لم يكن أحمد إسماعيل، يظن أن مشواراً عادياً لمساندة شقيقه، في أثناء قيامه وعمّاله بمدّ كابلات حيث يعمل صاحب مولّدات خاصة، يمكن أن يُنهي عمره في لحظة، وبرصاصات تفضح مساراً من البلطجة لم تقدر مؤسسات الدولة وأجهزتها على وضع حدّ له. قبل مقتل أحمد بثلاثة أشهر، كان قد أُصيب شقيقه حسين في ساقه بطلقٍ ناري أيضاً، من قبل مجموعة أفراد من جماعة صاحب المولّدات والكادر الحزبي عباس هاشم، الذي يتباهى عبر حسابه في فيسبوك بعلاقاته مع عدد لا بأس به من السياسيين والأمنيين والحزبيين.
خسر أحمد حياته بعد ثمانية أشهر فقط من زواجه، وأُصيب شقيقه بعاهة مستديمة في ساقه، وكل هذا بسبب الخلافات على "مولّدات الاشتراك" في العاصمة اللبنانية بيروت، وتقسيم الأحياء وفقاً لمبدأ البلطجة والحماية، وهو الذي يعمل في مجال لا علاقة له بهذا القطاع أبداً، لكنها واحدة من الجرائم الناشئة عن فوضى قطاع "المولّدات الخاصة" في لبنان، والتي بقي مرتكبوها فوق المحاسبة الفعلية.
فعندما عجزت الدولة اللبنانية عن الوفاء بواجباتها في تأمين الكهرباء بصورة دائمة أو منتظمة لمواطنيها، كحاجة أساسية، فرضت المولّدات الخاصة نفسها بديلاً رئيسياً لا خياراً. هذا القطاع القائم بقوة الأمر الواقع، يشمل المولّدات الخاصة لمؤسسات ومبانٍ ومستشفيات وشركات، وأخرى مولّدات تُعرف بـ"مولّدات الاشتراك"، يملكها أشخاص وتؤمّن كهرباء للمنازل مقابل بدل مادي.
غير أنّ هذا القطاع، "مولّدات الاشتراك"، أصبح خلال السنوات الأخيرة وبشكلٍ متزايد مقترناً بقصص متكرّرة عن الاستفراد بالمواطن وابتزازه ورفع قيمة الفواتير وعدم الالتزام بالتسعيرات الرسمية. لكن هذه الحالات على فجاجتها مجرد جزء من مشهد أخطر يخسر فيه الأشخاص حياتهم أحياناً دون مساءلة الجُناة. فقطاع "مولّدات الاشتراك" خلق عدداً من المجموعات فوق المحاسبة، وهي قادرة على فرض خوّات (إتاوات) والاعتداء وأحياناً قتل أصحاب مولّدات منافسين، محيطةً نفسها بغطاء سياسي وحزبي. في ظلمة هذا القطاع وخفاياه، هناك أيضاً مولّدات وشبكات أسلاك تمثّل "قنابل موقوتةً" تقتل وتخرِّب من دون حسيب أو رقيب في غياب الالتزام بإجراءات السلامة والوقاية.
في هذا التحقيق، يقتحم رصيف22 عالم "مافيا مولّدات الاشتراك"، ويستعرض عدداً من الحوادث المأساوية التي خسر فيها أشخاص على صلة بهذا القطاع حياتهم، وما يشوبه من فساد وعدم اكتراث للسلامة واستعراض للقوة، في تقاعس كامل من السلطات اللبنانية عن حماية مواطنيها بعدما فشلت في تزويدهم بخدمة ملحّة مثل الكهرباء، وتركتهم "رهائن" أحياناً في قبضة "مافيا المولّدات" يستبيح باروناتها أموالهم، وأحياناً يُزهقون أرواحهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
حين عجزت الدولة اللبنانية عن الوفاء بواجباتها تجاه مواطنيها في شأن تأمين الكهرباء بصورة دائمة أو منتظمة، كحاجة أساسية، فرضت الموّلدات الخاصة نفسها بديلاً رئيسياً لا خياراً. لكن هذا القطاع اقترن بأصحاب النفوذ، فارتبط بالبلطجة وفرض الخوّات واستنزاف المواطنين مادياً وصحياً وصولاً إلى إزهاق أرواح البعض منهم
في قلب العاصمة البقاء للأقوى... "قتلوه وتواروا"
لدى التنقّل بين أحياء العاصمة بيروت سيراً على الأقدام، تُلاحظ بسهولة العلب الكهربائية والأسلاك الممدّدة على أعمدة الدولة. معظم الأحياء موزَّعة بين أصحاب المولّدات على طريقة تقسيم المباني والأحياء بحيث لا يجوز -في عُرف أصحاب هذا الكار- أن يعمل صاحب مولّد في منطقة نفوذ وعمل صاحب مولّد آخر حتى لو اختلف الزبون (المواطن) مع صاحب المولّد في منطقته. هي قاعدة رسمتها فوضى الأمر الواقع على حساب مصلحة المواطن. لكن في بيروت ثمّة استثناءات قاتلة.
في مكتبه، التقينا أحد أصحاب المولّدات في العاصمة، حسين إسماعيل، شقيق المغدور أحمد، الذي يقول إنه أُصيب في الأول من نيسان/ أبريل 2024، في ساقه جراء رصاصة أُطلقت عليه إثر إشكال مع أحد أفراد مجموعة المولّدات العائدة لعباس هاشم وابنه على خلفية تمديدات اشتراكات مولّدات وكابلات.
