قيل سابقاً: القاهرة تؤلف، بيروت تطبع، وبغداد تقرأ.
هذه المقولة هي انعكاس لواقع ثقافي شديد الزخم بين عواصم الدول الثلاث، وإشارة واضحة أيضاً إلى واقع سياسي ظلّ مشتعلاً على مدار سنوات، وساهمت ثقافة ساكنيه في الحد من اشتعاله داخلياً من خلال إعادة قراءته وتفكيكه في ظل كل أزمة. ربما لم تنجح الكتب أو الثقافة في صدّ مصائب السياسة التي أغرقت هذه الدول في مصائر معقدة.
ولكن لا شك في أنّ كل ما صدر ورصد تاريخياً الفترات السوداء في هذه العواصم يصلح للاستعادة في أوقات الحرب من جديد، والحرب نفسها لم تتوقف من قبل لتبدأ، ربما مرّت بفترات ركود أو هدنة غير مُعلنة، ولكننا لم نعرف السلام الشامل حتى في الأدب العربي منذ بدأ ظهور شيطان الاستيطان الصهيوني في المنطقة العربية، لذلك كلما قرأنا عن الحرب، أو ما بعد الحرب، واجهنا نحن، الجيل الذي يتابع الحرب لحظةً بلحظة على مواقع التواصل الاجتماعي في صورة "البث المباشر" و"لايفات التيك توك"، ومن خلال تحليلات الخبراء على "إكس"، تساءلنا عن أي حرب سابقة يتحدث هؤلاء؟ وهل كل الحروب سواء؟ وهل أزمتنا فعلاً في أننا لا نقرأ كما ينبغي؟
بيروت… المدينة المستمرّة
بيروت هي لبنان، ليست مدينة النور العربية فقط، وليست فيروز والأخوين رحباني فقط، وليست جبال الأرز فقط، بيروت هي كل هذا وأكثر!
لم أذهب إلى بيروت من قبل. حلم قديم لم يتحقق بعد. بيروت هي المدينة المثالية لكل عربي يحلم بزيارة نسخته الخاصة من مدينة الأحلام. في ظل الحرب الحالية التي أصابت لبنان الذي يشبه "سيرينا" حورية البحر الفاتنة التي كلما استعادت جزءاً من بريقها تسلبه الحرب، وحرب تُسلّم حرباً ولبنان نفسه باقٍ كوطن لكل المنفيين وكل الحالمين.
في ظل الحرب الأخيرة التي أصابت لبنان، الذي يشبه "سيرينا" حورية البحر الفاتنة، التي كلما استعادت جزءاً من بريقها تسلبه الحرب، وحرب تُسلّم حرباً ولبنان نفسه باقٍ كوطن لكل المنفيين وكل الحالمين
حين لا يعود الموت حدثاً استثنائياً في حياة الناس والأمكنة، هل يمكن للكتابة أن تكون استثنائيةً؟ حين يصير الموت جزءاً من الحياة نفسها، ما الذي في استطاعة الكتابة أن تضيفه؟
في كتابه "بيروت - المدينة المستمرة"، الصادر عام 2010 عن الدار العربية للعلوم "ناشرون"، لا يُشير الشاعر والكاتب اللبناني زاهي وهبي عن أي حرب يتحدث، إذ يبدو أن الكتاب بالكامل يدور في فلك لبنان الجريح بسبب حروب عديدة عاصرها، وما بين 1982 و2006 مئات الجراح التي ملأت جسد لبنان من الجنوب المقاوم حتى بيروت مدينة الأحلام. يسترجع الإعلامي المولود في ستينيات القرن الماضي، لبنانَ الستينيات والسبعينيات، من ذاكرة سكان الجنوب الذين تربى على حكاياتهم، والذين سينطقون بلسانٍ آخر بعد تأزم وضع المنطقة العربية ليتحول لبنان من دولة تجمع الكل، إلى دولة في ذهن كل مواطن على حسب انتمائه الديني والسياسي.
"بيروت مدينة الروح. لبيروت روح ونبض، وكم من المرات هُدمت بعوامل طبيعية أو 'إنسانية' وظلّت تنبض. ❝
أيام الموت الجنوبي وحصار 2006
في كل الحروب العدوانية الإسرائيلية لم تكن إسرائيل تحتاج إلى ذريعة لممارسة الإرهاب على الشعوب العربية، بل كانت تحتاج إلى كذبة!
تعددت الحجج والأسباب وما زالت الضحية عربيةً، ولنا في تاريخنا عبرة. الآلة الحربية التي تموّلها أمريكا ويرعاها الصمت الملكي العربي، أرادت عودة لبنان الجريح إلى حالة حرب الـ1982، أي إعادته إلى الخلف حتى ينزف جرحه العميق من جديد، ويتمزق جسد الوطن بسكاكين الطائفية والاتهامات العرقية. ولكن لبنان نجا بعد 1982، وصمد بعد حصار وقصف 2006، وسيصمد ونحن في 2024، لأنه لبنان المقاوم بشعبه والواثق بإيمانه بنفسه.
في كتابها "يوميات بيروت المحاصرة - حرب تموز 2006"، توثق الكاتبة البحرينية خولة مطر، يوميات الحرب والحصار التي امتدت لأكثر من شهر على لبنان. يوميات تشبه كثيراً الأيام الحالية في كآبتها وحزنها؛ نزوح وموت، جوع وحصار، فقر ومرض، وخسائر بشرية لا حصر لها لأن كل رصاصة تقتل اثنين بحسب لوركا!
"إنها الحرب كما كانت دوماً، حيث لبنان الضعيف القوي بإرادة مقاومته يصرخ، والعرب يتفرجون. قد يصدرون التصريحات الخجولة أحياناً، لكن الصمت هو الموقف الأزلي لهم".
لا يختلف الوضع كثيراً في كتاب خولة مطر، عن الوضع الحالي. مجرد عودة بالزمن -نظرياً- إلى تاريخ مرّ عليه 18 عاماً، ولكن الوضع كما هو معقد اجتماعياً وسياسياً وحزين من حيث تفاصيل النزوح والموت ومحاولات الصمود أمام عدو تُغذّيه الكراهية. في كتابها توثق خولة يوميات البؤس. تفاصيل عادية عن محاولة الحصول على البنزين والمياه النظيفة وتأمين أبسط الاحتياجات، بعيدة عن دكّ طيران العدوان منازل النازحين أو المستشفيات العامة بدوافع الأيام الحالية نفسها. تمنح الكاتبة الصحافية للنازحين والهاربين من الجنوب خوفاً من طيران العدو فرصتهم لتوثيق أيامهم الصعبة التي مرت على بعضهم في 1982، و2000، وحتى حرب 2006.
إلى أين سيذهب أهل الضاحية؟ إلى بيوتهم التي لم يعودوا يعرفونها؟ أم إلى قريتهم التي محاها الإسرائيلي عن وجه الأرض؟
في عدوان 2006، يبدو من توثيق خولة مطر دعم كل لبنان لحزب الله، وفي شهاداتهم التي جمعتها الكاتبة من مراكز النزوح في المدارس والمستشفيات، بدا كل المتضررين على قلب رجلٍ واحد، هو السيد حسن نصر الله، الذي اعتاد الظهور متحدثاً برأسٍ مرفوعة رافضاً الانحناء أمام عدوّ قائم في الأساس على مبادئ التطهير العرقي.
بعد 18 عاماً على حرب 2006، وفي ظل قصف لا ينقطع على لبنان، وفي ظروف العدوان المتكررة نفسها، لم يعد في لبنان من يمنحون التأييد المطلق لحزب الله، ولكنهم أيضاً لم يتقبّلوا أن تكون بيروت في مقابل غزّة -إشارةً إلى بداية العدوان على لبنان بسبب انخراط المقاومة في الدفاع عن غزة-.
في الكتاب ابتعدت خولة عن بيروت العاصمة والمركز، واتجهت نحو الضاحية والجنوب الذي يتماسّ مع المدن الفلسطينية المحتلة، وفي ظل هذه الرحلة لم تفوّت تفاصيل الجغرافيا الساحرة لبلد منحوت في جسد الطبيعة وتظهر فيه كل معالم الجمال الأرضي الذي يدفع الحاقدين للحسد، ويدفع إسرائيل للإغارة عليه. يشبه حصار 2006، حرب الأيام الحالية، وبالرغم من توثيقها الصحافي البارع في كتابها الصادر عن دار "رياض الريس"، في نيسان/أبريل 2007، إلا أن القارئ يجد في الكتاب ملامح شديدة التطابق مع أيامنا الحالية باختلافات عديدة سياسياً نعم، ولكن النسيج الاجتماعي اللبناني لا يبدو أنه سيتغير برغم التغيرات الديمغرافية الكبرى التي تتبدل أمام ثباته ومقاومته الباسلة.
الأمل في بيروت لا شفاء منه
في كتابه الوثائقي ليوميات حصار بيروت، والذي لا يختلف كثيراً في تفاصيله المأساوية عن أيام الحرب الكبرى في بيروت عام 2006، أو ما يعيشه لبنان في الوقت الحالي أمام العدو نفسه، يكتب طرابلسي، توثيقه لأيام الحصار يوماً بعد يوم من منظور سينمائي، ويستخدم الرمزيات والإسقاطات في تحليل المشهد البيروتي. يقارن نظرياً، بين ما حدث في أيام الحصار الذي فرضته إسرائيل على لبنان لخروج "منظمة التحرير الفلسطينية" من أراضيها بالحرب العالمية الثانية، ويستشهد بتحول الدولة الصهيونية التي تدّعي مظلوميتها الكبرى على يد النظام النازي إلى نظام فصل عنصري نازي بامتياز بختم الجودة الأوروبية التي تساهم في تمويل آلة الحرب بسخاء.
والغريب أن كل ما يذكره فواز، في طبعة الكتاب الأولى التي صدرت في 1982، أو الثانية التي صدرت في 2007 بعد حرب بيروت، هي الوقائع نفسها التي تحدث في عام 2024 بلا اختلاف تقريباً، وكأننا نعيش في حلقة مفرغة من العدوان الصهيوني بتمويل أمريكي/أوروبي ورعاية عربية. على طول الكتاب، لا يتوقف فواز طرابلسي عن تأريخ اليومي والعادي في حياة سكان بيروت.
وفي حديثه عن الأمل، يستشهد بأنطونيو غرامشي وكارل ماركس في أحاديثهما التي ربطت الأمل بالعمل، حيث يرى المفكر الإيطالي أن الأمل يرتكز على دافع ديني والاستنجاد بقوة علوية لإنقاذ الإنسان من الشر، والدافع الثاني ماركسي لقدرة الإنسان على العمل وتسخير الطبيعة لخدمته، ولكن بحسب الكاتب فإن الأمل صناعة كغيرها من الصناعات. والأمل في هذه الأزمنة العربية الرديئة، حِرفةٌ يجب أن نمتهنها بحذاقة.
"كم هي واسعة ذمتك أيها العالم الأول!
وأنتَ يا أعجب المخلوقات.
أيها الضحية المتَّهمة، والجثة المُجْرِمة،
ناضِلْ أقلاًّ ليعترفوا لك بمكان تحت الشمس بصفتك مجرد ضحية!".
"الإسكندرية/بيروت"… عن مدينة لا تغيب
للإسكندرية وجوه عديدة تبدلت على مدار سنوات، ولكن هل تتشابه الإسكندرية مع بيروت؟
مع بداية الحرب امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بصور عديدة لمن مرّوا على بيروت مرةً أو أكثر، أغلب الصور أطلّ منها أصحابها مبتسمين على شاطئ البحر أو في الجبل، كلهم تمنّوا السلام للبنان، وكتبوا شهادات طيبةً عن بيروت التي امتلكوها لأيام قليلة!
برغم أوجه التشابه التي تجمع وثائق حروب العقود الماضية بما يحدث حالياً، إلا أن لكل حرب قسوتها، ولكل كومة تراب لبناني قيمتها وتاريخها في المقاومة
ولكن بيروت لا تشبه أي مدينة أخرى، لا في الحقيقة ولا في الصور، وللجغرافيا والتاريخ دور كبير في هذا بالطبع، ولكن لأن الطابع السوسيولوجي لمدينة أشبه بالعنقاء يمنحها طابعاً أسطورياً شامخاً كعاصمة ترمز إلى بلد مقاوم بالفطرة لطبيعته الجبلية وشعبه الذي دفع ويدفع ثمن حريته بسخاءٍ في كل مرة تُفرض عليه الحرب.
في كتابها "الإسكندرية بيروت"، تكتب نرمين نزار عن وطن تركته لبعض الوقت بسبب الحرب، ذاهبةً إلى قبرص ومن بعدها إلى مصر، وبرغم سنوات الغياب الطويلة لم تغب بيروت عنها. بيروت رمز وطني لا يغيب عن الذهن العربي فما بالك بذهن من سكنها وعاش فيها. العجيب في مطالعة كل ما كُتب عن لبنان، هو أنك لا تدرك عن أي حرب تدور الحكاية، لأن لبنان يتألم منذ سنوات طويلة، بقصصٍ مأساوية متكررة عن البطولة والمقاومة والصمود، لا يغيب عن المشهد الأدبي اللبناني مشهد النزوح من الضاحية والجنوب إلى العمق اللبناني وصولًا حتى بيروت، بالإضافة إلى وحشية إسرائيل المتكررة تجاه دولة تناقض الكيان الاستيطاني بسبب رسوخه في عمق التاريخ وبجغرافيا جبلية راسخة يستمد منها شعبها عزيمته في كل مرة يظن فيها الاحتلال الصهيوني أن مهمته سهلة مهما زادت جرعة الحقد الإسرائيلي تجاه شعب لبنان.
برغم أوجه التشابه التي تجمع وثائق حروب العقود الماضية بما يحدث حالياً، إلا أن لكل حرب قسوتها، ولكل كومة تراب لبناني قيمتها وتاريخها في المقاومة، ولأن اللبناني يبني بيته في كل مرة وكأنه بيت شِعر قابل للشطب والتعديل أو الإزالة بفعل الحروب والصراعات إلا أنه ما أن ينتهي الحصار وتتوقف النيران حتى يبدأ من جديد بالاحتفال بالحياة كما يليق بصاحب مدينة تفتح ذراعيها للجميع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 11 ساعةتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 13 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ 23 ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.