شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
إنريكو ماسياس... اليهودي المغترب الذي يحنّ لعشّه في قسنطينة

إنريكو ماسياس... اليهودي المغترب الذي يحنّ لعشّه في قسنطينة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 27 مايو 202301:17 م

رغم ابتعاده عنها منذ عقود من الزمن، غير أن قلبه الرهيف ما زال معلقاً بها، يستذكر تفاصيلها مما علق في ذاكرته التي شاخت، فيؤنس لياليه الطويلة أو القصيرة برائحة الأطعمة الشعبية التي كانت تنساب لأنفه من شوارعها الضيقة كما العطر، أو من أصوات مطارق حرفيي النحاس ويهم يلينون هذا المعدن الأصفر بأياديهم المدربة، أو بطقطقة حذائه وهو يُلامس طرقها المنضدة بأحجار الكرانيط، فتصدر نغماً يُحاكي أذنه الطربية، فيزيد من سرعته وشغبه، لتعلو ضحكته وضحكة أقرانه. تتحول تلك الأصوات/الأنغام، إلى سمفونية تؤديها أوركسترا الحنين وحرقة العودة الى الماضي، تعزف أنغامها الطفولية والبريئة في التواءات أزقتها ومنعرجاتها التي تمتد في كل الاتجاهات، كأفعى تبحث عن ظل أو نبع ماء.


إنريكو ماسياس

هي "مدينة الهوى والهواء" كما يسميها الشاعر الجزائري مفدي زكريا، أو "مدينة الجسور المعلقة" كما تشتهر، أو المدينة التي تنام على صخرة معلقة كما يعرفها الجيولوجيون، فتحرس الزمن والمارين فيه وحوله. كان اسمها في يوم ما "سيرتا"، تم اتُّخذت كعاصمة للملكة النوميدية التي عمّرت طويلاً (من202 الى 46 قبل الميلاد)، قوية ومرهوبة ومزدهرة، وقد ضمّت وقتها أجزاء من أراضي الجزائر وتونس وليبيا والمغرب، فألبسها الملوك أمجاداً حربية وثقافية، ومسارات سياسية لم يمحها التاريخ، بل كلما تقدم الزمن بها، ازدادت لمعاناً وقيمة ومآثر، لتحاجج بتاريخها الطويل كل متطاول أو متحامل.

قسنطينة التي سقته الفن وأحلام الصبى

هذه هي المدينة التي حملت على أكتافها الفن الأندلسي طويلاً، واستكملت ما بدأته الأندلس بعد انهيارها وشتاتها، وأخذت الصنعة الفنية من الموريسكيون، ليصبح هذا الفن علامة فارقة في التراث الفني، ليس في قسنطينة فقط، بل في الجزائر ككل، كما كان لليهود الجزائريون دوراً محورياً في تطويره وحفظه والاعلان من شأنه.

هي مدينة "الهوى والهواء" كما يسميها الشاعر مفدي زكريا، أو "مدينة الجسور المعلقة" كما تشتهر، أو المدينة التي تنام على صخرة معلقة كما يعرفها الجيولوجيون، فتحرس الزمن والمارين فيه وحوله

وهناك العديد من الأسماء الشاهدة على هذا، من بينهم إنريكو ماسياس الذي أنجبته هذه المدينة، فنسج معها علاقة شوق لا يذبل أو يتلاشى، وكلما تقدم بها الزمن ازداد حنينه لها أكثر، خاصة وأنه لا يزال يعيش بعيداً عنها، ولا يتمنى إلا أن يقف عليها ويشم هواءها ويمشي في أزقتها، أو يُسمعها صوتها الشجي الذي دوّى في معظم مدن العالم، كما كان يفعل لها قبل 62 عاماً، حين كان شاباً في العشرينيات من العمر، يتقد حماسة وصحة واثارة ووسامة وأحلاماً، يتبع خطى والده سيلفان غريناسيا (1914-2004) العازف على آلة الكمان، من حفل لحفل، ومن مكان لآخر، حتى شرب الفن، وأصبح هو الأخر عضواً في جوقة الموسيقى التي كان يقودها ريمون ليريس (1912-1961) المعروف بالشيخ ريمون كما كان والده.