برغم خطورة هذا الفيديو الذي يوثّق لحظة إطلاق النار على حسين، إلا أن المرتكبين بقوا فوق المساءلة والتوقيف. يقول حسين إسماعيل، لرصيف22: "عندما أُصبت لم تسأل قوى الأمن الداخلي عني ولم يسألوا ماذا جرى معي"، متهماً رتيب تحقيق بـ"تنويم الملف" على مدى شهر ونصف الشهر. بعض أصحاب المولّدات محميون سياسياً حتى حين يرتكبون الجرائم الخطيرة. فأحد المسؤولين الحزبيين اتصل بحسين -كما يقول لرصيف22- ودعاه إلى إسقاط الدعوى ضد مطلقي النار. يُردف حسين: "أسقطنا الدعوى، فمات شقيقي أحمد ولو استمرينا فيها ما وصّلنا لهون"، معتبراً أنه لو لم يستجب للضغط عليه واستمر في مسار مقاضاة مطلقي الرصاصة الأولى عليه، لما أعادوا الكرّة بعد ثلاثة أشهر فقط وأطلقوا الرصاص على شقيقه وأسقطوه قتيلاً.
مقابلة رصيف22 مع حسين شقيق الضحية.
جماعة صاحب المولّدات عباس هاشم، التي أطلقت النار على حسين، ليست إلا مثالاً على قوة بعض مافيات المولّدات التي تستفيد من شبكة علاقات مع متنفذين جنباً إلي جنب مع شعورها بالتراخي الأمني من قبل السلطات. ليس أدلّ على ذلك من أنها "أعدمت أحمد" -حسب ما يقول حسين- في 30 حزيران/ يونيو 2024، ولم يوقف إلى الآن أيّ من أفراد المجموعة الصادرة في حق تسعة منهم قرارات ضبط.
يقول حسين إنّ شقيقه قُتل نتيجة طمع وجشع عباس هاشم الذي يتصرّف وكأنه الرب الأعلى والزعيم الذي يفرض خوّات ويفرض سيطرته من دون أن يسأل عن دولة أو أن يتمكن أحد من لجمِه، مستطرداً: "يحق لعباس هاشم أن يعمل في الحي الذي يريد ويمدّد الكابلات، وممنوع على باقي أصحاب المولّدات العمل في حيِّه أو أحيائه إلا بإرادته ووفق سيطرته"، مدّعياً أنّ "عباس" حاول في مرات سابقة فرض خوات على أصحاب مولّدات وطالبهم إما بدفع 10 إلى 15 دولار شهرياً له عن كل مشترك أو بإعطائه سبعة آلاف ليتر مازوت مقابل تركهم يعملون بأمان، علماً أنّ عباس هاشم يعمل في أحياء عدة في بيروت منها كورنيش المزرعة ومار إلياس والمصيطبة.
بعد مرور عام وشهرين تقريباً على جريمة قتل أحمد ومحاولة قتل حسين إسماعيل ومصطفى جمال وإبراهيم عيتاني الذين أصيبوا بجروح، وبرغم وقوعها في قلب العاصمة، وقدرة الأجهزة الأمنية في حالات سابقة مشابهة على توقيف المطلوبين سريعاً، لا يزال عباس هاشم متوارياً مع ثمانية آخرين من رجاله من دون توقيف. يُلمّح حسين إلى وجود مسؤول سياسي وحزبي يحمي عباس هاشم، قائلاً: "اللي تركوه يوصِّل لهون وتركوه يعمل اللي بدو إياه ووصّلونا لهون، معروف مين حاميه ومن مين مدعوم. شخص. الحاج (مسؤول حزبي وسياسي لم يُسمِّه) الله يطول عمرو. وعندو قرايبينو نافذين بالأحزاب. لو ما هيك ليش ما توقف؟".
بالبحث في المسار القضائي لقضية قتل أحمد إسماعيل، تبيّن لنا أنّ الإجراءات القضائية حتى الآن ووقائع التحقيقات والخلاصات تتقاطع عند الخلافات على تمديدات المولّدات وعلى عدم توقيف عباس هاشم وثمانية آخرين مشتبه بهم ومدعى عليهم.
فعند قراءة القرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة، بلال حلاوي، يتبين أنّ هناك تسعة متوارين، بينهم هاشم وابنه بلال، يخضعون للملاحقة والمحاكمة الغيابية وقد شملهم القرار الظني بادعائه، فضلاً عن ستة موقوفين وشخصين أُخلي سبيلهما بكفالة.




كما يتبيّن من قراءة القرار الظني كما من قرار الهيئة الاتهامية في بيروت، أنّ التحقيقات والإفادات تشير إلى أنّ الجريمة المرتكبة من قبل عباس هاشم ورفاقه تعود إلى سلسلة الإشكالات بينهم وبين المغدور أحمد إسماعيل وأخوته ورفاقهم وقد تم الادعاء على عباس وآخرين في هذه الجريمة.





قضية أحمد إسماعيل الذي قُتل على خلفية صراع النفوذ على اشتراكات المولّدات في بيروت، نموذج عن تراخي الأمن وعدم جدية المحاسبة والمساءلة وإفلات المعتدين من العقاب. فبعض أصحاب المولّدات يملكون شبكات نفوذ ومصالح ماليةً وسياسيةً وأمنيةً تؤمِّن لهم في الكثير من الأحيان حمايةً خاصةً تجعلهم فوق المساءلة. اتهامات حسين إسماعيل التي تتحدث عن حمايات حزبية وسياسية لعباس هاشم ومجموعته تجد ما يغذيها.
