'مَزَّقَتْ ملابسي، خدوشها لا تُحصى ولا تعدّ. هي موجودةٌ على وجهي ومناطق متفرقة من جسمي. صفعاتها باتت خبزنا اليومي، تهجّمت عليّ وعلى أخواتي مرّات عديدةً وقالت "دعوني وشأني. اتركوني. لا تضربوني. لا تقتلوني. إنّكم مجرمون'"؛ هذا مشهد كانت تعيشه يوميّاً محدثتنا (س. 28 سنةً).
واصلت حديثها لرصيف22 قائلةً: "في أحد الأيام هرولت أمّي إلى خارج المنزل وكان بيتنا متاخماً للشارع الرئيسي الذي لا تهدأ فيه حركة السيارات طوال اليوم. شرعت في الصراخ وعندما ركضت نحوها لفرط جزعي وخوفي من أن يصيبها مكروه أو أن تدهسها إحدى السيارات. صرَخَت بشدّة يومها وتجمَّع المارّة حولنا فقالت: 'أنجدوني إنها ستقتلني'، كانت نظرات المارة مختلفةً بين الاستفسار والحيرة والاستنكار. حاولت أن أعبّر وغصّ حلقي بالكلمات والعبارات، إلى أن لفظتها أخيراً 'إنها أمي. أمي لا تعرفني إنّها مريضة بالزهايمر'، هذا بعض من معاناتي ومعاناتها. أمي تخامرها أحياناً عاطفة الأمومة فتضمّني وأحياناً أخرى تصدّني عنها. إنها ببساطة لا تعرفني، هي أمّ لم تعد تعرف ابنتها. كنّا نعيش في سلام وهدوء إلى أن تفاقمت ذات يوم المشكلات دفعةً واحدةً ممّا جعل أمّي التي لم تتجاوز الخامسة والخمسين من عمرها تدخل في حالة من الحزن العميق وهستيريا من البكاء وتكتئب. استمرّ وضعها بضعة أشهر. كنّا نظنّ أنّها حالة عابرة وستزول لكن فطننا إلى أنّها أصبحت تنسى بعض الأشياء البديهيّة كأسماء بناتها وأماكن وجود الحاجيات المنزليّة برغم أنّها على مقربة منها. لم تستقر حالة أمّي إلى يومنا هذا برغم أنّي تفرّغت للاهتمام بها وانقطعت عن عملي منذ سنة. وبرغم مواظبتي على القيام بما نصحني به الأطباء إلاّ أنّ حالتها تسوء يوماً بعد يوم، هي لا تعرفنا ولا تفرّق بين الليل والنهار ولا تريد الأكل".
توهّم وسلوك عنيف
تشرف زينة (اسم مستعار)، على العناية بسيّدة مريضة بالزهايمر عمرها 89 عاماً، وابنتها المقعدة نعيمة التي تبلغ 58 سنةً، وتعيش برفقة والدتها المريضة بالزهايمر بعد أن توفي والدها.
تقول لرصيف22: "ليست حالةً هيّنةً. أشعر بالشفقة على نعيمة. أحاول التصدي لاعتداءات والدتها كلما استطعت إلى ذلك سبيلا".
حاولت أن أعبّر وغصّ حلقي بالكلمات والعبارات، إلى أن لفظتها أخيراً 'إنها أمي. أمي لا تعرفني إنّها مريضة بالزهايمر'
وتؤكد نعيمة: "أحياناً أشعر بأن أمي في حالة صحيّة جيدة إذ تعود للحديث إليّ بوعي وكأنها لا تشكو من شيء وأحياناً أخرى تعنّفني لفظياً وجسديّاً".
تضيف محدثتنا نعيمة: "والدتي على هذه الحال منذ وفاة أخي، ومنذ أن رفضت زوجة أخي أن نعيش برفقتها في منزلها. أصيبت أمي بحزن كبير وكانت تفضل الانزواء والوحدة وأصبحت تنسى أموراً عديدةً لا يمكن نسيانها، مثل الذهاب إلى غرفة الحمام أو المطبخ. واختلطت عليها الأمور فأصبحت تنقل تجهيزات الطبخ ومعدّاته إلى غرفة الحمام وتشرع في شتمي وإهانتي وتقول أحياناً 'إني أدافع عن ابنتي يريد الموت افتكاكها مني'، وأحياناً أخرى 'إنها روح شريرة تريد قتلي اطردوها عني'، أو 'يحاول بعض الرجال اغتصابها وقد تمكنت من تخليصها منهم'. إنه مشهد محزن وفي معظم الأحيان يتكرر يومياً. تغرق المرأة المسنّة المصابة بالزهايمر في النوم العميق عندما تتناول بعض الأدوية التي وصفها الطبيب فتأخذ نعيمة قسطاً من الراحة المؤقتة، راحة جسدية لكن يرافقها إرهاق نفسي دائم.
يتحدث بعض الجيران عن حالة الأسرة، فيقول (م.): "لقد تعودنا على بكاء جارتنا وصياحها في ساعات متأخرة من الليل، وكأنها فقدت ابنها منذ دقائق فقط برغم مرور أكثر من 13 عاماً على وفاته".
تغيّرت ملامح أمّي كثيراً...
أصبح عبد القادر (اسم مستعار، 45 عاماً)، وحيداً حين غادرت والدته هذا العالم بعد رحلة طويلة مع المرض. يقول: "تطورت حالة أمي إلى عدم القدرة على المشي ثم عدم القدرة على الوقوف. تغيرت ملامحها كثيراً. كنت أشعر أحياناً بأنها تعيش في عالم آخر وأنها اختارت الانسلاخ عن هذا العالم لتعيش بعيدةً عني. لم يكن من الهيّن عليّ فراقها فقد كانت عائلتي الوحيدة بعد طلاقي من زوجتي ورحيل والدي".
"الإصابة بمرض بالزهايمر من أكثر الأمراض الخبيثة والمحزنة. إنّه مرض مدمّر لعائلة المريض فلا يوجد أسوأ من شعور ألاّ تعرفك والدتك. إنّ شعور الأمومة أمر فطريّ لدى كلّ أمّ. استطاع هذا المرض أن يمحوه ويطمس وجوده في قلوب الأمهات وجعل الأبناء يكابدون شعور هذه المرارة. هل يوجد شعور مؤلم ومحزن أكثر من ألّا تعرفك أمّك؟ أن تضربك وتعدّك عدوّها؟ لا يوجد إطلاقاً. لقد عذّبني وجودها وهي مريضة لا تعرفني، أكثر من رحيلها عن هذا العالم".
إنّه مرض مدمّر لعائلة المريض فلا يوجد أسوأ من شعور ألاّ تعرفك والدتك
هكذا تحدث عبد القادر عن معايشته لمرض والدته التي فقدها قبل سنة ولم يستطع إلى الآن نسيان تفاصيل معاناتها ومعاناته مع مرضها.
الزهايمر يصيب النساء أكثر من الرجال
في تونس 10 في المئة من الأشخاص الذين تجاوز سنّهم الـ60 عاماً مصابون بمرض الزهايمر. وتظل العوامل والأسباب متعدّدةً والنتائج محزنةً لأنّ المعاناة جماعيّة.
تبيّن الدكتورة عفاف الهمامي، الطبيبة المتخصصة في أمراض المسنين وفي مرض الزهايمر في مركزAFA center ، وهو مركز طبيّ استُحدث سنة 2014 لعلاج المصابين بمرض الزهايمر والأمراض المشابهة له، في حديث إلى رصيف22، أنّه يتمّ الاهتمام بالمصابين بالمرض في مختلف مراحله منذ استقبال المريض والقيام بعملية التشخيص وصولاً إلى مرحلة الإيواء.
يُصنَّف مرض الزهايمر على أنه مرض يصيب الخلايا العصبية ممّا ينتج عنه فقدان الشخص المريض قدراته على القيام بمهامه اليومية. لا تحمل المرحلة الأولى من المرض أعراضاً يتم اكتشافها في المختبر بإجراء مجموعة من التحليلات، حسب قول الدكتورة الهمامي.
وتتميّز المرحلة الأولى من المرض بالنسيان وتتطور إلى ظهور مشكلات في اللغة، ثم عدم القدرة على الحكم على الأشياء والاضطرابات السلوكية واضطرابات النوم والأكل. أمّا المرحلة الثانية فمن مميزاتها الهلوسة وتخيّل أشياء مغلوطة وغير موجودة كالتعرض للسّرقة وتزايد مستوى الغيرة من طرف الرجل المريض على زوجته واتهامها بمواعدة رجال آخرين، ويمكن أن تصاب بهذه الحالة المرأة المريضة أيضاً.
يُصنَّف مرض الزهايمر على أنه مرض يصيب الخلايا العصبية ممّا ينتج عنه فقدان الشخص المريض قدراته على القيام بمهامه اليومية
في المراحل المتقدمة من المرض، يفقد الإنسان الاستقلال التام بعدم القدرة على القيام بأي شيء من المهام اليومية، حتى البسيطة منها كالأكل وعمليات التنظيف الجسدية الخاصة، ويصبح في حاجة إلى استعمال الحفاضات وعدم القدرة على الذهاب إلى غرفة الحمام. ويمكن أن يتطور المرض إلى التأثير على الحركة بالمشي ببطء وتغيّر طريقة المشي حتى.
يجب أن يكون التشخيص مبكراً وفق الدكتورة عفاف الهمامي، لفهم مراحل المرض وتقديم العلاج المناسب للاضطرابات السلوكية والغذائية وغيرها من الممارسات لتفادي التقدّم في مراحل المرض. هناك عوامل عديدة تتسبّب في هذا المرض مثل جنس المصاب إذ إن الزهايمر مرض يصيب النساء أكثر من الرجال لأسباب هرمونية ولارتفاع مستوى أمل الحياة عند الولادة لدى المرأة أكثر من الرجل وأيضاً نتيجة أمراض عديدة كارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب والشرايين والاكتئاب وارتفاع نسبة الدهون في الدم والتدخين ولأسباب وراثية بنسب محدودة.
ينقسم العلاج إلى نوعين هما الأدوية لمعالجة الأمراض والعلاجات الوظيفية والنفسية وتنشيط الذاكرة من دون أدوية كالعلاج بالموسيقى والرسم واسترجاع الذاكرة القديمة عبر الصور مثلاً. أما أصعب مراحل مرض الزهايمر حسب قول الدكتورة الهمامي، فهي "نسيان الأبناء والاضطرابات السلوكية واضطرابات النوم والصياح وتقليد الأصوات الغريبة"، وهي كلّها أمور تحوّل حياة العائلة إلى جحيم من النسيان والآلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...