بين البوركيني و

بين البوركيني و"الترمس" والحُب… مذكرات عاشقة الإسكندرية

رود تريب نحن والتنوّع

الأربعاء 17 سبتمبر 20259 دقائق للقراءة

ترسخت صورة ذهنية في مخيلتي حول الأسكندرية كمدينة عتيقة شامخة البنيان، شيدت خصيصاً للحب، ينتشر على شواطئها الأحبة، يتبادلون الغرام، وتشهد رمالها البيضاء شديدة النعومة على أشواقهم. يقابلهم صوت فيروز على وجه الأمواج وهي تغني "شط إسكندرية يا شط الهوا/رحنا إسكندرية ورمانا الهوا" زادني تعلقاً بها كونها نجمة بازغة يتلألأ نورها بين أروقة الشعر والأدب.

لقاء الإسكندرية الأول

تلهفت شوقاً بلقاء الأسكندرية، حتى أنني نسيت تمشيط شعري قبل اللقاء، تجلياً في كبريائها، وتخوفاً من السقوط في هواها، من كثرة حكايات الأحبة التي ولدت في هذه المدينة، إذ كانت تدور في ذاكرتي مشاهد من قصة حب الملكة كليوباترا ويوليوس قيصر، الذي هام بها غراماً، وحينما قرر استقدام الملكة التي تكتسب قوتها وشموخها من شموخ المدينة، إلى عاصمته، بذل كل جهده كي تصبح روما، أشبه بالإسكندرية، وبعد أن قُتل قيصر، وجاء أنطونيو، لتأديب الملكة، سحرته عروس البحر المتوسط، فتحول من قائد محارب إلى عاشق هائم، سحبته شواطئ الإسكندرية إليها، فتعلقت حبائل قلبه بصيد الأسماك حتى أن صنارته غمزت في قلب الملكة نفسها، فأحبته، وتحولت أرصفة المدينة إلى مسرح يسجل أشهر قصة حب عرفها التاريخ.

الإسكندرية مدينة تحتضن كل عاشق، حيث تتلاقى رمالها البيضاء مع أمواج البحر، فتكتب على الشاطئ قصصاً من الشغف والغرام

تخوفت أن أتحول إلى عاشقة بمجرد وصولي للأسكندرية التي توقع في غرامها الملوك، فيعلق البحر شباك هواه في قلبي، كما فعل بالملك أنطونيو!

حي العجمي العتيق

في مستهل الرحلة ركبت حافلة قادمة من القاهرة، ومتجهة للإسكندرية. استغرق الطريق ثلاث ساعات حتى وصلت منطقة العجمي، التي تفصلها عن مركز المدينة 30 كم، وقبلها لم ينته تفكيري حول سرّ انجذاب الكُتاب لهذه المدينة. وتذكرت نصيحة المحبين للشاعر اللبناني خليل مطران، بزيارتها ليعالج لواعج قلبه ومتاعب جسده، حتى أنه لما رأى البحر بدأ يشكو له آلام قلبه واضطراب خواطره، كأنما هواها يطيب جروح المكسورين من الحب.

مبنى في منطقة العجمي

رأيت العجمي، لأول مرة، وقلبي محمل بالأفكار نحوها، كانت هادئة تماماً تحرس شوارعها الأشجار، وبيوتها عامرة بدفء أشعة الشمس، تتراص بجوار بعضها في أناقة وأبهة اجتماعية، إذ كانت في الماضي واجهة النخبة من مشاهير الفن والإعلام والساسة في مصر، لقضاء الإجازة الصيفية كل عام.

سودانيات بالتوب يملأن الإسكندرية

قابلت في العجمي نساء بملامح إفريقية، يلبسن "التوب" (الزي التقليدي للمرأة السودانية)، ذا الألوان المبهجة، التي تعطي شعوراً بالقبول والراحة، وفي كل الشوارع المحيطة، يجلس الرجال السودانيون بملابسهم البيضاء (الجلابية) في حلقات دائرية أشبه بالصوفية، يتسامرون جميعاً، مستخدمين لهجتهم السودانية الشعبية، وكأن المدينة طيبت أوجاعهم من مآسي الحرب في بلدهم، فأصبحت بيتاً كبير يتسع لآلامهم وأحلامهم، ويسمح لهم بالغناء والبكاء، يجدون فيه الطمأنينة والاحتواء، فيغنون أغنياتهم على موسيقى المقام الخماسي.