فعبر حسابه على فيسبوك، يتباهى عباس هاشم، وهو نائب رئيس بلدية سابق في ربّ ثلاثين (قرية حدودية في الجنوب)، بانتمائه السياسي وبلقاءاته وصوره مع شخصيات حزبية وسياسية بمن فيهم رؤساء ووزراء.





وفيما لا يمكن اعتبار الانتماء الحزبي وحده كافياً لأي اتهامات بالتواطؤ، وكذلك العلاقة مع مسؤولين في الدولة وقادة حزبيين ونشر صور معهم ومشاركتهم نشاطات على غرار افتتاح مكاتب انتخابية، لا تعني بالضرورة توفير الحماية، لكن إفلات هاشم ونجله وعدد من رجاله من العدالة في جريمة قتل ولأكثر من عام يترك انطباعاً كبيراً ويثير شكوكاً بشأن قوة الهالة الحزبية والسياسية التي لطالما أحاط نفسه بها وشبكة المصالح التي تؤمِّن عمله في تجارة المولّدات المربحة.
قنابل موقوتة بين الأحياء
في كوخ صغير يعود لعائلتها في منطقة الميناء في طرابلس (شمالي لبنان)، قابلنا الوالدة، وتُدعى منال السوسي، وهي تُجسد مع أبنائها الخمسة الضحايا مثالاً جديداً على غياب المحاسبة والمساءلة في الحوادث والجرائم الناشئة عن فوضى قطاع المولّدات. تشعر وأنت تحدّثها بأنها تجاهد للبقاء قويةً علّها تحصل على العدالة لأطفالها الخمسة. ترتاب من جمود الملف وعدم تقدّمه وتخشى أن تفرغ قضية أطفالها من مضمون العدالة. فقضية مقتل خمسة أطفال في حريق، عالقة في جوارير التحقيق بحجة أنّ تقرير خبير الحرائق لم يرد إلى المحققين وهي مسألة تحتاج إلى إجراءات بسيطة وتطرح علامات استفهام كبيرةً في الوقت عينه.
في إعادة رسم مسار أحداث القضية، تعود ذاكرة الوالدة إلى السابع والعشرين من آذار/ مارس 2025، عندما خسرت أطفالها الخمسة في لحظة واحدة. تركت الوالدة غرفة الناطور التي تعيش فيها مع أولادها في طابق سفلي في مبنى في مدينة الميناء، وتوجّهت إلى السوق لاستكمال شراء ثياب العيد لهم. لكن الدخان الأسود الذي تصاعد من أسفل المبنى بدّل كل المشهد. عادت لتجد النيران مندلعةً في الممر والدخان الأسود يتصاعد قبل أن تتلقى الخبر الصدمة: أولادها الخمسة قضوا اختناقاً.
هي حادثة أخرى مرتبطة بفوضى المولّدات وعجز الدولة تمرّ -بعد ستة أشهر - من دون محاسبة قانونية أو حتى تحديد السبب والمتسببين.
ملف القضية لا يزال في أدراج قسم التحرّي في طرابلس ينتظر مع النيابة العامة تقرير الخبير عن سبب الحريق. والدة الأطفال الخمسة تشعر أنّ حق أطفالها يمكن أن يضيع لأنهم سوريون، وتضيف أنّ الملف ينتظر تقرير خبير الحرائق في الدفاع المدني الذي وُضع فعلاً وهو موجود في المديرية العامة للدفاع المدني ولم يتم ضمّه إلى ملف التحقيق للبناء عليه.
مقابلة رصيف22 مع والدة الضحايا الخمسة منال السوسي.
في موازاة هذه العرقلة، سعى رصيف22 إلى تقصّي نتيجة تقرير الخبير، فعلمنا أنها تشير إلى أنّ الحريق سببه تمديدات الأسلاك الكهربائية حيث توجد أربعة مصادر اشتراك في المبنى. اللافت أننا اكتشفنا أنّ التقرير موجود في المديرية العامة للدفاع المدني وقد تم إعداده من قبل خبير حرائق في الدفاع المدني، وخلاصته أنّ الحريق ناجم عن حدوث احتكاك كهربائي في الأسلاك الممتدة من دون القدرة على تحديده بسبب عملية استبدال الأسلاك المحروقة التي جرت فور الحادث بذريعة تأمين وإعادة التغذية الكهربائية. علماً أنه في هكذا حوادث، لا ينبغي المساس بـ"موقع الجريمة" إلا بعد انتهاء المعاينات من جهات التحقيق.
وعليه، فإن سبب الحريق هو أحد أسلاك مولّدات الاشتراك الأربعة في المبنى، وما يعزّز نتيجة تقرير الخبير أنّ كهرباء الدولة كانت مقطوعةً حين وقوع الحريق، وأنّ تقريراً داخلياً في مؤسسة كهرباء قاديشا (كهرباء الدولة)، اطلع عليه رصيف22، يؤكد أنّ كهرباء الدولة كانت مقطوعةً في الميناء.
إذاً، في المتابعة وتقصّي حقيقة الملف، يتبيّن أنّ التقرير وُضع منذ مدة ويحدّد أسباب الحريق لكن المفاجأة أنه لا يزال موجوداً لدى المديرية العامة للدفاع المدني، ولم تتخذ أو تنفّذ الإجراءات المتّبعة في مثل هذه الحالات لضمّ التقرير إلى التحقيق. ويقول خبير متقاعد في هذا المجال، لرصيف22، إنّ مسار الإجراءات يستوجب إرسال رقم محضر من المحققين وبرقية من قبل قوى الأمن للمديرية العامة للدفاع المدني من أجل إرسال تقرير الخبير بشكل رسمي، وهو ما لم يحصل حتى الآن مستغرباً هذا الأمر.
إذاً، حادثة خطيرة أخرى ناجمة عن فوضى مولّدات الاشتراك ذهب ضحيتها خمسة أشقاء بقيت من دون مساءلة وملفها لا يتحرّك برغم بشاعتها وخطورتها، ما يهدّد بتكرارها.
مخاطر وجود المولّدات والتمديدات العشوائية وسط المباني
في حريق آخر وقع في 16 شباط/ فبراير 2025، لكن في طرابلس (عاصمة محافظة الشمال وثاني أكبر المدن اللبنانية بعد العاصمة)، وصل تقرير الخبير إلى خلاصة شبيهة بالحريق السابق، وهي أنه ناجم عن حدوث احتكاك كهربائي في أحد الأسلاك الكهربائية في مكان بداية الحريق الذي شهد أيضاً عمليات عبث وقطع بعد وقوع الحريق واستبدال الأسلاك المحروقة بحجة تأمين التغذية الكهربائية وهو ما يعيق تحديد مصدر الحريق بدقة. حريق جديد ناجم عن تمديدات أسلاك المولّدات الخاصة والتقرير يشير بوضوح إلى أنّ كهرباء الدولة كانت مقطوعةً حين اندلاع الحريق.

ما يلفت في التقرير عن هذا الحريق، أنه يحذّر بوضوح من وجود المولّدات الكهربائية قرب الأبنية السكنية وتشكيلها خطراً على سلامة السكان بالإضافة إلى كثافة الأسلاك الكهربائية الممدّدة وتوصيلاتها والتي هي أشبه بشبكة عنكبوتية. جدير بالذكر أنّ الحريق كان يمكن أن يتسبّب في كارثة أكبر لكن وقوعه في يوم عطلة، جعل مدينة طرابلس تنجو من كارثة، علماً أنّ أضرار الحريق أتت على روضة أطفال ووصلت إلى نادٍ رياضي وشقق سكنية وغيرهما. وبرغم ذلك، حُفظ التحقيق ولم يتم الادعاء على شخص أو تحميله المسؤولية انطلاقاً من عدم التمكّن من تحديد المسؤوليات ووجود محضر أبحاث سلبية حول حصول الحريق وهو ما دوِّن في السجل القضائي للنيابة العامة في الشمال.
خطورة تمديدات شبكات المولّدات العشوائية وانتشار المولّدات بشكل غير آمن بين الأحياء والمنازل، تجلّت في أخطر صورها أيضاً في العاصمة بيروت، عندما تسبب مولّد كهربائي في حريق كبير نتيجة احتكاك كهربائي امتد إلى خزانات الوقود، بحسب تصريح لوزير الداخلية السابق بسام المولوي. الحريق الكبير الذي اندلع في الحمرا في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2024، امتد إلى موقف سيارات فأحرق سيارات في الموقف وانفجر البعض منها، ونجا عدد من ساكني الأبنية من موت محقّق ومن الاختناق بعد اقتراب النيران والدخان منهم.
توثيق هذه النماذج الثلاثة من الحرائق الناجمة عن انتشار المولّدات وخزانات الوقود الخاصة بها بين الأحياء السكنية والمنازل، كما بالنسبة لشبكات تمديدات أسلاكها، في غياب المساءلة والمحاسبة الجدّية من السلطات، يطرح التساؤلات حول تفعيل أجهزة الرقابة البلدية والحكومية واحترام الشروط والمعايير لتقليل المخاطر وإبعاد المواد القابلة للاشتعال عن المباني السكنية والأحياء، وتفعيل مسار المحاسبة القضائية وعدم تنييم القضايا والجرائم المتصلة بها لتفادي تكرارها، كما في قضية أطفال الميناء الخمسة.
المولّدات كخطر يهدّد الأرواح في ظل آليات ومؤسسات إنفاذ قوانين عاجزة
لا يتوقف الأمر عند مخاطر حدوث ماس وحرائق، فهناك تبعات بيئية خطيرة لوجود المولّدات على مقربة من المنازل وفق مراجعة بعض الشكاوى التي تلقّاها المعهد الاجتماعي الاقتصادي للتنمية (SEID)، ووصل بعضها إلى السلطات المعنية تظهر مخاوف جدية للمواطنين من انتشار المولّدات بين منازلهم. فبين منازل مدينة الميناء القديمة شكوى ضد مولّدين موجودين على بعد 25 متراً من المنازل ولا يخضعان للشروط البيئية ويشكّلان إزعاجاً كبيراً وخطراً في الوقت نفسه. شكوى مصوّرة مماثلة، شاركتها مع رصيف22 النائبة صليبا، لمواطن يوثّق انتشار المولّدات على بعد أمتار من غرف منزله بكل ما تمثّله من خطر وأضرار صحية تجسّد معاناةً يوميةً وضرراً كبيرين.
فيديو شكوى مواطن من المولدات القريبة من منزله.
هذه المخاوف الموثّقة بشكاوى، تدعمها نتائج دراسة تشكّل تحليلاً مقارناً أجرته مجموعة من الباحثين في الجامعة الأمريكية في بيروت، يؤكد أنّ انتشار المولّدات بين الابنية السكنية يرفع مستوى التلوث وخطر الإصابة بأمراض سرطانية وأمراض أخرى، فالأكاديمية المتخصصة في الكيمياء والناشطة البيئية والسياسية، نجاة صليبا، عملت على قياس نسب التلوث في العاصمة بيروت.
تراكم المعلومات منذ عام 2010، سمح بمقارنتها والتوصّل إلى نتائج خطيرة حيث كانت الكهرباء تنقطع في بيروت الإدارية نحو ثلاث ساعات فقط عام 2010، وتالياً كانت معامل الدولة المزوّد الأساسي لخدمة الكهرباء. استمرت عملية توثيق تلوث الهواء في بيروت في فترات لاحقة في أعوام 2014 و2017 و2023، وإجراء المقارنة مع النتائج السابقة والمعايير العالمية. وتقول نجاة صليبا، لرصيف22، إنّ انقطاع الكهرباء لمدة 17 ساعةً يومياً قد يؤدي إلى موت الناس بحسب ما كشفت الدراسة الأخيرة المنشورة عام 2024، حيث أكدت أنّ مخاطر الإصابة بالسرطان ارتفعت بنسبة 53% مقارنةً بعام 2017.
تضيف صليبا أنّ المولّدات الخاصة التي يبلغ عددها 9،000 مولّد في بيروت الإدارية تشكّل نحو 50% من مصدر التلوث والملوّثات الخطيرة، مبرزةً أنّ هناك مولّداً خاصاً بين كل مبنى وآخر ينشر التلوث على الشرفات وفي غرف السكان. وتعتبر أنّ بيروت من المدن الملوَّثة جداً، لافتةً إلى أنّ نسبة التلوث تصل إلى أكثر من ثلاثة أضعاف المستوى المسموح به، وفق منظمة الصحة الصحة العالمية.
مقابلة رصيف22 مع النائبة نجاة صليبا.
مواجهة مسبّبات الموت ومعالجتها... نجاح محدود وعجز جديد
ارتفاع نسبة التلوث في بيروت وارتفاع المواد المسرطنة، وفق دراسة الجامعة الأمريكية، بسبب انتشار المولّدات بين المباني السكنية بالإضافة إلى انبعاثات السيارات القديمة غير المطابقة للمعايير، يعني عملياً أنّ هناك قصداً احتمالياً للقتل والموت، بحسب المحامي شكري حداد الذي تابع النواحي القانونية لنتائج الدراسة.
وعن التبعات القانونية وتوصيف الجرم القانوني، يردف الحداد بأنّ الشخص المسؤول هنا هو صاحب المولّد والجهة الإدارية التي عليها واجب المراقبة ومنع الجرم. فبمجرد المعرفة بوجود الانبعاثات وما تسبّبه من أمراض وإيذاء، فهذا يشكّل في القانون القصد الاحتمالي أي المعرفة بالنتيجة والسكوت عنها ولم يتم يتصرّف وهو ما يشكّل جرماً (القصد الاحتمالي) يستوجب العقوبة بموجب المادة 564 من قانون العقوبات التي تنص على أنّ من تسبب في موت أحد عن إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات. أما المادة 189 من قانون العقوبات، فتعتبر الجريمة مقصودةً وإن تجاوزت النية الجرمية الناشئة عن الفعل أو عدم الفعل قصد الفاعل إذا كان قد توقع حصولها فقبل بالمخاطرة.
في هذا التحقيق، يوثّق رصيف22 كيف تتقاعس الدولة اللبنانية عن حماية مواطنيها بعدما فشلت في تزويدهم بخدمة ملحة مثل الكهرباء، وتركتهم "رهائن" أحياناً في قبضة "مافيا المولّدات" يستبيح باروناتها أموالهم، وأحياناً يُزهقون أرواحهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر
المسار القانوني الذي اتّبعه المدعي العام البيئي في بيروت القاضي نديم زوين، لمواجهة هذا الخطر يستند إلى تعميم وزارة البيئة رقم 4/1 الذي بلغة مبسطة ومختصرة ينص على تركيب أصحاب المولّدات فلاتر لمعالجة الملوثات الهوائية وفق مواصفات محدّدة بالإضافة إلى كواتم للصوت. كما ينص على شروط السلامة العامة الواجب توافرها في التعامل مع الزيوت والشحوم الناشئة عن صيانة المولّدات وكيفية تخزين المشتقات النفطية وتأمين مطافئ للتعامل مع أي طارئ.





هذا التعميم الصادر عن وزارة البيئة لا يطبَّق في مختلف المناطق اللبنانية وقد حاول القيّمون على دراسة الجامعة الأمريكية، مدعومين بتعميم من محافظ بيروت مروان عبود، العمل على تطبيقه في العاصمة من أجل تخفيف التلوث. المدعي العام البيئي في بيروت القاضي نديم زوين، لعب دوراً محورياً في السعي لتطبيق التعميم في بيروت معتمداً على جهاز أمن الدولة وعلى مواكبة فنية من قبل بلدية بيروت.
