيلة ممكنة.
في هذه السنوات الثلاث، كثير من نساء بلدي ذهبن إلى المحاكم مراتٍ عدة بتهمة عدم الالتزام بالحجاب، واحتُجزت سيارات الكثير من النساء والرجال وفرضت عليهم غرامات لذلك السبب. توقفت مواقف السيارات عن استيعاب السيارات المحجوزة بسبب كثرتها، حتى لم يعد هناك مكان لسيارة جديدة. لكننا لم نتراجع. شيئاً ما قد تحرّك فينا إلى الأبد. العيون التي فتحت لا تُغلق ثانية. لا يمكن أن نتجاهل متعة الريح وهي تعبث بخصلات شعورِنا.
حين يسقط الخوف من العيون، لا يعود الجندي بسلاحه مخيفاً، بل يبدو وحيداً في وجه شعب قرر أن لا يصمت بعد اليوم
في اللحظة التي علقت فيها وسط جموعٍ تهرب من عناصر الأمن، ورأيت نفسي ممددة على الرصيف وجندي يضرب كتفي بمقدّم بندقيته ويصرخ: «انهضي! انهضي من وسط الطريق»، فهمت أنني لم أعد تلك المرأة السابقة. المرأة السابقة التي كانت تفرغها الرهبة من داخلها. ذلك اليوم نظرتُ إلى عينيه بلا مبالاة. نهضتُ بهدوء، نفضت الغبار من ثيابي، وتقدّمتُ في نفس الاتجاه الذي كانت تتجه إليه الحشود المحتجة. رأيتُ في عينَي الجندي احمرار الغضب حتى بدا كأن تلك الحُمرة تبرُز من محاجر عينيه. أدرتُ ظهري له ومرّت في بالي فكرة: ربما قد يصوّب بندقيته نحوي الآن من الخلف! ومع ذلك تابعت طريقي دون أن ألتفت.
الآن، في أحيانٍ متفرقة حين أمشي في الشارع وتعبث الريح بشَعري، أبتسم لذلك الشعور اللذيذ الذي حُرمت منه طويلاً، وأهمس لنفسي بيتاً من شعر عزّت إبراهيم زاده، ذاك الطالب الذي قضى نحبه في مجزرة "السكن الجامعي" في طهران عام 1999:
"اذكرونا
اذكرونا نحن الذين كنا شباباً في الثانية والعشرين،
قلوبنا ملتهبة بالعشق،
وقبل أن نقع في الحبّ، ماتت صدورنا مدفونةً في التراب".
وبينما يعتصر قلبي، أبتسم.
اليوم، نحن، النساء اللواتي نتحرّك بلا حجاب إجباري، صرنا أعداداً كبيرة لم يعودوا قادرين على مواجهتها. قبل ثلاث سنوات كانت المدن وحتى القرى الإيرانية مغطاة بشعارات حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، التي كانوا قد طمسوها بالطلاء حتى لم يبق أثر. لكن في أحد الأزقة التي أمرّ بها يومياً، على زاوية جدار، كتب أحدهم باللون الأحمر: "الحرية تُزرع، ونحن لدينا بذورها". أرفع رأسي وأتنفس بعمق وأفخر بالطريق الذي مشيناه خلال هذه السنوات الثلاث؛ طريق إلى التحرر، طريق بدأت بمقتل مهسا البالغة من العمر 22 عاماً واستمرت بمقاومة واسعة وواعية رغم كل القمع والتفريق، إلى يومنا هذا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.