شاطئ الإسكندرية

كان تاجر الفاكهة السوداني ذو الجلابية البيضاء، يتحرك بخفة بين الزبائن من المصيفين المصريين، وبعد أن ينتهي، يجلس بأريحية واضحة على مقعد خشبي داخل متجره، وإلى جواره بعض أقاربه وجيرانه يتغامزون ويضحكون، وترتفع ضحكاتهم إلى وجه السماء، وتعود مرة أخرى للأرض فتغمرهم بالسكينة والهدوء.

هذا بالضبط وجدته في وصف الروائي السكندري شوقي بدر يوسف، بعبارته الوارد ذكرها في كتابه وجوه عظيمة، بأن "الفنار بني ليهدي السفن العابرة والمدينة تهدي النفوس على أرضها"، فالمجتمع السكندري تمسه حالة فريدة من التعايش السلمي بين كافة الجنسيات ومختلف الطوائف، فالمدينة مرآة عاكسة لهذا التعايش، منذ أن بنيت على أرضها مكتبة الإسكندرية القديمة والحديثة، حتى أصبحت أغنى مستودع للمعارف الإنسانية في العالم.

نداءات صوت البحر

استأجرت مسكناً في حي "فاميلي بيتش" بالقرب من الشاطئ. كنت أنتظر لقاء البحر بشدة، أسمع صوته يناديني خلف باب الشرفة، أتشوق أكثر لرؤيته، وفي السابعة صباحاً حددت موعداً لمقابلته. بدا لي من بعيد مهيباً عملاقاً، يتسع وينساب بطول الدنيا وعرضها. أمواجه تتمايل بقوة كراقصة صبية تتألق في عز مجدها. يغطيه اللون الأزرق المشع. بدأت أقترب إليه خطوة تلو الخطوة، وكلما قلّت المسافة كان شعور بالإجلال يغمر روحي، حيث السماء تشيد برجاً على شكل قوس أزرق مزين بالسحب الرقيقة يعلو المياه في دهشة بديعة.

شاطئ الإسكندرية

ينظر السياح المحليون حولي نحو المياه كمشهد استعراضي، لعبت الأمواج وحدها فيه دور البطل؛ كانت ترتفع بعنف للأعلى وتتهادى للأسفل من جديد في انحناء تأخذ التحية من المتفرجين. أدركت حينها أن عظمة هذا المشهد، هي التي أوحت للفيلسوف الفرنسي ميشيل بيرثيس أن يكتب روايته "أوديسا العصر الحديث" أو "غالانوس"، التي صدرت سنة 1971. وحتى يظل يستمتع برؤية البحر، وسماع أحاديثه، جعل أحداث روايته تدور في الإسكندرية، من حيث المكان والزمان والشخصيات. تحكي الرواية قصة أسرة يونانية استوطنت المدينة وعاشت فيها بجانب سكانها المصريين في حميمة كبيرة، وهذا بالضبط يصف حياة الأسر السودانية التي اتخذت من الإسكندرية وطناً جديداً لها.

الأمواج الراقصة

كان اندفاع الأمواج الهائل الذي يقتلع معه الطحالب الخضراء من جذورها بفعل شدته، جعل ضيوف الشاطئ يجلسون احتراماً له، وينظرون إلى حركة المياه في تأمل دقيق، مستمتعين بالهواء البارد والرمال الناعمة التي تعانق أجسادهم في خفة، وكأنهم يشهدون حفلاً أوبرالياً؛ البحر يبدو كمسرح والأمواج تعزف فوقه. هنا أتأكد أن محاولة الوصول إلى الحكمة والمعرفة، لم تقف عند باب مكتبة الإسكندرية القديمة فحسب، كما يقول الكاتب الأمريكي ستيف بيري، في روايته "لغز الإسكندرية" (2008)، وإنما بحر الإسكندرية وهواؤها ورمالها قادرة على ذلك أيضاً. وبدا أثر هذه المعرفة على الشاعر البريطاني لورانس داريل، صاحب "رباعية الإسكندرية" الشهيرة التي صدرت عام 1956.

يمر الباعة الجائلون من الأطفال أمام المصيفين يعرضون "مسليات" للبيع بأسعار رمزية للغاية. تتكون هذه المسليات من "الترمس" (أكواز الذرة الشامية المشوية)، كما يمكن أن تتناول الجمبري العملاق والسمك الطازج، بعشرين دولار فقط، ما لا يمكن أن يوجد في القاهرة.

مسابح مخصصة للأطفال

يهتمون على شواطئ الأسكندرية بنزهة الطفل، فتنتشر المسابح الاصطناعية المخصصة للأطفال بالقرب من الشواطئ، وأماكن مفتوحة للألعاب. ننظر عند الشاطئ فنشاهد لوحة ربانية أمامنا، ومن الخلف يعمل الجميع في تناغم، يؤدي كلّ واحد منهم دوره بسرعة بالغة ممزوجة بالدقة؛ أحدهم يدق "الشماسي" (مظلات الشمس) في الأرض وآخر يغسلها، وغيره يرتب المقاعد، ويقف الحراس والمنقذون بانتظام على مقربة من المصيفين حماية لهم.

طفل في شاطئ الإسكندرية

يتوافد على الأسكندرية المصيفين المحليين نظراً لانخفاض التكلفة الاقتصادية للرحلة التي قد تستغرق أربعة أيام لأسرة من خمسة أفراد، إذ لا تتعدى 100 دولار، من حيث الإقامة والطعام والمشروبات والتنقلات.

هنا يختفي البكيني

يختفي البكيني على شواطئ الأسكندرية، ويسيطر البوركيني على ملابس البحر للفتيات الشابات، اللواتي هن في مقتبل العشرين من أعمارهن، بينما النساء الثلاثينيات والأربعينيات فما فوق ذلك يلبسن ملابس عادية تسمح لهن بالظهور أمام الرجال الأغراب. لكنك قد تشاهد الرجال في الشوارع يمشون عراة ويرتدون فقط بناطيل قصيرة فوق الركبة (شورت)، ولا يمكن أن يعترض أحد، ما لا تجرؤ النساء عليه!

أمام بحر 'فاميلي بيتش' شعرت أن الإسكندرية عالم حي، تتراقص فيه الأمواج ويغني معه كل صوت على الشاطئ، لتصبح المدينة بيتاً للجميع

تصطبغ الإسكندرية بالطباع السلفية من حيث التوجه الديني لساكنيها، وتغزوها مفاهيم ثقافية كما التي تعيق نساء الحواري الشعبية بالقاهرة عن الحياة، السبب للتردي الثقافي في المدينة، يعود إلى سقوط الأسكندرية في قبضة العرب الحديدة حملة الدعوة الإسلامية، بعد أن عانت طويلاً من التمزقات ولم تتوقف منذ ذلك الحين عن الانحدار نحو الهاوية، هذا الرأي الذي يتبناه المهندس الفرنسي غراتيان لوبير، والذي قد ذكره في كتابه "مدينة الإسكندرية"، يظهر الأسباب الجوهرية التي أثْرت حرية المرأة في المدينة.

يقدم الخدمات بأنواعها في المدينة التي فتحت أبوابها تحتضن الجميع بلا تمييز، بين عمال وحرفيين وسائقين من صعيد مصر والبحيرة والسودانيين والسوريين، ويمتاز السكندريون بالقبول والترحيب، فلا تشعر بالغربة بينهم، تظنهم يعرفونك جيداً وبينك وبينهم علاقة قرابة.

المدينة المهددة بالغرق

كان أدق ما لاحظته في المدينة تأثر المنشآت السكنية حول الشاطئ بالتشوه بسبب عوامل المناخ، وارتفاع درجة حرارة الغرف وازدياد نسبة الرطوبة. وبالرغم من وجود المراوح ونوافذ التهوية، فإن الطقس حار دائماً، وما يجعلك تنام هو الإعياء البدني. تزعجني التوقعات بغرق أجزاء من المدينة مستقبلاً بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، إلا أنني لمست بنفسي تآكل واجهات البيوت المحيطة به، كما لو كانت إنذاراً للبشر أن يعتنوا بالمدينة قبل أن يفقدوها.

أحببت الأسكندرية، التي تمنيت لو أزورها عندما شاهدت لأول مرة في التلفاز مسلسل "ريا وسكينة" حينما كنت طفلة وتوقعت أن الرجال هناك يعملون بالصيد ويلبسون السروال الأسود الفضفاض والقميص الأبيض، والنساء يلبسن "الملايه اللف" على الفساتين الملونة، قبل أن يصبح كل هذا تراثاً وفلكلوراً شعبياً يظهر كجزء من الاحتفالات القومية السكندرية.

ودعت الأسكندرية؛ غادرت الشاطئ الذي أحببته من النظرة الأولى، أشفقت على قلب المغرمين به، فهو ساحر محترف يغرقك في شباكه دون أن تشعر، وحين تنظر إليه تنسى العالم كله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image