بعد انتهاء الحرب اللبنانية الطويلة (1975-1989)، استمرت أشغال التأهيل في حرش بيروت من عام 1992 إلى 2002. ثم مع الشروط القاسية التي وضعتها البلدية من أجل الدخول، مثل أن يكون/تكون الزائر/ة أجنبي/ة أو لبناني/ة تجاوز/ت عمر الـ 35 وحامل/ة لإذن منها، أُغلقت غابة الصنوبر الصغيرة أمام معظم السّكان طيلة 20 عاماً. لكن مع تظافر جهود جمعية "نحن" بشكل أساس، أُعيد فتح البوابات المتعددة لأكبر حديقة عامة في المدينة، يوم 6 حزيران/يونيو 2016.
هكذا، وبمساعدة من منطقة Ile-de-France، احتوى المنتزه المستحدث على أكثر من 7000 شجرة صنوبر، بينها المعمّرة، إلى جانب الزيتون، الخروب، ونباتات زينة رائعة. إلّا أن الفرحة بالمُتنفس الأخضر، على تخوم العاصمة المُفتقدة للتنظيم المدني، لم تكتمل بفعل التعديّات المتتالية على أرضه، حيث تمّ بناء مخفرين، سريّة درك، مبنى للأمن العام، مستشفى ميداني ومهنيّ، علاوةً على حدوث أكثر من حريق فيه، خلال هذا العام وحده.
جانب من الحضور في الليل
وفي هذا العام، من الممكن اعتبار أن ثمّة بصيصَ أمل قد أُضيء في ما يتعلّق بالدور الحيوي للمكان، إثر إحياء مهرجان حرش بيروت بدورته السابعة، في يومي السبت والأحد 10 و11 أيلول/سبتمبر، وبعد توقف قسري لأعوام 2019، 2020 و 2021، بسبب انطلاق ثورة تشرين من جهة وانتشار جائحة كورونا من جهة أخرى.
الفرحة بحرش بيروت على تخوم العاصمة المُفتقدة للتنظيم المدني لم تكتمل بفعل التعديّات المتتالية على أرضه، حيث تمّ بناء مخفرين، وسريّة درك، ومبنى للأمن العام، ومستشفى ميداني ومهنيّة، علاوةً على حدوث أكثر من حريق فيه، خلال هذا العام وحده
المهرجان نظّمته جمعية "السبيل-ثقافة للجميع" التي تعمل على تعزيز المشاركة الثقافية والوصول الحرّ وغير المحدود إلى المعلومات، بالتعاون مع بلدية بيروت وبدعم من بلدية أفينيون، جمعية "دجاليا أنترناسيونال"، السفارة الفرنسية في بيروت، مؤسسة التعاون-لبنان" ومركز الجنى. وشمل سلسلة عروض من الحكايات الشعبية للصغار والكبار، مسرحَ دمى ومسرحاً تفاعلياً، سيرك، بالإضافة إلى أمسيتين غنائيتين. كما سبقه أسبوع ثقافي امتد من 5 إلى 9 الشهر الجاري، فضمّ محترفَ كتابة باللغة الفرنسية، قراءات شعرية باللغات الثلاث، محترف شرائط مصوّرة ومشاهدة مقتطفات من فيلم. التقى رصيف 22 بعضاً من الفنانين/ات ضمن الفعالية وحدثهم/ن.
قراءات شعرية
قرأ الشاعر محمد ناصر الدين من أبياته العربية، في الـ7 من أيلول، فقال: "لم أتعمد اختيار القصائد وثيماتها. حضرت تلك الّتي تتحدث لوحدها عن الحرب، ربما لأني قضيت طفولتي فيها أو ربما هي قضت على هذه الطفولة، إذ لم يعش جيلنا فيها مثل أي جيل مدلَّل يعيش السلم والرفاه. عجنتنا الحرب وخبزتنا وصيّرتنا رجالاً ونساءً وبالغين وأحياناً عجائز على غير إرادتنا، وسكنت وعينا الباطني لهول مشاهداتها وإمكانية انبثاق شرارتها في أي احتكاك بين الجماعات المتناحرة التي لم تصنع وطناً وسلماً واجتماعاً، فكان بديهياً بالنسبة لي، أن تتصدر نصوصُ الحرب أي مناسبة شعرية".
وأضاف: "لا بد من تشريح أهوالها بمبضع الفن والأدب والشعر لنفهمها ونفهم أهوالها ومآسيها وما أوصلتنا إليه، ولنعارض النسخة الرسمية الفلكلورية التي أنهتها دون الغوص في أسبابها الحقيقية وميكانيزماتها ونتائجها. الصمت في السياسة قابله كلامٌ كثير في الشعر والفنون حول تلك الحرب".
وختم: "قرأت قصيدتين عن المسيح أيضاً، ربما لتوقي إلى معجزة. لكنه تفاؤل الإرادة يقابله تشاؤم العقل على المقولة الماركسية. هل ترك لنا هذا البلد الذي يقتلنا كلّ يوم في أحلامنا وتطلعاتنا وخبزنا، إمكانيةً لمعجزة؟ ربما استحضرت المسيح لأننا نقاد كل يوم إلى صليبنا".
مسرحية "كلّه من الزيبق"
عن مسرحية "كله من الزيبق" الّتي عُرضت في 10 أيلول/سبتمبر مع جمعية "خيال" للتربية والفنون، ومسرح الدمى اللبناني، قال منتجها كريم دكروب، وهو مخرج ومعالج نفسي: "نحن نعمل من زمان مع جمعية (السبيل) ونثمّن رسالتها ونضالها لتفعيل المطالعة لدى الجميع. ما يحصل للحرش منذ سنوات يعكس بوضوح سلوك السّلطة غير المسؤولة إلّا عن الخراب".