السعي لتطبيق التعميم من قبل القضاء والبلدية وجهاز أمني أظهر نجاحاً وإخفاقاً في الوقت نفسه في أحياء بيروت. فبالتدقيق في النتائج المسجّلة في دائرة بيروت الأولى، التي تشمل أحياء عدة كالمدور والأشرفية والرميل، يتبيّن أنّ مكتب الأشرفية في جهاز أمن الدولة عمل على تنفيذ الاستنابة القضائية الصادرة عن القاضي زوين، ووجّه إنذارات وأجرى كشوفات ميدانية بمؤازرة فنيين من بلدية بيروت ونجح حتى الآن برغم ضعف الإمكانات على تركيب أكثر من 120 فلتراً بيئياً بالإضافة إلى وضع 70 مولّداً قيد المعالجة. كما نجح المكتب في إلزام أصحاب مولّدات يملكون فروعاً خارج نطاق المكتب بتركيب فلترات لمولّداتهم كما تظهر الخريطة المرفقة.

الجدّية التي أظهرها مكتب أمن الدولة في بيروت الأولى، كما تابع رصيف22، لم تنسحب على باقي أحياء العاصمة. فالشكاوى في الحمرا وقريطم وهما حيّان في العاصمة (خارج نطاق صلاحية مكتب أمن الدولة في بيروت الأولى)، لم تجد استجابةً فعليةً من قبل مكاتب أمن الدولة الأخرى. تقول صليبا إنّ المكاتب ذات الصلاحية لمتابعة الشكاوى خارج بيروت الأولى كانت تتذرّع وتماطل مراراً بحجج مختلفة من دون أن تحقّق نتائج ملموسةً في تطبيق التعميم وإلزام أصحاب المولّدات الخاصة والاشتراكات بتركيب الفلاتر والالتزام بالشروط البيئية وشروط السلامة، وهو ما تؤكده ثلاثة مصادر أمنية وقضائية على الأقل معنية بالملف لرصيف22.
النائبة نجاة صليبا التي تابعت عمل القضاء وجهاز أمن الدولة والبلدية في هذا الملف، تؤكد بدورها عدم التوصّل إلى نتيجة في باقي أحياء بيروت حيث كانت النتيجة والإجابات غير مرضية، مشيرةً إلى أنّ أصحاب مولّدات هدّدوا بقطع الكهرباء عن المواطنين إذا تم إلزامهم بتركيب الفلاتر.وعند سؤالها عن أسباب عجز مكاتب أمن الدولة في بعض الأحياء وما إذا كانت مرتبطةً بوجود حمايات سياسية وأمنية، تجيب: "كل الاحتمالات واردة".
هكذا بين مكتب وآخر في الجهاز نفسه، وبين حيٍّ وآخر في قلب العاصمة، وبرغم التعميم والمتابعة القضائية وقرار بلدية بيروت بضرورة الالتزام بالتعميم، بقي أصحاب المولّدات في أحياء كثيرة من العاصمة أقوى من الالتزام بالمواصفات البيئية وبشروط السلامة العامة يسهمون في زيادة التلوّث والضجيج وغيرها ويعرّضون سلامة المواطنين وصحتهم لأخطار متفاوتة.
عدم الالتزام بالتعميم على نطاق واسع وعدم سعي السلطات إلى تطبيقه في أحياء في العاصمة، يؤكد مرةً أخرى ضعف آليات المحاسبة وتطبيق القوانين والقرارات والشروط وخلق مجموعات لا تقوى عليها شرطة بلدية أو حتى جهاز أمني في بعض الأحيان.
مصالح وتضارب مصالح... أصحاب مولّدات ونافذون وبلديات وسياسيون
لا يكفي أنّ فوضى قطاع المولّدات تترتب عليها جرائم خطيرة ومخاطر بيئية وصحيّة من دون محاسبة جدّية، وتصل إلى حد ابتزاز المواطنين وفرض تسعيرات مخالفة للتسعيرة الرسمية، فيتعدّى العديد من أصحاب المولّدات ذلك إلى عدم الالتزام ضريبياً بالامتناع عن دفع ما تفرضه القوانين واللوائح منذ عام 2019 لخزينة الدولة، فيما يتسبّب تقاعس أو تراخي السلطات أو عجزها عن تحصيل هذه الضرائب في خسارة الخزينة العامة أموالاً وإيرادات مهمة.
قوانين الموازنة منذ عام 2019 تنصّ على قيام البلديات بعملية مسح أعداد المولّدات وقوتها في نطاقها وإبلاغ وزارة المال لفرض رسوم على أصحاب المولّدات تعادل 100 ألف ليرة لبنانية عن كل Kva، علماً أنّ المولّدات التي تديرها البلديات معفاة.
بموجب قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، تقدّم معدّ التحقيق بطلب إلى وزارة المال في 11 حزيران/ يونيو 2025، للحصول على معلومات عن مدى التزام البلديات بهذه المواد وعدد المولّدات الذي تم حصره والتصريح عنه والعائدات الفعلية والمتوقعة والإجراءات المتخذة في شأن أصحاب المولّدات غير الملتزمين بأداء الضريبة، بالإضافة إلى معلومات أخرى متصلة بالالتزام الضريبي للمولّدات وقيمة الضرائب التي تتأتّى منها. برغم نص قانون الحق في الوصول إلى المعلومات على مهلة 15 يوماً تمدّد 15 يوماً للإجابة، فإنّ وزارة المال وبعد مرور ثلاثة أشهر لم تقدّم المعلومات برغم المتابعة المنتظمة والتذكير المتكرّر بموعد النشر.
فعلى الرغم من أن وزارتَي الاقتصاد والداخلية لا تملكان رقماً محدداً لمولّدات الاشتراك على الأراضي اللبناني، بحسب الرد الذي وصل إلى رصيف22، وفيما تشير دراسة لمؤسسة الدولية للمعلومات إلى وجود قرابة 3،600 مولّد اشتراك على الأراضي اللبنانية فإنّ إجابة وزارة المال على طلبنا ضرورية لمعرفة حجم الأموال المحصَّلة من هذا القطاع وحجم الأموال الضائعة التي يمكن تحصيلها. فوزير الاقتصاد السابق رائد خوري الذي أطلق حملةً ضد أصحاب المولّدات عند توليه الوزارة لإلزامهم بتركيب العدادات، يقول لرصيف22 إن أرباح أصحاب المولّدات كانت طائلةً ووصلت قبل حملته إلى مليار دولار تقريباً، مضيفاً أنه بعد حملة تركيب العدادات بقي أصحاب المولّدات يحققون هامشاً كبيراً من الأرباح.
ردّ وزارة المال من شأنه أن يكشف مدى صوابية الاعتماد على البلديات لتقديم معلومات دقيقة يمكن الركون إليها لتأمين إيرادات من أصحاب المولّدات إلى خزينة الدولة. فتجربة البلديات في لبنان لا تشير إلى أنها الإطار الأنسب أو الإدارة الفعّالة لضبط فوضى الفواتير والابتزاز والسلامة العامة والمعايير البيئية الناجمة عن قطاع المولّدات. ولا يمكن أن تشكّل المصدر أو المرجع الأفضل لرفد الدولة بمعلومات عن المولّدات لاستثمارها في فرض الضريبة والرسوم على قوتها وأرباحها.
يؤكد الوزير السابق رائد خوري، لرصيف22، أنّ علاقةً مترابطةً قائمة بين البلديات وبين أصحاب المولّدات، فصاحب المولّد قد يكون رئيس البلدية نفسه ويكون هناك تقاسم أرباح أو إعطاء كهرباء مجاناً واستخدام أرض البلدية مجاناً انطلاقاً من المصالح المتبادلة، فيما يقرّ رئيس بلدية طرابلس السابق رياض يمق، بعجز البلديات عن تطبيق القانون على أصحاب المولّدات
فثمة الكثير من الحقائق والوقائع التي تنزع عن البلديات صفة المرجع الصالح لضبط ومراقبة المولّدات. ففي معلومات حصلنا عليها من وزارة الاقتصاد، يتضح أنّ عدد محاضر الضبط المسطرة في حق المولّدات منذ عام 2022 حتى نهاية أيار/ مايو 2025 قد وصل إلى 1،208 محاضر، وذلك لعدم الالتزام بالتسعيرة الرسمية أو لعدم تركيب عدادات أو الغش في العدادات وعدم تسليم فواتير مفصّلة.
وما يلفت في عمل المديرية العامة لوزارة الاقتصاد تجاه المولّدات، أنها سطّرت محاضر ضبط في حق بلديات أو لجان بلدية تتولى هي عملية تشغيل المولّدات، بما يشير إلى أنّ عدداً من البلديات يتشارك مع أصحاب المولّدات الجنوح نحو المخالفات وعدم تطبيق القوانين أو على أقل تقدير التقاعس عن تطبيقها.
الأمثلة على ما تقدّم كثيرة، فوزارة الاقتصاد سطّرت مخالفةً في حق بلدية القبيات في الشمال لأنّ رئيسها وضع جدول تعريفات خاصاً بكل مولّد في نطاقه. هذه البلدية ليست استثناءً. فقبل فترة قصيرة أرسلت محافظة الشمال بالإنابة، إيمان الرافعي، كتباً إلى قائمقام الضنية وبلديات طرابلس وزغرتا تطلب فيها منع أي رئيس بلدية من إصدار بيانات أو تعميمات يحدّد من خلالها تسعيرة المولّدات الكهربائية الخاصة خلافاً للتسعيرة الرسمية. خلفية هذا الكتاب تشير إلى أن وزارة الاقتصاد سطّرت محاضر ضبط في حق مولّدات تخالف التسعيرة الرسمية فعلت صرخة أصحابها لأنّ رؤساء البلديات هم من وضعوا لها تلك التعرفة في مخالفة للتسعيرة الرسمية التي تصدر عن وزارة الطاقة.
بعض البلديات أثبت عجزها أمام قوة أصحاب المولّدات الذين يمارسون فعل الابتزاز بمعناه الحرفي. ففي طرابلس، وهي واحدة من كبريات البلديات، وقفت البلدية السابقة عاجزةً أمام عدم التزام المولّدات بالتسعيرة الرسمية مثلاً. رئيس بلدية طرابلس السابق، رياض يمق، يقول لرصيف22: "إذا أردت أن تعاقب صاحب المولّد ووضع اليد عليه (على المولّد)، لم يكن لدى البلدية القدرة على تشغيله بسبب عدم وجود فنيين ولا عديد شرطة كافٍ ما قد يؤدي إلى قطع الكهرباء عن 300 منزل".
ويكشف أنّ أصحاب المولّدات يتفقون في ما بينهم وعندما حاول جمعهم لإلزامهم باحترام التسعيرة الرسمية وتركيب عدادات، مارسوا الابتزاز بالتهديد بإعطائه المولّدات لتشغيلها.
بعد انتخاب بلدية جديدة في طرابلس، من ضمن الانتخابات البلدية التي شهدتها البلاد في شهر أيار/ مايو 2025، وبعد إقالة محافظ الشمال وتعيين محافظة بالإنابة، إيمان الرافعي، شهدت المدينة اندفاعةً من البلدية والمحافظة وجهاز أمن الدولة والقضاء المالي في العمل على تخفيض التسعيرة التي يفرضها بعض أصحاب المولدات في طرابلس والتي تخالف التسعيرة الرسمية. وقد حصل رصيف22، على عيّنات من محاضر ضبط نُفّذت في حق مخالفين تراوحت بين 1،500 و6،000 دولار، وذلك بحسب عدد المشتركين في كل مولد.





حتى بلدية بيروت -العاصمة وكبرى بلديات لبنان- تشير مراسلاتها مع القضاء ولجنة الاقتصاد النيابية إلى عدم التزام 90 صاحب مولّد بقرار وزارة الاقتصاد وتسعيرة الوزارة وببلاغ محافظ بيروت. وقد لجأت البلدية إلى تقديم إخطار للنيابة العامة المالية للتعامل مع هؤلاء.
يعطي يمق مثالاً عن مولّد موضوع في حديقة في وسط طريق أمام دار العجزة في طرابلس، يشكّل دليلاً على الحماية المؤمّنة لأصحاب المولّدات وقدرتهم على تخطّي القوانين والأنظمة. يقول يمق، إنه عمل على إزالة مخالفة المولّد لدرجة أنه أخذ تعهداً من حماة صاحب المولّد السياسيين ومن المستفيدين منه كما يقول، لكنه عجز عن ذلك ولا يزال المولّد في وسط الطريق في الحديقة بعد مرور أكثر من شهرين على تركه البلدية.
مقابلة رصيف22 مع رئيس بلدية طرابلس السابق رياض يمق.
محاولة حماية أصحاب المولّدات من قبل سياسيين وبلديات ونافذين، يتحدث عنها وزير الاقتصاد السابق رائد خوري أيضاً، حيث يقول إنّ بعض المولّدات عبارة عن "مافيا مغطاة من أشخاص نافذين ومن بلديات أو نواب أو وزراء أو محافظين، وهي شبكة مستفيدة من المولّدات ومن غياب الدولة". ويكشف خوري أنه تعرّض لتدخّلات من قبل نواب وبلديات ونافذين من خلال أحزاب لصالح أصحاب مولّدات لكنه رفض تدخلاتهم مهدداً بفضحهم إذا ما استمروا بسعيهم لحماية أصحاب مولّدات.
ويضيف خوري أنّ علاقةً مترابطةً قائمة بين البلديات وبين أصحاب المولّدات، فصاحب المولّد قد يكون رئيس البلدية نفسه ويكون هناك تقاسم أرباح أو إعطاء كهرباء مجاناً واستخدام أرض البلدية مجاناً انطلاقاً من المصالح المتبادلة، على حد قوله. كما يلفت إلى أن بعض المحافظين رفضوا التعاون في بعض المناطق حيث لم يشعر مثلاً بتعاون المحافظ السابق في الشمال لضبط فوضى المولّدات.
مقابلة رصيف22 مع الوزير السابق رائد خوري.
الحكومة تتدخّل وتمهل أصحاب المولّدات
في موازاة عملنا على هذا التحقيق، طلب رئيس الحكومة نواف سلام، خلال جلسة مجلس الوزراء في 13 آب/ أغسطس 2025، من الوزارات والإدارات العامة وبالسرعة الممكنة اتخاذ ما يلزم من تدابير إجراءات قانونية للتأكد من تقيد جميع أصحاب المولّدات الخاصة بها والتزامهم بالقوانين والقرارات والتعاميم المرعية الإجراء ذات الصلة، لجهة الالتزام بالتسعيرات الصادرة عن وزارة الطاقة والمياه، وتركيب العدادات الإلكترونية والفلاتر المطابقة للمواصفات المطلوبة وتقديم التصاريح والامتثال للشروط البيئية.
توصيات ضرورية لمعالجة فساد ملف مولّدات الاشتراك يقترحها الوزير السابق رائد خوري.
كما منح أصحاب المولّدات مهلة 45 يوماً كحد أقصى لتسوية أوضاعهم والالتزام بالإجراءات، وذلك تحت طائلة اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق المخالفين، بما في ذلك تنظيم محاضر ضبط، وحجز الموّلدات ومصادرتها عند الاقتضاء وإحالة أصحابها إلى القضاء المختص.
القرار الحكومي نفسه وعلى ضوء كل المعلومات والوقائع التي تم عرضها وجمعها رصيف22، يطرح تساؤلات مختلفةً عن قدرة الأجهزة والإدارات والبلديات على إلزام أصحاب المولّدات الالتزام بالمعايير البيئية والقوانين والتسعيرات الرسمية. فالإدارات والمؤسسات والأجهزة والبلديات هي نفسها التي فشلت خلال السنوات السابقة في تطبيق المعايير والقوانين والأنظمة إلى حدّ كبير، والسؤال يبقى: هل ستكون قادرةً على إسقاط الحمايات وقوة مافيا المولّدات ومحاسبة المرتكبين؟ وهل ستكون قادرةً على وضع يدها على مولّدات الاشتراك المخالفة وتشغيلها؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.
*أُنتج هذا التحقيق بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.