يهود في قلب الحضارة الإسلامية... هل كانوا مشاركين أو مستفيدين؟

يهود في قلب الحضارة الإسلامية... هل كانوا مشاركين أو مستفيدين؟

ثقافة نحن والخطاب الديني نحن والتاريخ

الاثنين 15 سبتمبر 202510 دقائق للقراءة

يصف المفكر المصري أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" حالة التلاقي التي وقعت بين مختلف الثقافات في ظل الحكم الإسلامي في العصور الوسطى، فيقول: "... هذه الثقافات، من فارسية، وهندية، ويونانية وعربية، ومن يهودية ونصرانية وإسلام التقت كلها في العراق… ولكن كل ثقافة في أول أمرها كانت تشق لنفسها جدولاً خاصاً بها، يمتاز بلونه وطعمه، ثم لم تلبث إلا قليلاً حتى تلاقت، وكونت نهراً عظيماً تصب فيه جداول مختلفة الألوان والطعوم، مختلفة العناصر…".

شكل اليهود أقلية في معظم البلاد الإسلامية. رغم ذلك، تمكن الكثير منهم من المشاركة بشكل فعال في مختلف الميادين الثقافية والحضارية والفكرية. يقول المؤرخ الأميركي ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة": "...ظل اليهود كثيري العدد في سوريا والعراق وفارس الإسلامية رغم ما لاقوه في بعض الأحيان من الاضطهاد ورغم اعتناق عدد منهم دين الإسلام. وأضحت لهم في ربوعها حياة اقتصادية وثقافية ناشطة قوية…". نلقي الضوء في هذا المقال على بعض الشخصيات اليهودية التي لعبت دوراً مهماً في نهضة الحضارة العربية الإسلامية في المشرق والمغرب.

المصرفي يوسف بن فنحاس

لعب المصرفيون اليهود أدواراً مؤثرة في المجتمعات الإسلامية في العصور الوسطى. يوضح المفكر المصري عبد الوهاب المسيري هذا الدور في كتابه "اليهود واليهودية والصهيونية" فيقول: "تزايدت أهمية بعض أثرياء اليهود (الصيارفة) ابتداءً من القرن العاشر الميلادي، فكان منهم الجهابذة أي صيارفة البلاط الذين كانوا يُقرضون الوزراء والخلفاء العباسيين والسلاجقة من بعدهم...".

تميز اليهود في العصور الوسيطة، رغم كونهم أقلية في بلاد الإسلام، بالاندماج في ميادين متعددة. لعبوا أدواراً رئيسية، وتميزوا بالمهارة في الطب والعلوم والفلسفة، مما ساعد في تعزيز التبادل الثقافي وتنمية الحضارة الإسلامية

كان يوسف بن فنحاس واحداً من هؤلاء الجهابذة. لا نعرف الكثير عن يوسف. وتذكر المصادر التاريخية إنه كان من كبار التجار في منطقة الأحواز الواقعة في شرقي العراق. وتمثلت وظيفته في بادئ الأمر في تحصيل أموال الضرائب والجبايات. ثم زاد نفوذه فيما بعد، فكان يقوم بإقراض الأموال للخلافة ولكبار رجال الدولة. كما كان المسؤول عن الاحتفاظ بالأموال المُصادرة من الوزراء المنكوبين. وأُطلق عليه اسم الجهبذ تمييزاً له عن باقي عمال الخراج والصيارفة المنتشرين في كافة أنحاء الدولة. في كتابه "اليهود في ظل الحضارة الإسلامية"، يذكر الدكتور عطية القوصي أن شهرة يوسف بن فنحاس بلغت أوجها في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله، وبالتحديد في سنة 908م. ارتبط بن فنحاس وقتها بالعديد من المعاملات المالية مع الوزير بن الفرات. وساعدت تلك المعاملات في مد السلطة الحاكمة بالأموال للقضاء على بعض الثورات، وللإنفاق على تجهيز الجيوش. أسهم ذلك في مد عمر الدولة العباسية وتوفير الغطاء المالي اللازم لسد احتياجاتها.

المترجم سعديا جاؤون

ولد سعيد بن يوسف في الفيوم بمصر في سنة 882م. غادر مصر في شبابه ورحل لدراسة العلوم اليهودية في كل من طبرية وحلب. استقر بعدها في بغداد. وترقى في المناصب الدينية حتى وصل لمرتبة الجاؤون، وهي رتبة دينية يهودية تعني الرئيس الأعظم.

اشتهر سعد بين اليهود باسم سعديا. وتأثر كثيراً بآراء المعتزلة المسلمين. وظهر ذلك التأثر بشكل واضح في الكتب التي ألفها. من جهة أخرى، يذكر عطية القوصي في كتابه أن سعديا لم يكتف بمنصبه الديني الرفيع. بل كان -أيضاً- طبيباً وفيلسوفاً وشاعراً. كما أنه كان تاجراً صاحب ثروة عظيمة. وكان يتكسب أمواله من تجارة القوافل بين الشرق والغرب.

كانت ترجمة أسفار العهد القديم من العبرية إلى العربية هي أهم منجز ثقافي قام به سعديا طوال حياته. لم يكتف الفيومي بالترجمة. بل قام بكتابة شرح كامل بالعربية لجميع تلك الأسفار. مكنت تلك الترجمة المسلمين من الاطلاع على العهد القديم وفهمه بشكل واضح للمرة الأولى.

بشكل عام، حظي سعديا بتقدير من جانب أغلب علماء عصره من المسلمين. على سبيل المثال تحدث عنه ابن النديم في كتابه "الفهرست" فوصفه بقوله: "...من أفاضل اليهود وعلمائهم المتمكنين من اللغة العبرانية، ويزعم اليهود انها لم تر مثله…". أما المؤرخ الأميركي المعاصر ويل ديورانت فوضح في كتابه "قصة الحضارة" الأهمية الكبيرة التي مثلتها أفكار سعديا في الثقافة اليهودية الجمعية في العصور الوسطى، فقال: "...لقد تأثر سعديا إلى حد كبير بفقهاء الإسلام وسار على نهجهم في الشرح والإيضاح، بل إنه استعار منهم في بعض الأحيان أساليب الجدل والنقاش. وقد انتشرت آراؤه في جميع أنحاء العالم اليهودي، وتأثر بها ابن ميمون، وهل أدلّ على هذا من قول ابن ميمون: لولا سعديا لكادت التوراة أن تختفي من الوجود…".

الطبيب موسى بن العازار

عاش الطبيب اليهودي موسى بن العازر في القرن الرابع الهجري. وحاز شهرة واسعة في البلاد الإسلامية باعتباره طبيباً خبيراً يعرف الكثير من الوصفات الطبية المجربة. وقد وصفه ابن أبي أصيبعة في كتابه "عيون الإنباء في طبقات الأطباء" بأنه "مشهور بالتقدم والحذق في صناعة الطب…".

في ستينيات القرن الرابع الهجري، قدم الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر. واختار موسى بن العازر ليصبح الطبيب الخاص له. بقي موسى في هذا المنصب حتى توفي. وخلفه بعدها ابنه إسحاق بن موسى.

في كتابه "إخبار العلماء بأخبار الحكماء"، سلط جمال الدين القفطي الضوء على بعض الخبرات الطبية التي اشتهر بها موسى بن العازر في الأوساط الطبية في زمنه، فيقول: "كانَ طبيباً عالماً بصناعة العلاج وتركيب الأدوية وطبائع المفردات وهو الَّذِي ألف شراب الأصول وذكر أنه بفتح السدد ويحلل الرياح الشراسيفية والامغاص العارضة للنساء عند حضور طمثهن ويدور الطمث وينقى الرحم من الفضول المانعة لَهَا من قبول النطفة ومن الأخلاط اللزجة الَّتِي تكون سبب إسقاط الأجنة وينفخ الكلى والمثانة وينقيها من الفضول الغليظة المتكون منها الحصى وبطرق الأدوية الكبار حَتَّى يوصلها إلى عمق الأعضاء الألمة ويحل الماء الأصفر من البطن ويخرجه بالبول…".

السفير حسداي بن شبروت

وصل اليهود للكثير من المناصب السياسية المهمة في بلاد الأندلس. يقول محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" مؤكدا تلك الحقيقة: "عومل اليهود منذ الفتح بمنتهى الرفق والرعاية، وازدهرت أعمالهم التجارية والصناعية، في ظل ذلك التسامح الإسلامي المأثور، ووصلوا في قرطبة في ظل الخلافة، إلى ذروة النفوذ والرخاء …". في هذا السياق، يظهر اسم إسحق بن عزرا بن شبروت، والذي اشتهر باسم حسداي بن شبروت. يقول محمد نمر المدني في كتابه "عقدة الأندلس وأسلمة أوروبا": يعتبر حسداي بن شبروت نموذجًا لثقافة الاندماج والتسامح التي سادت شبه الجزيرة الإيبيرية زمن الحكم الإسلامي لها.

ولد حسداي في مدينة جيان الواقعة في جنوبي شرق إسبانيا. في شبابه، تعلم العربية والعبرية واللاتينية. ودرس الطب وصناعة العقاقير الطبية. ورحل بعدها إلى قرطبة وعمل لفترة كموظف في تحصيل المكوس والضرائب. علا نجم حسداي في بلاط الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر عندما ساعد في ترجمة كتاب ديسقوريدس عن الأعشاب الطبية، من اليونانية إلى العربية. وكان هذا الكتاب هدية أرسل بها الإمبراطور البيزنطي للخليفة الأموي في الأندلس. بعدها ترقى حسداي في المناصب العامة، فتولى مهمة الإشراف على الخزانة العامة.

ظهرت مهارات حسداي الشخصية بشكل واضح في المهام الدبلوماسية التي كلفه بها الخليفة. في سنة 955م كلفه الناصر بعلاج سانشو الأول ملك ليون من بدانته المفرطة. نجح حسداي في تلك المهمة. وتمكن من عقد علاقات وثيقة بين البلاط الأموي ومملكة ليون وقشتالة. فيما بعد

تولى حسداي مهام السفارة بين الخليفة الناصر والملكة تودا ملكة نافار. وسافر للممالك النصرانية في إسبانيا لمرات عديدة كسفير للخليفة الناصر. ومن هنا وصفه عبد الوهاب المسيري في كتابه بأنه "كان في منزلة وزير الخارجية والتجارة".

الوزير ابن نغريلة

ولد صامويل ابن نغريلة في غربي الأندلس في سنة 993م. بدأ حياته كتاجر، ودرس بعدها اللاهوت اليهودي والنحو. وبرع في الهندسة والحساب والفلسفة. ثم ألتحق ببلاط بني زيري حكام غرناطة زمن ملوك الطوائف.

في العصور الوسطى، اندمج اليهود في مجالات الفلسفة والطب والسياسة وساهموا بفعالية. من خلال شخصيات بارزة مثل يوسف بن فنحاس وسعديا جاؤون وموسى بن العازر وغيرها، لعبوا أدواراً حاسمة في التبادل الثقافي والنمو الحضاري

اقترب ابن النغريلة من السلطة بشكل كبير في بدايات القرن الحادي عشر الميلادي. قام حاكم غرناطة حبوس بن ماكسن بتعيينه في وظيفة جمع الضرائب. وترقى ابن النغريلة بعدها حتى أضحى أحد الوزراء في البلاط. بعد وفاة حبوس، لعب صامويل دوراً مهماً في صرف الحكم إلى باديس بن حبوس بدلاً من أخيه بلكين. تدريجياً، زادت مكانته في الدولة بشكل كبير، حتى أضحى ابن النغريلة هو الحاكم الفعلي لغرناطة.

