"الدم الخفيف" في مصر عقيدة… شذرات جميلة وصادمة من رحلتي

رود تريب نحن والتنوّع

الجمعة 19 سبتمبر 20256 دقائق للقراءة

من أنا لأكتب عن مصر، والكلمات التي كُتبت حولها أكثر من قطرات نيلها؟ هذا ليس جَلد ذات أو مقدمة أدبية، بل توجس من الانضمام لجحافل المتغزلين بالنيل، والمحتفين بالإرث الثقافي والأركيولوجي لأرض الكنانة.

هذا البلد مثل إيطاليا واليونان؛ دول أكثر عراقة من أن تختزلها في عبارات مسكوكة مثل: "هذه الأرض حباها الله"، و"تركت قلبي هناك". لهذا، ولكثير غير هذا، اكتفيت باقتفاء مشاهد آسرة ومثيرة للتأمل، تعكس روح مصر، وجمالها، وظواهرها، وتناقضاتها؛ مشاهد كما لو أنها شذرات وصور خاطفة، التقطتها في القاهرة، وطنطا، والإسكندرية، وأسوان.

لعل الشذرات البصرية مثل المكتوبة، تختزل نصوصاً طويلة وسيولاً من الكلمات.

صدر راقصة شرقية… منتوج سياحي؟

كان يوماً قائظاً. الباخرة السياحية في القاهرة تخترق النيل بتؤدة. جودة الخدمة الممتازة والثمن الرمزي للرحلة يجعلك تشعر كأنك "بورجوازي متعفن" أو محدث نعمة. كانت الراقصة الشرقية تلتوي على أنغام حزينة. بدت متفانية ومجتهدة لكنها أبعد عن إتقان راقصات متمكنات كالمصرية دينا والأمريكية شهرزاد. جنسيات السياح المختلفة جعلت المشهد أقرب كثيراً للفن. قليلون من كانوا يأكلون الفنانة الاستعراضية بأعينهم!

على حين غرّة، توقف الرقص، وشرعت الراقصة في التنقل بين الموائد، مثل نحلة نشيطة، لتقترح التقاط صورة مع الزبناء. تنحني قليلاً، ترسم ابتسامة عريضة، وتتموضع بذكاء كي يشكل صدرها ثلث الصورة.

مصر ليست مجرد كلماتٍ تُقال، بل مشاهد وأرواح تتنفس بين النيل وحاراتها، تعكس جمالها وتعقيدها في آنٍ واحد

تساءلت في نفسي: هل يوجد فنان في العالم يطلب صورة من المتذوقين لفنه؟ لماذا لا تلتقط هذه الفنانة صورة كاملة مع الزبناء، تُبرز بدلة الرقص الجميلة بدل اختزال نفسها في جزء من جسمها؟

هيبة قبر أحمد خالد توفيق

لست بالضرورة مثقفاً أو صاحب فكر، لكن على خطى الزائرين لممشى نيتشه في سويسرا، والمقتفين لأثر دوستويفسكي في روسيا (مثل مترجمه سامي الدروبي)، قررت زيارة قبر أحمد خالد توفيق في مدينة طنطا. غمرني الإعجاب بالأثر الكبير لهذا الكاتب على القراء الشباب في بلده، لدرجة أن موته سنة 2018، تحول إلى مأتم جماعي في مواقع التواصل الاجتماعي.

القبر مكان مهيب، يرفل بمرثيات قراء الكاتب من دول عربية مختلفة كالسعودية ولبنان وسوريا. لقد قرروا أن يبكوا رحيل كاتبهم بالكلمات، وأن يطمئنوا الراحل أن أمنيته الكبيرة بـجعل الشباب يقرأون، تحققت.

تذكرتُ القبلات المرسومة على قبر أوسكار وايلد في باريس، ولمسَ العديد من السياح لصدر تمثال داليدا في العاصمة الفرنسية. عكَسَ لي هذا القبر صورة راقية عن الشباب العربي المعجب بالأدب والثقافة، والذي بالحاجة للكثير من أمثال أحمد خالد توفيق، كي يهرب من حضيض التخلف، ويرتقي بعلمه ومعرفته.

معجزة التواصل المصري

ضَع كاميرا وميكروفون أمام أي مواطن مصري، وسيتحدث بسلاسة وطلاقة، أحسن حتى من بعض الحكام العرب! كنت أعتقد أن هذه المعلومة مجرد مجاملة لطيفة، لكن ما إن وضعتُ قدماً في مصر حتى تأكدت من صدقية الأمر. يملك أغلب من صادفتهم من المصريين مهارات تواصلية مبهرة، خصوصاً مع السياح. كما أن "الدم الخفيف" يبدو أنه عقيدة في مصر، إذ يستحسن الناس في هذه الأرض اللطافة وروح الدعابة.

ذات يوم، دلفت إلى مطعم في الإسكندرية، فاستعرض لي شاب يافع نبذة شبه شاملة عن المطبخ المصري، كأسرار "المومبار"، والحمام المحشي، والملوخية. لست متأكداً من كونه راشداً، لكنه كان يملك مهارات تواصلية يلزمها دورات تكوينية في السياحة. من شدة التآخي والود اللذين أظهرهما، اعتقدت أنه سيطلب إضافة اسمه للحالة المدنية لعائلتي وأن يصير لي أخاً!

ثقافة البلد أم أبرتايد أخلاقي؟

كان مركباً صغيراً بألوان زاهية. ثمن زهيد لتسيح في النيل برفقة موسيقى شعبية مصرية صاخبة. إنهم "الغلابة"؛ ثروتهم هي قلوبهم المتخمة بالتعطش للفرح والسعادة.

النساء في صف على اليمين ويقابلهن الرجال. المسؤول عن الرحلة حريص على الفصل بين الجنسين. لم أجد في الأمر حرجاً. بدا اختياراً "أخلاقياً" جديراً بالاحترام، على الرغم من أنني لم أستوعب جيداً إجباريته.

إلى حدود اللحظة، بدا كل شيء عادياً، حتى بالغ صاحب الرحلة نفسه في تفحص شابة جميلة تتوسط صف النساء. انتهى به الأمر أن طلب منها أن ترقص معه، بنوع من الإلحاح المخفي بغطاء حسن النية.

الرقص، ولو مع الكثير من الاحتشام، جعل اختلاط الرجال والنساء في المركب واقعاً مع مرور الدقائق. انتحلت ثوب الباحث في علم الاجتماع، وتساءلت: هل الأخلاق تنحني أمام الغرائز؟ متى تحسم المجتمعات العربية في صراعها الأبدي بين الفكر المحافظ والفكر الحداثي؟

مصر المحبوبة... والأخرى التي لا يمكن أن نحب

في "كنيسة الكهف"، واحدة من أضخم الكنائس في الشرق الأوسط، في منطقة جبل المقطم بالقاهرة، سُررت بكون المكلف بحراسة الكنسية مسلماً. كان ذلك مثالاً جميلاً للتعايش. تناسيت كلّ ما حكى لي صديق مصري مسيحي عن رأيه حول مكانة المسيحيين في البلد. أحياناً، أُفضّل أن أكون محافظاً يؤمن بوجوب تحاشي التدخل في الشؤون الداخلية لبلد ما أو الخوض فيها دون معرفة عميقة بالموضوع.


في قلب مصر تكمن حياة تتحدى الصورة النمطية، بين دفء النوبيين وروح الدعابة، وبين صرامة التقاليد وحيوية التغيير

اشتريت كتيباً عن تصور الحب في الديانة المسيحية ثم غادرت المكان. الكنيسة توجد بالقرب من منطقة "الزبالين". في هنيهة، انتقلت من تسامح الأديان إلى عطن الأزبال!

ذات يوم، ركبت مع سائق سيارة أجرة في أسوان، صدمني بتعبيره الصريح عن مقته للمهاجرين السودانيين في المدينة، مؤكداً أنهم عبء على مصريي المدينة (ولو أن موقفه لا يعكس حتماً موقف الجميع). استحضرت بعض الملاحظات المستاءة التي يبديها بعض أبناء جلدتي حول المهاجرين من دول جنوب الصحراء المتواجدين في المغرب. قبل أن ينهال العرب على أوروبا بتهم العنصرية، أليس حرياً بهم أن يمحصوا مواقفهم الشخصية من المهاجرين في بلدانهم؟

ذات يوم آخر، قرب محطة القطار في القاهرة، كنت أستريح في مقهى. وضعت رِجلاً على رجل. على حين غرة، دلف شاب بلباس مدني وصفة عسكرية. لم يستسغ أن دخوله لم يسترعَ اهتمامي. بدت سلطويته مرضية عندما سحب هاتفي من الشحن.


لا أقبل التسلط لا في بلدي ولا في أي بلد آخر. وهذا السلوك ترك في نفسي بعض المرارة التي لم تعكر متعة زيارة واحد من أعظم البلدان في العالم.

أنا من هواة أنصاف الكؤوس الممتلئة والجميلة، وسأترك المشاهد الشاذة للتأمل فقط.

سأتذكر للأبد تطوع برج ستانلي لغسل الأرواح الحزينة بالـتأمل في الإسكندرية، وشاعرية التسوق في خان الخليلي في القاهرة، وهيبة التماثيل البرونزية لأبرز وجوه الأدب المصري في مكتبة الإسكندرية التي تبرز فضل مصر على الثقافة العربية. سأتذكر طيبة النوبيين في أسوان، ومشاعر الصداقة والحب التي أظهرها المصريون معي لكوني عربياً مثلهم.

هناك حياة قبل زيارة مصر، وأخرى بعدها! هذا أمر لا ريب فيه!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image