إنريكو ماسياس ووالده

وريمون من الأسماء الفنية المهمة والرائدة في الموسيقى الأندلسية و"المالوف" في قسنطينة والجزائر ككل، إذ كان فناناً محبوباً من جميع فئات المجتمع، سواءً من اليهود الذي ينتمي لهم، مثله مثل سيلفان وابنه إنريكو، او من العرب الذي كانوا معه في الفرقة، لكن تم تصفيته من طرف جبهة التحرير الوطني سنة 1961، بعد أن ثبت طورته في العمل ضد الثورة الجزائرية (1954-1962)، خاصة وأنه كان منخرطاً في جهاز الشرطة الفرنسية، وهي الذكرى السيئة التي ما زال يحتفظ بها إنريكو ماسياس لغاية اللحظة، ولا يخلو له حوار دون ذكرها، لكنه كان يؤمن دائماً بأن قدر الصراعات أن تترك الجراح والندوب.


ريمون

عندما ترك غاستون غريناسيا قسنطينة سنة 1961 بشكل نهائي، لم يعد يحس بالأمان، خاصة وأنه شهد وفاة أقرب الناس له، معلمه وشيخه ريمون الذي أخذ منه الصنعة الموسيقية، ليتزوج بعدها ابنته سوزي ليريس سنة 1963 بعد استقراره في فرنسا، وقد تركت هي الأخرى قسنطينة كما تركها المئات من اليهود، الذين أحسوا بأنهم غير مرحب بهم في هذه المدينة التي احتضنتهم لقرون، خاصة وأن بوادر استقلال الجزائر لاحت بقوة وقتها.

باريس تأخذ ماسياس بين ذراعيها وتهديه للعالم

عندما استقر غاستون في باريس أطلق على نفسه تسمية إنريكو ماسياس، وقد غنى سنة 1962 العديد من الأغاني، من بينها: "وداعاً يا بلادي" و"تشيكيتا" و"أذهب بعيداً" و"قسنطينة " و"شورليس واندررز"، وبعدها بسنة، أي في عام 1963 أطلق سلسلة أخرى من الأغاني، هي: "أعياد الميلاد هناك" و"أمسية صيفية" و"صديقي أخي" و"في قلب كامارج".

 إنريكو ماسياس الذي أنجبته هذه المدينة، فنسج معها علاقة شوق لا يذبل أو يتلاشى، وكلما تقدم بها الزمن ازداد حنينه لها أكثر، خاصة وأنه لا يزال يعيش بعيداً عنها، ولا يتمنى إلا أن يقف عليها ويشم هواءها.

وفي سنة 1964 أطلق أغاني "الحب من أجل لا شيء" و"لا تشك بي بعد الآن" و"مايا". لكن أغنية وبدايته التي شكّلت المنطلق المغاير في مسيرته، في بيئة وثقافة لا تزال جديدة عليه، لكنه تأقلم معها لأبعد حد، هي أغنية "باريس أخذتني بين ذراعيك"، التي شكّلت تقريباً منعرجاً حاسماً في مشواره الفني، من خلال حقبة موسيقية عالمية وجديدة في ذلك الوقت، باتت تعرف بحقبة موسيقى "يه يه" (yé-yé)، وهو مصطلح جديد تم اشتقاقه من أغنية الفرقة الموسيقية البريطانية "البيتلز" التي ذاع صيتها الموسيقي في كل أرجاء العالم.

وقد تم تحوير المصطلح من أغنية لهم جاء في بعض جملها "Yeah-Yeah-Yeah"، لتصبح بعدها عملية تحويل بعض أغاني تلك الفرقة البريطانية التي تغني بالإنكليزية إلى اللغة الفرنسية. هي تقليعة ذلك العصر، ومنهم ماسياس الذي بدأ رحلته الموسيقية الجديدة بهذه الطريقة، لتكون أغنية (Paris, tu m'as pris dans tes bras) "باريس أخذتني بين ذراعيك"، هي فاتحة تلك الأغاني التي أخذته بعيداً، وقدمته إلى جمهور مختلف تماماً، حتى أنه صدح بحنجرته الرقيقة على مسرح "كارنيغي هال" في نيويورك وهو في الثلاثين من العمر.

وقد عبر عن هذا النجاح الباهر بقوله بأنه جاء مصادفة وبغير تخطيط، كما أنه ما زال وبرغم سنه المتقدمة (85 سنة) يحمل قلباً مليئاً بالأحلام: "لم أخطط يوماً لنجاحي أو مسيرتي. مخدّري هو الموسيقى، إذ هي تسري في عروقي، وفي قلبي. أريد أن أغني قدر المستطاع، حتى رمقي الأخير".

تقدّم العمر ولا تزال في القلبة تنهيدة وحسرة

أثّث إنريكو ماسياس مساره الفني بأكثر من 150 أغنية، تراوحت مواضيعها بين الحب والجمال والاحلام والنكسات وغيرها من العواطف الأخرى، لكن أكثر المواضيع تناولاً هي حبه الكبيرة وحسرته المرة على فقدانه لمدينة قسنطينة التي ولد وعاش فيها طفولته ومراهقته وجزءاً من شبابه.


وقد خصص لها الكثير من الأغاني، وذكرها بشكل ظاهر أو مضمر، بجهر أو بسر، مع كل حسرة وفي كل تنهيدة، خاصة وأن ذاكرته لا تزال تحتفظ بقصص الحب التي عاشها في هذه المدينة، طيشه وشغبه مع أقرانه، حفلاته الاولى، شيوخ الفن الذين تعلم على أيديهم، حواري المدينة وجسورها المعلقة، مغاراتها ومساراتها السرية، وديانها العميقة، أطعمتها التي لا يزال يحن لها، خاصة المرقاز (النقانق)، وبيته في حارة (حومة) اليهود التي كان يقطنها.


إنريكو ماسياس وزوجته

وهذه الحارة تم تخصيصها حصراً لليهود من طرف الحاكم صالح باي في العهد العثماني سنة 1750، حيث أمر بتخصيص مكان في مدينة قسنطينة لليهود، من أجل درء المشاكل والمواجهات التي كانت تحدث بينهم وبين المسلمين، بسبب الفتن المتكررة. وعلى الرغم من هذا فقد حدثت مواجهة كبيرة بينهم في 05 آب/أغسطس 1934، وكان إنريكو ماسياس وقتها طفلاً لم يتجاوز الرابعة من العمر، وقد سقط الكثير من الضحايا بين الطرفين، وهي الحادثة التي لا تزال تروى، خاصة وأنه سقط من اليهود 120 شخص.

حنين إنريكو ماسياس مختلف، لأن لديه ذاكرة ذكية وقوية وحساسة جداً، وبرغم أن معظم مدن العالم فتحت له أبوابها، غير أن قسنطينة لا تزال عصية عليه

وفقد الاستعمار الفرنسي السيطرة على هذه الحادثة التي قيل بأنه كان يقف خلفها لخلق هوية بين العرب واليهود، لهذا استدعى وترجى عبد الحميد بن باديس، الذي أطلق نداء من مسجد الكتاني ووأد الفتنة قبل انتشارها أكثر.

ذكريات عالقة لا تُنسى

قسنطينة تبقى عالقة دائماً وأبداً في ذاكرة اليهود، الذي انتشروا وهجروا في كل مدن العالم، خاصة وأن لديهم ذاكرة وذكريات فيها، وأقارب مدفونين في مقابرها (أكثر من 11 قبر)، لكن حنين إنريكو ماسياس مختلف، لأن لديه ذاكرة ذكية وقوية وحساسة جداً، ورغم أن معظم مدن العالم فتحت له أبوابها، غير أن قسنطينة لا تزال عصية عليه، ليس لأنها مدينة لا تحب أبناءها، ولا تحتفل بنجاحاتهم، وليس لأنها مدينة عنصرية، بل لأن إنريكو ماسياس اختار الجهة التي يدعمها في مواقفه، وهي الجهة التي لا يحبها الجزائريون، ولديهم معها حساسية مفرطة.

إنريكو ماسياس

كما أن العديد من تصريحاته كانت مستفزة لهم ولمشاعرهم، مثل ما قاله عن عملية استشهاد الطفل الرمز أحمد الدرة التي قال بأنها مجرد مسرحية، إضافة إلى دعمه المادي والمعني للجيش الاسرائيلي الذي جمع له التبرعات، وهي معطيات سلبية جلعت فئة واسعة من الجزائريين ترفض زيارته لقسنطينة.





رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard