دخلت الجيوش العربية بقيادة الصحابي سعد بن أبي وقاص مدينة المدائن/طيسفون عاصمة الإمبراطورية الفارسية في شهر صفر من السنة السادسة عشرة من الهجرة، وبعدها بشهور قلائل قُتل يزدجِرد الثالث، آخر ملوك الساسانيين، ليُسدل الستار على الحكم الساساني الذي استمر قائماً لما يزيد عن الأربعمائة عام.
على النقيض من النظرة التقليدية الشائعة التي ترى في تلك الأحداث نهايةً للحضارة الفارسية القديمة، يمكن القول إن دخول العرب المسلمين إلى بلاد فارس قد أسهم في ضخ الدماء في الحضارة الفارسية, وإن دخول العرب المسلمين للهضبة الإيرانية قد تسبب في وقوع نوع من أنواع التفاعل الديناميكي الخصب بين الثقافتين العربية والفارسية. ظهرت سمات ذلك التفاعل في مختلف مناحي الحضارة الإسلامية، ويمكن رصد آثاره في ميادين السياسة، والعلوم الدينية، فضلاً عن الفنون والآداب.
السياسة والحكم
تمكن الفرس من فرض أنفسهم على معادلات السلطة في الحضارة الإسلامية بعد قرن واحد من دخول العرب الهضبةَ الإيرانية. في أوائل القرن الثاني الهجري شاركت العناصر الفارسية الخُراسانية -بقوة- في إنجاح الثورة العباسية الهاشمية ضد الدولة الأموية. أسقط الخراسانيون بزعامة الفارسي أبي مسلم الخراساني السلطةَ الأموية، ونصبوا العباسيين على كرسي الخلافة، وتمكنوا بعدها من الاستحواذ على أهم المناصب السياسية في الدولة.
دخول العرب الهضبةَ الإيرانية تسبب في وقوع نوع من أنواع التفاعل الديناميكي الخصب بين الثقافتين العربية والفارسية. ظهرت سمات ذلك التفاعل في مختلف مناحي الحضارة الإسلامية، ويمكن رصد آثاره في ميادين السياسة والعلوم والفنون
يمكن القول إن العقل السياسي الإسلامي قد تأثر بشكل كبير بتلك الأحداث؛ تحول الخليفة المسلم من شكل شيخ القبيلة الذي مثله الخلفاء الأمويون في ما مضى إلى شكل كسرى شاهَنْشاه الذي لطالما جرى تقديسه في الثقافة الفارسية القديمة. وأعلن أبو جعفر المنصور عن ذلك التحول -بشكل مستتر- في خطبته الشهيرة التي قال فيها إن "السلطان هو ظل الله على الأرض". ترسخ ذلك التحول في العقل الإسلامي شيئاً فشيئاً، وقد عبّر عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه "العقل الأخلاقي العربي"، بقوله "كل شيء يدور حول كسرى، وكسرى حاضر في كل شيء، يزاحم حضوره في وجدان الفرس حضور الله".
من هنا لم يكن من الغريب أن نجد أن السواد الأعظم من المؤلفات السياسية الإسلامية -والتي حملت اسم الأحكام السلطانية، والولايات الدينية، والسياسة الشرعية- قد استقت مادتها الرئيسة من التجارب الفارسية القديمة. في هذا السياق، احتفت تلك الكتب بمؤسس الدولة الساسانية أرْدِشير بن بابك بن ساسان، فنقلت عنه أقواله ومواعظه، وعدّتها من الحكمة الواجب اتباعها.
على سبيل المثال ذكرت التقاليد الفارسية أن أردشير وعظ ابنه قائلاً: "يا بني، إن الدين والملك أخوان، ولا غنى لواحد منهما عن صاحبه، فالدين أسّ المُلك، والملك حارسه، وما لم يكن له أسّ فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع"، وهي الجملة التي سيتناقلها أعلام الفكر السياسي في الإسلام، جيلاً بعد جيل، وسنجدها قد دُوّنت في كتب السياسة والتاريخ والأحكام السلطانية، على يد كل من أبي الحسن الماوردي وأبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية وعبد الرحمن بن خلدون.
بالطريقة نفسها انتقلت مقولة كسرى أنوشِرْوان الشهيرة: "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال، وإصلاح العمال باستقامة الوزراء، ورأس الكلّ تفقد المَلِك أمور نفسه واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه" إلى الكتب الإسلامية، حيث أثبتها أبو بكر الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك"، وصارت من أشهر المقولات التي تتردد أصداؤها بين جنبات القصور ودواوين الحكم الإسلامية في العصور الوسطى.
