شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نجاة مرئية من قلب الحرب... رحلة بيروت، المدينة المعذبة

نجاة مرئية من قلب الحرب... رحلة بيروت، المدينة المعذبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الاثنين 9 ديسمبر 202411:13 ص

يعود البرد، وأعود لأدفئ يديّ الصغيرتين، منذ الصباح حتى المساء، بالأكواب الكثيرة من قهوتي المفضلة. لم يخطر ببالي يوماً أن مشروبي العتيق قد يشبه دماء الأطفال التي يسفكها الإسرائيلي، على عكس الصوت العقائدي الذي يوبخنا من بعيد، رغم علمه أنني وأمثالي من الناس العاديين جداً، لا ننتمي إلى أي بلاد أو مدن أخرى.

كان جنون النصف الساعة الأخيرة عصفاً لا يتوقف في قلب العاصمة، التي تخفق تحت القصف منذ بعد الظهر. كان من الصعب تصديق كل ما يحدث، كأن البلد بأسرها صف دومينو هش، أو أعمدة ليڠو هزيلة، تنهار تحت مكنسة هوڤر تعمل بلا رحمة، تاركة الخوف بلا مجال. كنا، سكاناً ومهجرين، أوراق خريف تتناثر في العدم المطلق، مع شق الطيران المرعب لساعات الفجر الأولى.

ساندني حيي الصغير وساندته. حاولت تهدئة داخلي باستعادة صور الأزقة التي تشبه باطن كفي، وجوه أهلي وناسي، مقتطفات من الذاكرة الجماعية، شذرات من اللحظة الراهنة، وتصورات للأيام الآتية التي أرجوها أفضل. الحب وسط الخوف، السكينة في قلب القلق، وجملة من أغنية فيروز بدلت كلمتها الأخيرة لتصبح: "مزروعة عالداير نار [وصواريخ]".

ثم انشغلت بحساب كيف بات عمر الخبر القديم ثلاثين دقيقة فقط، وكيف أن المسافة البعيدة لم تعد تتجاوز خمسين متراً.

وأنا، لم أتخلّ عن عادتي في المشي ببيروت، حتى خلال الحرب. المشي بالنسبة لي في مدينتي ليس مجرّد وسيلة انتقال من مكان إلى آخر، بل هو فرصة للنظر، للرؤية، وللتأمل. وعندما كنت أسير وفوقي تحوّم المسيرات وتبدأ الغارات، ويتصل بي أهلي وأصدقائي للاطمئنان، كنت أشعر أنني لست وحيدة. الهاتف لم يعد مجرد آلة؛ أصبح كائناً حياً ينبض بأصوات مختلفة وخطوط يد حانية، والأبعدون يرهفون السمع، كأن خيط الحنين يرقّ مع الشد على طول المدى الأفقي.

كان جنون النصف الساعة الأخيرة عصفاً لا يتوقف في قلب العاصمة، التي تخفق تحت القصف منذ بعد الظهر. كان من الصعب تصديق كل ما يحدث، كأن البلد بأسرها صف دومينو هش، أو أعمدة ليڠو هزيلة، تنهار تحت مكنسة هوڤر تعمل بلا رحمة

كان لدي أصحاب، معارف وأقرباء في كل زاروب تقريباً، وفي الأماكن التي اعتدت ارتيادها منذ مراهقتي. وجودهم الظلالي كان يرسل لي ذبذبات من الألفة والإحاطة. وبين اتصال وآخر، ووجه وآخر، كنت أثابر على التنفّس بعمق، وأشعر بقدمي تطآن الأرض بثبات. عملياً، توقفت عن استخدام سماعات الموسيقى لأبقى منتبهة إذا مرّ صاروخ فوق رأسي أو وقعت ضربة قريبة.

لاحظت أن صوت القصف والتوتر في الشارع أقل وطأة مقارنة بالجلوس في المنزل أمام التلفاز. ربما كان هذا أسلوباً للبقاء، ابتكره المشاة والسائقون، نوعاً من التواطؤ السري والعجيب... لا أعرف. أحتاج إلى وقت أطول للتفكير وفهم كل شيء، لكن ما أدركه هو أن هذا الواقع الأليم أعادني إلى زمن "التحية".

"تحية" إلى شعبي الذي تحمّل الكثير ولا يزال يتحمّل: بعضه من أجل الكبير، بعضه من أجل الصغير، وبعضه من أجل نفسه. وما يختلجني دائماً هو الحب لهذا الشعب، سواء صمد بإرادته أو لأنه لا يملك خيارات أخرى.