يوضح الدكتور محمد الأمين في دراسته "اليهود في دولة بني زيري الصنهاجيين في غرناطة" أسباب الصعود السريع لابن النغريلة، فيقول: "كان للعامل الاقتصادي أثره في الاعتماد على ابن النغريلة وذلك لقدرته وحرصه على جمع أموال الضرائب من بني جلدته، ليظهر مزيدًا من الإخلاص والولاء لسادته من البربر من أجل المحافظة على المكانة التي وصل إليها وحرصه على استمراره بها، إضافة إلى ذلك ما تميز به ابن النغريلة من دبلوماسية وقدرة على مخاطبة الناس على قدر عقولهم، مكتسبًا بذلك مودتهم مما يسهل عليه جباية الأموال منهم". في سنة 1056م، توفى ابن النغريلة بعد أن ترك العديد من الكتب التي ألفها في الشعر واللاهوت. وبعد وفاته خلفه ابنه يوسف في منصب الوزارة. ولكنه لم يكن بحكمة ومرونة أبيه. فثار ضده العامة وقتلوه وصلبوا جثمانه على باب المدينة.

الفيلسوف موسى بن ميمون

ولد موسى بن ميمون في سنة 1135م في قرطبة. وانتقلت أسرته في صغره لمدينة فاس في المغرب. وفيها درس في شبابه في جامعة القرويين. ثم اضطر إلى السفر إلى فلسطين بعدما تعرض يهود فاس للاضطهاد في عصر الدولة الموحدية. بعد وصوله إلى فلسطين، اشتهر بن ميمون بتفوقه في علوم الطب والوصفات العلاجية. فعينه السلطان صلاح الدين الأيوبي في وظيفة الطبيب الخاص له، وظل موسى يشغل هذا المنصب المهم في عهد صلاح الدين، وفي عهد ابنه الملك الأفضل علي حتى توفى في سنة 1204م.

بحسب وجهة النظر اليهودية، يُعدّ موسى بن ميمون أهم شخصية يهودية في العصور الوسطى. وفي ذلك المعنى اشتهرت مقولة: "لم يظهر رجل كموسى من أيام موسى إلا موسى". صنف موسى بن ميمون العديد من الكتب الفلسفية المهمة ومنها على سبيل المثال كتاب دلالة الحائرين. وصف عبد الوهاب المسيري هذا الكتاب بقوله: "...أهم كتب ابن ميمون على الإطلاق… كتبه بالعربية ثم تُرجم إلى العبرية، وهو مقسَّم إلى ثلاثة فصول. ويحاول ابن ميمون في هذا الكتاب أن يُوفِّق بين العقل والدين...". كذلك ألف موسى كتاب الأصول الثلاثة عشر وهو "أهم محاولة لتجديد عقائد الدين اليهودي... وهي في جوهرها لا تختلف عن المعتقدات الإسلامية كثيرًا"، وذلك بحسب ما يذكر المسيري. بشكل عام، يرى الكثيرون أن أفكار موسى بن ميمون كانت الجسر الذي عبرت عليه الفلسفة العربية إلى أوروبا في العصور الوسطى.

من جهة أخرى، برع موسى بن ميمون في علوم الطب والصيدلة. يقول إسرائيل ولفنسون في كتابه "موسى بن ميمون حياته ومصنفاته": "كان لمؤلفات موسى بن ميمون الطبية الرواج العظيم في الشرق العربي حتى كان الأطباء مثل ابن البيطار وسرجويه ينقلون عنه أقوالًا شتى بحالة لا نعلم معها طبيبًا عربيًا غيره كان لمصنفاته الطبية رواج إلى هذا الحد".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image