استطاع المهرجان "أن يجمع الأشخاص، وبوفرةٍ، كي يتفاعلوا مع أغنيات تحاكي يومياتهم العادية، كما تعبّر عن إصرارهم على توليد الحياة، وتماماً من المآسي التي يعانون منها والأزمات التي تعصف بهم"... أميمة الخليل في مهرجان حرش بيروت
ووصف العمل المُقدّم على أنه: "لكل العائلة، فلا يقتصر على الصّبيان ولا البنات ومأخوذ من ريبرتوار (مسرح الدمى) الغني بثيماته، والّذي ساهم بمراكمته كتّابٌ وملحنون ومخرجون معروفون بجودة إنتاجهم أمثال أحمد قعبور، فايق حميصي، وغيرهم. وأعرب: "عادةً ما تجذب الفترات الّتي تلي الأحداث الأليمة الأُسرَ إلى البحث عن التسليّة والترفيه. وهذا ما شهدناه، لاسيما بعد انفجار 4 آب/أغسطس، ومع العلم أن ثيماتنا تخبئ البُعد التنموي بحرفية بين طياتها". وختم: "فالبطل (الزيبق) هو الطّفل الباحث دون جدوى عن حقّه في اللعب في الخارج، ما يصفه البالغون/ات -تقليدياً- بـ(الشيطنة) ".
"ورح نبقى...."، حفل غنائي لأميمة الخليل
عن حفلها الغنائي "ورح نبقى…"، في المساء نفسه، قالت المغنيّة أميمة الخليل ذات الصوت المحمّل بدفء الإنسانية: "لقد منح المكان معنى عميقاً للحفل الجميل بكل الأحوال، وبفضل الحضور الممتلئ طاقةً، والتنفيذ، والموسيقيين القلائل الّذين رافقوني وبرمجة هاني سبليني. ولقد طغت رمزيته على الكادر، من ناحية أنه فعلياً شبه محرّم على الغالبية، لكنه استطاع بالمناسبة أن يجمع الأشخاص، وبوفرةٍ، كي يتفاعلوا مع أغنيات تحاكي يومياتهم العادية، كما تعبّر عن إصرارهم على توليد الحياة، وتماماً من المآسي التي يعانون منها والأزمات التي تعصف بهم".
وتابعت: "هذه هي النقطة الأهم بالنسبة لي، وللأمسية وقع في نفسي يساوي وقع أيّ حفل أحييته في كبرى قاعات العالم العربي والغربي". وختمت: "أما عن البرنامج، فمعروف أن مضمون أغانيّ بشكل عام يتناول همومَنا وندبنا، سخريتنا، كذلك طوقنا للفرح والرقص الّذي كان كبيراً هذه المرّة. لكنتي أختار ما يمكن تنفيذه وفق الشروط المُتاحة، كالتواجد في الهواء الطّلق أو إمكانية توفر أوركسترا، مثلاً".
مسرحية "آلة الزمن"
أما الممثلة ومحرّكة الدمى والمهرج (بحسب تعريفها عن نفسها) فاديا التنير، فلعبت دوراً رئيساً في مسرحية "آلة الزمن"، في 11 أيلول/سبتمبر، مع جمعية "أصدقاء الدمى" وقالت: "أودّ شُكر جمعية (السبيل) على دعوتها دائماً لنا من أجل المشاركة في المهرجان. لقد أصبح لدينا جمهور من المتابعين الأوفياء والّذين يختارون عن دراية ما يرغبون فعلاً بمشاهدته. عمل الآن يدور حول رحلة (حياة) نحو المستقبل. هناك، تكتشف المراهقة مدى تأثير أعمال وتصرفات البشر الخطيرة على البيئة".
هل بإمكان الفنّ أن يشكّل، على الأقل، نوعاً من قشّة خلاص روحي للشّعب المخطوف والمتروك للقدر؟
وفسّرت: "تتماهى القصّة إذاً مع المكان الطّبيعي هنا وزماننا الّذي شحّت فيه موارد الغذاء والطّاقة نتيجة لاستنزافها غير المحدود من قبل المصانع والمحلات". وختمت: "إنها فرصة للأفراد من كلّ الأطياف والانتماءات والفئات العمرية كي يعززوا العلاقات الاجتماعية فيما بينهم ومع الحرش بحد ذاته، وفرصة لتنشيط الثقافة المجانية لكن النوعية، بخاصة للأطفال وفي الظروف الاقتصادية الصعبة".
على الأرجح أن المهرجان قد نجح إلى حدّ بعيد في تحقيق أهدافه الّتي تكلّم عنها المبدعون/ات لرصيف 22، مع هذا، يبقى السؤال في ظلّ الانهيار غير المسبوق: هل من المُجدي مطالبة مسؤولي الدولة بالمحافظة على الأجزاء الصامدة من حرش بيروت وقد أمسوا واضحين في قدرتهم على مدى تدمير المؤسسات الرسمية وتفريغها من أدوارها؟ أو مطالبتهم بحمايته من الحرائق المُرتقبة، في حين نشاهد النيران تندلع بغموض وسط مناطق مختلفة وأكثر من أيّ وقت مضى؟. وأخيراً، إذا كان من الصّعب أن يُطعم الفنّ خبزاً للفنانين في هذا البلد الراكض سريعاً نحو الدولرة الشاملة، هل بإمكانه أن يشكّل، على الأقل، نوعاً من قشّة خلاص روحي للشّعب المخطوف والمتروك للقدر؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...