وبينما أصبحت أفتح عينيّ أكثر، بدأت ألاحظ الألوان من حولي بدقة أكبر. اكتشفت مجدداً كيف تجتمع، حتى في أصغر بقعة في بيروت، كل الألوان: الأباجورات الزرقاء والخضراء، الدرابزينات الحمراء والفضية، البنايات بدرجات الأبيض والرمادي، بقايا القرميد، وأشجار البوصفير والبوغانفيليا والجاكراندا بظلالها الصفراء والوردية والبنفسجية.، جهات المطاعم ومحال الملابس والمكتبات بثباتها الحزين، أفران الكعك والخبز والمناقيش التي لا تهدأ حركتها... وصولاً إلى السماء، التي مع اقتراب الشتاء، تمحو زرقتها بسرعة وتكتحل على مهل.

الألوان جميعها حاضرة دائماً وأبداً هنا.

انتهت الحرب الإسرائيلية على لبنان في الساعة الرابعة من فجر يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024، مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وفقاً لما أعلنه الرئيس الأميركي جو بايدن في اليوم السابق. وأتت نهاية تلك الحرب بعد 416 يوماً من الهجمات اليومية، ونحو شهرين من العدوان الموسّع، وبحسب وزارة الصحة، بلغ عدد الشهداء في هذا العدوان وحتى تاريخ نشر الخبر 3,823 شهيداً، إضافة إلى 15,859 جريحاً.

التقطت أول صورة لي في الشارع في اليوم الثاني للهدنة. كنت أرغب في الخروج في اليوم الأول، لكن رغبتي تأجلت بسبب انشغالي بالرد على المكالمات الهاتفية، وخوفي من الرصاص الطائش ومفرقعات الابتهاج العنيفة والعشوائية. اخترت المكان على الخيط الواصل بين النويري ورأس النبع، مسقط رأسي، كي أعود إلى أحضان المهد الأول، عبر الرصيف.

شخصياً، لم أتمكّن من إحصاء عدد الغارات، إذ غالباً ما أفقد القدرة على العد بعد الرقم ثلاثة. فكيف الحال عندما يتعلق الأمر بضربات متوحشة ورشقات جنونية؟

بصراحة، لم أكن أدرك أن منطقتنا بهذه الخطورة. للحظة، جعلني الإسرائيلي أشعر وكأن "البسطة" - تخيلوا! - تقابل "تل أبيب". يُقال إن المنطقة، مع بربور، المزرعة، المصيطبة، الحمرا، زقاق البلاط، مار الياس والطيونة شهدت بين 12 و16 غارة، تركزت معظمها في الأيام الأخيرة.

شخصياً، لم أتمكّن من إحصاء عدد الغارات، إذ غالباً ما أفقد القدرة على العد بعد الرقم ثلاثة. فكيف الحال عندما يتعلق الأمر بضربات متوحشة ورشقات جنونية؟ ومع أنني لا أستطيع تأكيد الأرقام إلا بالرجوع إلى مصادر موثوقة، فإن الإحساس بما عشته يجعل الأمر يبدو حقيقياً إلى حد بعيد.

الناجي، على الأرجح، هو فقط من لم يمت أو يُصب بجروح تنزف دماً. أما الأضرار والإصابات غير المرئية، فتحتاج إلى عيون كثيرة، في القلب والعقل معاً، كي تُدرك حقاً.

انتهت الحرب، وبيروت لم تنتصر، لأنها لم تدخل الحرب أصلاً ولم تخترها، لكنها لملمت شتاتها، جمعت قوتها، صمدت واحتضنت الجميع، ثم نجت، وسوف نحصي الخسائر عندما يتبدد غبار الردم والزجاج، وإذا ما أتاح لنا الفساد الفرصة لذلك.

انتهت الحرب دون أن أخسر صداقة واحدة بسبب رأي في السياسة. كلنا أَلِيس، وبلادنا المتخيلة على مقاس أحلامنا مليئة بالعجائب. وهذا البلد، رغم كل شيء، يبقى بلدنا جميعاً. ومهما تقلبت الأيام وتبدلت الأدوار، لن يكون لنا سواه، من شماله إلى جنوبه.

ما أقسى القسوة وما أوحش التوحّش. نصلي أن يكون المطر الحالي رؤوفاً بنا جميعاً. اجعلها الحرب الأخيرة يا رب، فالقلب ليس "بازل" يعاد تركيبه كل عقد ونيف، كما أن الأشجار لا تستطيع الرحيل أو الانغراس بالأرض عبر أغصانها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image