من كان يتوقع أن يسمع أحداً يقول لفيروس كورونا "شكراً"؟ عرسان قطاع غزة قالوها، بعد أن غيّرت الإجراءات الوقائية التي اتُخذت في القطاع عقب تفشي الوباء، نمط الحياة، وأزاحت مجموعة من عادات الزواج التي كانت تثقل كاهل العرسان، كالحفلات وموائد الغذاء وصالات الأفراح.
كان يجد كثيرٌ من الشباب صعوبة في التخلي عنها لضيق حالتهم المادية، لا لشيء سوى لأنها متوارثة وأقرب إلى العادات الثابتة في المجتمع.
تعليق هذه العادات وتخفّف العرسان منها أدى في العام الماضي إلى ارتفاع معدلات الزواج في القطاع الذي يتجاوز سكانه المليوني نسمة، ويعاني من بطالة مرتفعة تقرب نسبتها الـ50%، يشكل الشباب 65% منها، إلى 21,1% مقارنة بعام 2019، وفق إعلان رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي في غزة حسن الجوجو.
بحسب الجوجو، على الرغم من تداعيات الوباء وتقليص دوام المحاكم الشرعية إلى 50%، فقد شهد العام الماضي 20919 حالة زواج، مقارنةً بـ17270 حالة خلال عام 2019.
"مدينون لفيروس كورونا"
"عادات وتقاليد الأعراس في غزة كانت مثل حجر خرسانة في وجه العريس، وفيروس كورونا جاء وحطمها بكل بساطة"، يقول الشاب إيهاب المصري، وهو يضيف ساخراً: "نحن مدينون لفيروس كورونا... لقد خلّصنا من كل الأعباء المالية غير المبررة".
يذكر المصري (24 عاماً) أن هناك الكثير من العادات المكلفة التي يعتبرها المجتمع شرطاً لإتمام العرس ودليلاً على معدن العريس، ويقول: "إذا أردت مناقشة تخفيض تكاليف الزواج، فإن ذلك قد يرمي بك في خانة البخل، في عيون أهل العروس". يزفر مكملاً كلامه: "تخيل أن تصرف قرابة 7 إلى 9 آلاف دولار في ثلاثة ليالٍ بينما أنت تعمل بأجرة يومية لا تتجاوز الـ30 شيكل (10 دولارات)".
ويشير: "بعد مهر العروس الذي يقدر في غزة بين 3 و6 آلاف دولار يتكبد في طريق تحصيله الشاب معاناة تلو المعاناة، يظهر التخطيط لحفلات العرس، بدءاً من حفلة الشباب المتعارف عليها، وصولاً إلى يوم الزفاف الذي يتخلله مائدة غداء لقرابة 100 شخص بالحد الأدنى، ثم صالة العرس".
بحسب المصري، تصل تكلفة هذه الأمور إلى 6 أو 7 آلاف دولار، وبينما كان يفكر سابقاً بما سيحصل بعد عقد قرانه، وبالطريقة التي يمكن أن يوفر فيها هذا المبلغ، سواء عن طريق العمل أو الاستدانة من المعارف، ظهرت سيرة فيروس كورونا التي يقول عنها بتباهٍ عفوي منهياً الحديث: "طلعنا راس براس، ولم يكن هناك سوى حفل صغير جداً للعائلة، دون أن تتجاوز التكلفة الألف دولار".
الوباء إذ يصبح طوق نجاة
مرّ عام على خطبة الشاب يحيى أبو زهرة من سكان شمال القطاع، وخلال فترة خطبته، يروي الشاب أن لسانه مل من ترديد عبارة:" لما ربنا ييسرها"، عند كل سؤالٍ من معارفه أو أقربائه حول موعد زفافه.
"طيب خطبنا، بس من وين بدنا نعمل حفلة وعرس؟"، هكذا كان يُسائل أبو زهرة نفسه في خلوته، دون أن يجد إجابة ممكنة. فالشاب (29 عاماً) الذي يعمل في محلٍ لبيع الفلافل في معسكر جباليا، يعيش وعائلته في أوضاعٍ مادية صعبة، بالكاد تكفي أجرته الـ25 شيكل (9 دولارات) يومياً لسد احتياجات عائلته الشخصية.
يأخذ نفساً عميقاً، ويحكي مبتسماً: "لعند ما إجت الكورونا... رقصت لما سكروا صالات الأفراح ومنعوا التجمعات... ونهاية شهر أيلول (سبتمبر) الماضي عملنا حفلة صغيرة جداً في بيتي".
يتابع الشاب كلامه بالقول: "بدل ما أعمل حفلة بـ700 دولار، وصالة بسيطة بـ400 دولار، وغداء بـ300 دولار، عملت جلسة بسيطة للعائلة ولم يتجاوز الحضور الـ15 شخصاً، ورقصنا فرحاً، بلا ديون متراكمة". ويضيف: "يضطر معظم عرسان غزة، للاستدانة لتغطية تكاليف الزواج، وبعد شهرٍ من يوم الفرح والزواج، تبدأ الديون تلاحق العريس حتى في نومه، وتقلب عليه حياته".
في نهاية الحديث، يرفع أبو زهرة حاجبيه مستنكراً: "لشو كل هالعادات بالله؟ الله يحييّ الكورونا، جوزت الشباب ببلاش"، كما يتمنى أن يظل روتين الأعراس على هذه الحال، أي حفلة بسيطة بتكاليف قليلة.
"فرحة بلا مساحيق تجميل"
أكثرُ ما كان يزعج العروسين نور حسين (24 عاماً) ويوسف العجرمي (27 عاماً) كان رغبة عائلتيهما بإقامة حفل زفافٍ ضخم. كان العروسان يردان بأن في ذلك استنزاف غير مبرر للمال في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها قطاع غزة المحاصر منذ ما يزيد عن 15 عاماً. لكن النقاش حول الزفاف الضيق حتى وقتٍ قريب كان شبه مستحيل، ويسبب حرجاً لهما أمام عائلتيهما.
"إذا أردت مناقشة تخفيض تكاليف الزواج، فإن ذلك قد يرمي بك في خانة البخل. تخيل أن تصرف قرابة 9 آلاف دولار في ثلاث ليالٍ بينما أنت تعمل بأجرة يومية لا تتجاوز الـ10 دولارات"... غزيون يشكرون كورونا على تحريرهم من همّ التقاليد المرتبطة بالزواج
وبينما يخفي امتعاضه من حكاية العادات، يُكمل: "تخيل أن تدفع مبالغ كبيرة في الهواء، بدلاً من أن تستفيد منها في البحث عن مشروعٍ يفيد كلا العروسين! فرحتهما في ارتباطهما ببعض والعيش بهناءٍ مع بعض، لا بالمساحيق والفساتين لساعاتٍ من أعمارهم، دون فائدة لهم".
مَثّل قرار بدء تطبيق الإجراءات الوقائية، وإغلاق الصالات ومنع التجمعات، شيئاً أقرب إلى الانتصار في نفوس العروسين، كما يقول الشاب. يضحك: " الطبيعة انتصرت إلنا"، واقتصرت إجراءات العرس، على زفةٍ قصيرة في عددٍ من السيارات.
يختم الشاب:"لفة بالسيارة، انبسطنا، كأنها حفل ضخم، وكانت فرحة بلا مساحيق تجميل".
"كورونا شجعني"
حتى نهاية عام 2019، كان التفكير في الخطبة والزواج أمراً صعباً بالنسبة للشاب نادر عطيوة من سكان شمال القطاع.
لم يكن أساساً يتردد إلى ذهنه الموضوع سوى من دعاء والدته له بين الحين والآخر. يقول: "كانت حيلتي المادية لا تتجاوز الـ3 آلاف دولار، حصيلة عمل 5 سنوات"، مضيفاً: "شو بدهن يعملوا هالـ3 آلاف؟ حفلة ولا غداء ولا صالة؟ حتى بالغلط ما كانت تخطر على بالي المسألة".