لم يقتصر حضور التأثيرات الفارسية على الفكر السياسي فحسب، بل امتدت تلك التأثيرات لتصل إلى رسوم الحكم وتقاليد السلطة. يوضح الأديب المصري عبد الوهاب عزام في كتابه "الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام" تلك النقطة إذ يقول: "ساس الفرس الدولة -يقصد الدولة العباسية- على قواعد الساسانيين وقلّد الخلفاء وغيرهم الفرسَ في ملابسهم ومساكنهم وطعامهم وشرابهم، أمر الخليفة المنصور أن تُلبس القلنسوة الفارسية، واتخذ هو ومن بعده الحلل المذهبة على الأساليب الفارسية، وقد أبقى الزمن من نقود الخليفة المتوكل ما يظهر هذا الخليفة في زيٍّ فارسي كامل. ومن الكلمات الجامعة في هذا ما قاله المتوكل حين أراد إصلاح السنة المالية وردّ النيروز إلى مكانه من العام فأحضر الموبذ -الرئيس الديني للزرادشتيين- ليستعين بهِ. قال الخليفة: 'قد كثر الخوض في ذلك ولست أتعدى رسوم الفرس'".
العلوم الدينية
تفوق الفرس تفوقاً كبيراً في ميادين العلوم الدينية الإسلامية، وقد تنبه ابن خلدون إلى تلك المسألة في مقدمته الشهيرة فوضع فصلاً بعنوان "في أن حمَلة العلم في الإسلام أكثرهم العجم". وعمل بعدها على تفسير تلك الظاهرة فقال: "إن حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى، وكان علماء أصول الفقه كلّهم عجماً كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام، وكذا أكثر المفسّرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم وظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس".
لم تكتف الثقافة الفارسية بالتأثير في ميادين السياسة والعلوم الدينية، بل نراها أيضاً تقتحم ساحات اللغة والآداب والفنون.
من الممكن أن نتأكد من حقيقة ما ذكره ابن خلدون لو رجعنا لأسماء أكابر علماء الدين الذين ظهروا في القرون الأولى من الإسلام. على سبيل المثال نجد أن أغلبية علماء الحديث كانوا من العنصر الفارسي؛ من هؤلاء كلٌّ من مسلم بن الحجاج النيسابوري (المتوفى 261هـ) صاحب "صحيح مسلم"، وابن ماجة القزويني (المتوفى 273هـ) صاحب "سنن ابن ماجة"، فضلاً عن أحمد بن شعيب النسائي (المتوفى 303هـ) مؤلف كتاب "سنن النسائي".
في مجال الفقه عُرف العديد من الفقهاء من ذوي الأصول الفارسية، ومنهم الليث بن سعد (المتوفى 175هـ) والذي اشتهر مذهبه في مصر في القرن الثاني الهجري، وداود بن علي بن خلف (المتوفى 270هـ) والمعروف باسم داود الأصبَهاني والذي بنى قواعد المذهب الظاهري، وأيضاً أبو محمد علي بن حزم (المتوفى 456هـ) والذي يعدّه الكثيرون أعظم الفقهاء المسلمين الذين ظهروا في الغرب الإسلامي على مرّ العصور.
كان التفوق الفارسي حاضراً أيضاً في ميدان علم الكلام وأصول الدين؛ اشتهر إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (المتوفى 478هـ) صاحب كتاب "غياث الأمم في التياث الظُلم"، وكذلك حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (المتوفى 505هـ) صاحب الموسوعة الشهيرة "إحياء علوم الدين"، والتي بلغ من أهميتها أن الإمام النووي في القرن السابع الهجري قد قال فيها: "كاد الإحياء أن يكون قرآناً!".
في السياق نفسه برزت العديد من الأسماء الفارسية على صعيد علم التاريخ وتفسير القرآن. يُعدّ ابن جرير الطبري (المتوفى 310هـ) أهمّ تلك الأسماء على الإطلاق بسبب تأليفه لتفسيره الشهير المسمى "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، ولتصنيفه لتاريخه العظيم المعروف باسم "تاريخ الرّسُل والملوك".
من جهة أخرى، يُحسب للفرس أيضاً الدور العظيم الذي اضطلعوا به في بدايات الدولة السلجوقية في القرن الخامس الهجري؛ أسهم الوزير الفارسي نظام المُلك الطوسي حينذاك في تطوير العلوم الدينية بشكل كبير عندما افتتح العديد من المدارس العلمية في كلٍّ من نيسابور، وبغداد، وأصفهان، وغيرها من المدن.
