المضطرب
زجاجة ماء وصحنٌ أمامي على الطاولة الآن.
- "لماذا الصحن؟".
- "من أجل الـ....". تضحك، ثم تقول: "لا أعلم".
بعد دقيقتين تصبح الزجاجة اثنتين وبجانب الصحن تضع ملعقة.
- "لماذا الملعقة؟".
- "كي نحرّك الـ....". تضحك، ثم: "لا أعلم".
دقيقتان لاحقتان، صحن فيه تفاح وحبتا بندورة وشوكة وزجاجة ماء ثالثة.
- "حسناً البندورة حمراء والتفاح الصغير أصفر. ألوانهما متناسبة لكن الشوكة، الشوكة لماذا؟".
- "من أجل الـ....". تضحك، ثم الجواب المقدس نفسه: "لا أعلم".
المشهد السابق لا يوجد فيه من يقول "cut" للأسف، هو مجرد خمس دقائق فقط أقضيها مع أمي تقريباً كل يوم، قبل أن أُقرّ بفشلي في استيعاب ما يحدث، فأهرب باكياً.
أمي مريضة زهايمر، عمرها 62 عاماً. لا تنام في الليل وفي النهار لا تنام. حقيقة هي تنسى أنها لا تنام، عليكم أن تتخيلوا كيف سيوزع أبي ساعات نومه الآن. حين ينام يغمض عيناً واحدة، الثانية أخذتها المياه الزرقاء، يغمض عينه وتبقى أذناه مستيقظتين، تراقبان تحركات أمي بمقياس حبّه.
أمي مريضة زهايمر، عمرها 62 عاماً. لا تنام في الليل وفي النهار لا تنام، حقيقةً هي تنسى أنها لا تنام، وأنا لا أقدر أن أصدّق... مجاز
صورة الرنين المغناطيسي تثبت وجود تهتّكٍ في قشرة الدماغ، أتحسّس الزلزال القادم وأشهد أنّ موسى يمكن أن يصير امرأة، ولأنها أم سيتدفق الماء هذه المرة، وأفرح لأني ابن الوليّة.
تباعد الضفتين كان أكبر من أن تردمه كفٌّ بيضاء والكليم أصبح لا يكمل جملة.
المحاكمة العقلية تختفي. ربط الأشياء ببعضها عاد إلى الصفر، لا شيء منطقي. لا شيء تماماً. كاسباروف يعجز عن توقع النقلة التالية، يمدّد الملك على الرقعة، يصافح التوهان ويركض بأقصى ما يستطيع دون أن يلتفت ولو التفاتة.
أستيقظ منزعجاً من تصرف بطل العالم، ثم أصعد إلى منزل أهلي كي أشرب القهوة وأخبرهم بالكابوس الغريب، حين ترد أمي: "صباح الخير يا أخي"، أشعر بألم في معدتي، وحين تجلب زجاجة ماء وصحن، أثقب الجدار المقابل من كثرة ما لا أستطيع.
عجزي يغلّف عجزها ولا يحتويه، في الاحتواء امتلاكٌ وأنا لست طفلاً، هو أقرب للتوسل: أنين خائف وخافت. تقطعه كل يوم بعبارة: "يا أخي". أستعير عشرين سنة من أخوالي وأشيب فقط كي أحقق النبوءة.
أقول: "لا أستطيع"، تقول: "لا بأس".
سيدة الدعوات المستجابة وكثيرة الساعدين والأمان
أقول: "أنا ابنك".
تقول: "كل إخوتي أبنائي".
أرضخ وأحاول إقناع طفليّ أنني أخو جدتهم فيرفضون.
رفضهم نفسه رفضي أن أكون بلا أمّ. من يمسك يدي حين أقطع الطريق؟ من يمسك يدهم؟ لماذا نحن بلا أب أو أم والباقون لا؟ ثم أين يرحل الآباء والأمهات أصلاً؟ كيف؟
أزرع عيني في وجه أمي وتزرع ابنتي عينيها في وجهي وننطق في نفس الوقت:
- أنتِ أمي.
- أنتَ أبي.
- أنتَ أخي... تجيب وهي تهزّ رأسها بحسرة من أنكره أخوه الأصغر، وتبحث عن غراب يعلمني كيف أدفنها. بدل الغراب يأتي رجل بشعر أبيض مفلوش ولسان طويل يشرح تأثير الزمن على الذاكرة أو تأثير الذاكرة على الزمن، لم أعد أذكر. كنت أتعرّق كثيراً وأتنفس بصعوبة حين أفقت من كابوس داخل كابوس، ثم صعدت إلى منزل أهلي كي أشرب القهوة وأحكي لهم قصة الكابوسين الغريبين:
ثلاثة زجاجات ماء وصحن وملعقة وشوكة وتفاح أصفر وحبتا بندورة، فمها يتحرك لكنني لا أسمعها، أجلس أمام الجدار المقابل وأثقبه من كثرة ما لا أستطيع.
ضعفها يمسك ضعفي ويلوّح به عالياً، ثم يلقيني على أرض كل ما فيها جديد.
ليس هكذا.
ضعفها نقيٌّ، لا احتمالات فيه.
ولأنه هكذا، تغريني فكرة أن أصير الأب، لا الأخ.
ترفض.
رفضها يشبه رفضي حين لا أريد أن أكون ابناً لغيرها.
من سيزاحم حبيبة عابرة على مقعد فارغ بجواري ويقول: تستحق أكثر؟ من سيقف مع فتوّتي في مواجهة رجولة أبي؟ من سأبحث عنها في كلّ أمهات أصدقائي حين أناديهنّ: "أمي!" ويستغربن. من سأقع أمامها كلّ مرّة فتقول بثقة المبصّرين: "قمْ... أنت أفضل؟"... مجاز
من سيزاحم حبيبة عابرة على مقعد فارغ بجواري ويقول: تستحق أكثر؟ من سيقف مع فتوّتي في مواجهة رجولة أبي؟ من سأبحث عنها في كلّ أمهات أصدقائي حين أناديهنّ: "أمي" ويستغربن. من سأقع أمامها كلّ مرّة فتقول بثقة المبصّرين: "قمْ... أنت أفضل؟" لا أحد غيرها يعرف كيف تُفعل الأشياء. وحدها تعرف أي شعرة تجعلني أغفو حين ألمسها وأي شعرة تجعلني في كامل انتباهي بعد علامة ناقصة.
سيدة الدعوات المستجابة وكثيرة الساعدين والأمان.
الذئبة حين تحوم الطرائد حول رجلها والشهية الشهية حين الجميع نيام. لا أريد استخدام مفردة كـ"ربلة الساق" لأحكي عن شبق أبي المتجدد كلما رأى بطتي قدميها: "بطاتك كبار"، حيث يختفي الشيب من رأسه ويرجع في السادسة والعشرين من عمره تماماً ليحصدها بشغف النظرة الأولى، فتخجل.
لا تنتظر أن أنهض من كابوس داخل كابوس داخل كابوس، وأُفاجأ بزجاجات مياه وصحون وملاعق وشوك، فتبتسم ابتسامة العارفين، وتقول: "توقعت النهاية منذ أول كابوس".
أمي مريضة زهايمر، عمرها 62 عاماً. لا تنام في الليل، وفي النهار لا تنام. حقيقة هي تنسى أنها لا تنام، وأنا لا أقدر أن أصدق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...