يعمل الشاب (29 عاماً) في مصنعٍ للبلاستيك، شرقي القطاع، ويتقاضى راتباً شهرياً بالكاد يكفي لإعالته وسد حاجاته المادية، كما يقول معلقاً: "ثم جاء كورونا وشجعني بعد ما صارت الأوضاع تمشي على الضيق بين كل الناس".
"الحمدلله زبطت معي"، يضيف وهو يحرك رقبته يمنى ويسرى فرحاً قائلاً: "لا صالة ولا حاجة، بس شوية دبكة في دارنا وتكاليف المهر وغداء عائلتي وعائلة العروس الطيبة، وهيني مبسوط والحمد لله إني نجيت من فكرة التكاليف المرعبة".
"عرس مُعلّق"
رغم فرح البعض بالواقع الذي خلقه تفشي فيروس كورونا في القطاع، هناك من تألم أيضاً.
في جنوب القطاع، يقطن الشاب يونس قشطة الذي كان من المقرر أن يجري حفل زفافه نهاية السنة الماضية، لكن إغلاق الصالات ومنع التجمعات حالا بينه وبين تحقيق مراده، فأرجأ الزفاف إلى أجلٍ غير معلوم.
كثر وجدوا صعوبة في التخلي عن تقاليد الزواج المكلفة رغم ضيق الحال، ثم أتى كورونا ليحررهم منها فارتفعت معدلات الزواج في قطاع غزة بنسبة 21,1% مقارنة بعام 2019... تجارب الزواج في ظل كورونا كما يرويها غزيون
بشيء أقرب إلى التنهيدة، يقول: "والله زهقنا! بدنا نفرح ونرقص بدل ما عرسنا معلق". إذ يصر الشاب على إتمام حفل زفافه كما جرت العادات، فهي "فرحة العمر"، كما يقول، مُكملاً: "الحكاية مش إنه عادات، لكن لمة الأصحاب والعائلة، والأجواء كفيلة إنه تفرّح العروسين، لهيك اسمها فرحة العمر".
يشرد قليلاً عن الموضوع، ويذكر: "لما نيجي نركزّ في الأمر، فهو أكبر من إغلاق مش معروف متى ينتهي، لأ! المشكلة في كوننا منطقة منسية، يعني ما حد بيتطلع علينا، يمكن آخر ناس في الكرة الأرضية يصلها اللقاح، أو تتعافى من كورونا، وحتى هذا الحين يبدو أن الإغلاق سيستمر، وعرسنا سيظل مُعلقاً".
حتى الآن، لم يحصل قطاع غزة على أية جرعة لقاح، من أي نوع، وفي الوقت الذي تسلمت فيه وزارة الصحة في الضفة الغربية ألفي جرعة لقاح من أصل 5 آلاف قررت إسرائيل تزويد السلطة بها، تتوارد تقديرات بأن إسرائيل لن تسمح بنقل اللقاح إلى قطاع غزة، بحسب ما ذكره المراسل العسكري لـ"قناة 13" العبرية أور هيلر.
ومؤخراً، أصدر "المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" تقريراً بعنوان "خنقٌ وعزلة": آثار الحصار الإسرائيلي على قطاع، بعد 15 عاماً منه". وبحسب التقرير، بلغ نصيب الفرد في غزة من الخسائر الاقتصادية بفعل الحصار، خلال العقد الماضي، نحو 9 آلاف دولار أمريكي، بسبب الإغلاق طويل الأمد والعمليات العسكرية التي تعرض لها القطاع، استناداً إلى المعطيات التي توصل لها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في تقريره الصادر في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والذي خلص إلى أن التكلفة الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة خلال العقد الماضي قدرت بـ 16.7 مليار دولار أمريكي.
وأشار تقرير المركز الأورومتوسطي إلى أن نسبة البطالة في قطاع غزة تستمر في كونها من بين النسب الأعلى في العالم، وسط ارتفاعٍ في معدلات الفقر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...