اللغة والآداب والفنون
لم تكتف الثقافة الفارسية بالتأثير في ميادين السياسة والعلوم الدينية، بل نراها أيضاً تقتحم ساحات اللغة والآداب والفنون. يوضح المفكر المصري أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" كيفية وقوع ذلك فيقول: "إن العاداتِ الفارسية تغلغلت في الناس في ذلك العصر، وكان مظهرها واضحاً جليّاً، فالناس يتَّخذون يوم النَّيروز عيداً لهم كالفُرس قديماً، والقضاة وعظماء الدولة يلبسون القَلَنْسوة كالفُرس، ومجالس الغناء واللهو والشراب هي مجالس الفرس. والفضل بن سهل وزير المأمون (وهو فارسي) يحتال حتى يُقنع المأمون بتغيير السواد بالخضرة، ويكتب إلى جميع العمال أن يجعلوا أعلامهم وقلانسهم خضراً، والخضرة هي لباس كسرى والمجوس. ونظام الحرب وإدارة الدولة اتَّبعت في أغلب الأحيان نظام الفرس في حروبهم وإدارتهم، إلى كثير من أمثال ذلك".
من جهة أخرى، لعل من الغريب أن نعرف أن علم النحو العربي مدين في تأسيسه وترسيمه لفارسي من أهل شيراز وهو عمرو بن عثمان بن قنبر المشهور بسيبويه (المتوفى 180هـ). يستعرض الباحث سيد رضا نجفي الأثر المهم الذي خلفه سيبويه في ترسيم علوم اللغة العربية في دراسته "أثر سيبويه النحوي في نشأة علم البلاغة" فيقول: "إن النحو قبل سيبويه لم تكن له صورة العلم ذي الابواب والفصول والقواعد العامة، وإنما كان مسائل متفرقةً لا تجمعها قاعدة ولا يضمها باب جامع، بل كانت ممتزجة بغيرها من مسائل اللغة والأدب لتفسير القرآن وفهم أشعار العرب، فاستطاع كتاب سيبويه أن يجمع القواعد ويرتبها ويعقد أبواباً يجمع فيها أشقاءها من المسائل النحوية، فاعتُبر بذلك أول كتاب لتدوين النحو وصل إلينا بهذه الصورة الكاملة".
لعب الفرس دوراً محورياً في توسيع آفاق الحضارة الإسلامية وتخصيبها بعدما ترجموا الحكايات والقصص والآداب الفارسية والهندية إلى اللغة العربية
من جهة أخرى، لعب الفرس دوراً محورياً في توسيع آفاق الحضارة الإسلامية وتخصيبها بعدما ترجموا الحكايات والقصص والآداب الفارسية والهندية إلى اللغة العربية. يُعزى الفضل الأكبر في هذا الإنجاز إلى المفكر الفارسي أبي محمد عبد الله بن المقفع (المتوفى 142هـ)، والذي ترجم كتب "كليلة ودمنة"، و"الأدب الصغير"، و"الأدب الكبير".
يقول الباحث يسري عبد الغني عبد الله في دراسته "ابن المقفع وتجديد النثر العربي" معترفاً بفضل ابن المقفع في إثراء الحضارة الإسلامية: "إن أهمية ابن المقفع لا ترجع إلى أنه كان كاتباً من كتاب الدواوين الحكومية، وإنما ترجع إلى أنه كان مترجماً عن البهلوية الفارسية وغيرها، فنقل إلى اللغة العربية خير ما عرفته اللغة الفارسية، بالإضافة إلى آداب اللغات التي ذكرتها من قبل، مما كان له أثر كبير في الآداب العباسية، سواءً منه ما اتصل بالأخلاق، وما اتصل بتاريخ الساسانيين ومن سبقوهم من ملوك إيران، وكذلك ما اتصل بأنظمة ملكهم وحكمهم للرعية".
في سياق أخر، يمكن القول إن فنََّي الموسيقى والألحان قد شهدا نقلة نوعية على يد الفرس. ويبرز اسم الموسيقي الفارسي الشهير إسحاق بن إبراهيم الموصلي الذي أشتهر في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد كشاهد على وقوع تلك النقلة، إذ "تفرّد بصناعة الغناء، وكان عالماً باللغة والموسيقى والتاريخ وعلوم الدين وعلم الكلام، راوياً للشعر حافظاً للأخبار، شاعراً، له تصانيف، من أفراد الدهر أدباً وظرفاً وعلماً"، وذلك بحسب ما ورد في "موسوعة الأعلام" لخير الدين الزّركلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت