حكاية اليعسوب الذي غابَ وبقي وشماً

حكاية اليعسوب الذي غابَ وبقي وشماً

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 8 سبتمبر 20257 دقائق للقراءة

كنتُ في طريقي إلى "كاديكوي" (Kadıköy)، المنطقة الواقعة في الجانب الآسيوي من مدينة إسطنبول التي تعجّ بالمارّة. يُقال إنَّ قاضياً مشهوراً سكنها، ولهذا اكتسبت اسمها الحالي، لكنّي لم أعرف الحكاية كاملةً. ما عرفتهُ أنَّ اسمها تغيّر من "كالكيدون" (Chalcedon) المستوطنة التي أسسها الإغريق قديماً، إلى "قرية القاضي" في عهد السلطنة العثمانية. 

مررتُ بجانب تمثال الثور الشهير (Kadıköy Boğa Heykeli)، الذي صُنع في القرن التاسع عشر في فرنسا، ثم نُقل إلى تركيا كهدية من القيصر الألماني فيلهلم الثاني، إلى السلطان العثماني عبد الحميد، ليستقرّ أخيراً في قلب كاديكوي. 

انعطفتُ يميناً وسلكتُ طريقاً ضيّقاً إلى إستديو overdose للوشوم. كان المكان مليئاً بالشياطين. في كلّ زاوية ترى تحفةً ولعنة. يقول علم الملائكة (Angéologie)، إنَّ الله حينَ عاقب ملائكته، أنزلهم إلى الأرض، ومنذ ذلك الحين فقدوا قدرتهم الخارقة على التواصل مع السماء، وتحوّلوا إلى منبوذين وأشرار. رأيت هؤلاء الملائكة الساقطين في كلّ مكان، حتّى على أجساد العاملين في الإستوديو.

في العصور القديمة، ارتبط الوشم بالمنبوذين والمجرمين والملعونين. يُروى أنَّ أحد القراصنة الأشرار الذي كان مرّةً على متن سفينته المُبحرة، وبدافع من التسلية، استخدم إبرة وماءً ورماداً، وظلّ يضرب جسده وأجساد من كانوا معه حتّى تحوّل هذا الجرح إلى اللون الأخضر، وامتدّ صراخهم في أرجاء المحيطات، وتحوّل إلى هديل حزينٍ لحمامة تبكي طويلاً.

 يسأل كاتب نسيتُ اسمه: أيُّ نوع من المخلوقات هذا الذي يبكي لفترة طويلة دونَ أن يأخذ نفساً؟

الألم… بوصفه لعبةً

جلستُ على الأريكة، وبدأ الشاب يدقُّ الإبرة على جلدي، وبحركة بطيئة كان الحبر الساخن ينهمر ويتسرّب، متدفقاً على فخذي. يشير عالم الاجتماع الفرنسي دافيد لو بروتون، إلى أنَّ الألم في رسم الوشم هو جزء لا يتجزأ من طقس "اللعبة" كما يسمّيها.

ارتبط الوشم قديماً بالمنبوذين والمجرمين والملعونين. يُروى أنَّ قرصاناً على سفينته، استخدم إبرة وماءً ورماداً، وبدافع التسلية ظلّ يضرب جسده وأجساد من كانوا معه حتّى تحوّل الجرح إلى الأخضر، وامتدّ صراخهم في المحيطات، وتحوّل إلى هديل حزينٍ لحمامة تبكي طويلاً

يخضع الألم هنا لعملية "تسامٍ" sublimation، فهو ليسَ ألماً يؤلم؛ إنّه ألمٌ نختاره، نعيد تعريفه، ونحوّله تدريجياً إلى لذّة. وما إن ينتبه دماغنا إلى هذا التحول، حتّى تغدو المتعة خطأ ناتجاً عن الألم.

ويمكن القول إنها تجربة انفجار، أيّ تجربة عنف تكون في لحظة الانفجار إذا ما استعرنا العبارة من صاحب كتاب الإيروسية الفرنسي جورج باطاي. 

أخذ الشاب يمجّ سيجارته خارجاً، ثمّ بعد دقائق عدة عاد. وضعتُ رأسي مرّةً أخرى على الأريكة، وألصقتُ ظهري بمسندها، وطويتُ فخذي الأول وممدتُ الآخر، لكيّ يتسنّى لهُ الرسم، ورحتُ أتحدثّ معهُ بلغتي التركية المتواضعة. لكنّه ظلّ صامتاً، فغرقتُ مرةً أخرى في هذا الفضاء الساديّ l'univers sadique. 

يحيط بالمكان عدد لا يُحصى من المرايا. كنتُ أراقب الجرحَ يتفتّح على جلدي من خلال واحدة منها، وكان الدمّ الممزوج بالحبر ينساب ببطء على فخذي. يتداركه الشاب على الفور، ثمّ يمسحه بفوطة ناعمةٍ قبل أن يعاود الدقّ بإصرار. 

في بعض الممارسات التي تدخل ضمن طقوس المتعة والألم، تُستخدم المرآة لمضاعفة الوعي بالألم وبالذات والآخر، ويتكثفّ انعكاس الجسد المتألم أو المُقيّد هنا ليصبح أداةً للعبور من الهوية إلى الذوبان، ومن الانفصال إلى الانصهار. 

نحن نعاني بسبب عزلتنا الفردية المنفصلة، وتعدنا العاطفة بعنف الاتصال؛ هكذا يقول دافيد لو بروتون. وهذا ربما ما شعرتُ به. كان الجرح ينقلني إلى أبعد ما يمكن ترميزهُ بالبيولوجيا. كان ينقلني إلى الالتصاق مرةً أخرى بالذاكرة!

اليعسوب في "غاليري سمعان"

أذكرُ أنَّ الجوّ كان حارّاً، وكنتُ برفقة صديقي وليام في غاليري سمعان. أتحدث هنا عن عام 2018. اختارَ وليام هذا الاسم لأنه كان يؤمن بأنَّ وجودنا ما هو إلّا سلسلة من أداءاتنا. وفي كلّ ظرف جغرافيّ كنّا نؤدّي أدواراً مختلفةً. كانت لعبتنا المفضلة، بمجرد أن نتخطى الحاجز. يرتدي وليام ما يختاره، وأخلعُ ما أريده.

إنه ألمٌ نختاره في الوشم، نعيد تعريفه، ونحوّله تدريجياً إلى لذّة. وما إن ينتبه دماغنا إلى هذا التحول، حتّى تغدو المتعة خطأ ناتجاً عن الألم.

في تلك الفترة، كنتُ أعيش في غرفة صغيرة في ضاحية بيروت الجنوبية، وكان الذهاب إلى غاليري سمعان بمثابة رحلة إلى الطرف الآخر من الضاحية نفسها، على الرغم من قصر المسافة.

اعتدنا الجلوس في إحدى "الاستراحات". في الدارجة اللبنانية، لا أعلم لماذا نستبدل كلمة مطعم باستراحة. لكنّي أعلم أننا في كلّ مرة لم نكن نملك المال الكافي للاستمتاع بالطعام، وكنّا نبحث دائماً عن مهرب أو عن فسحة من ضيق المباني التي كانت تحبس السماء بلون واحدٍ: الرماديّ.

يُعرّف اللون الرمادي المكان في الضاحية ويشكلّه، يعرّف المارّة والقطط والطلقات البعيدة التي تُسمع، الجراح والصراخ ومحال الخردوات ودوّار الليلكي والجامعة اللبنانية التي تركن قربه. 

كان وليام في منتهى البساطة، طويل القامة، جميلاً وكان مهووساً بالعلوم وشغوفاً بعلم الحشرات والكائنات المجهرية. ينبغي أن أقول إنني قضيتُ اليوم بكامله أستمعُ إلى أحاديثه.

أكثر ما أثار اهتمامي كلامه عن اليعسوب. هذه الحشرة التي عاشت ولا تزال ملايين السنين. أخبرني أنَّ اليعاسيب القديمة كانت أكبر بكثير من تلك الني نعرفها اليوم. وقد يعود ذلك، إلى تركيز الأوكسيجين العالي في العصر الكربوني، ما سمح للحشرات بالنمو إلى أحجام ضخمة مقارنةً باليوم.

مع تقدّم الليل، وفي رحلة عودتنا إلى الضاحية، أخبرني وليام أنَّ أسطورةً ارتبطت بهذه اليعاسيب. ففي أحد الأيام، وبينما كان ذئب البراري يجول بحثاً عن الطعام، صادف يعسوباً ترقصُ فوق سطح ماء نقيّ، إذ إنَّ اليعاسيب عادةً ما تبقى قرب الأنهر. 

حاول الذئب الإمساك باليعسوب، لكنّ كانت لليعسوب سرعة غريبة لا يمكن مضاهاتها. كانت تختفي لتعود إلى الظهور كما لو كانت أداءً تمارسه أمامَ الذين يحاولون قتلها.

حين شعر الذئب بالعجز، صرخ قائلاً: لماذا تضايقينني؟ ثمَّ لماذا تطيرين بهذا الشكل؟ فضحكت اليعسوب وقالت: لأنني حارسة لأحلامك ولخيالاتك. هل استطعتَ يوماً الإمساك بها؟ أنا لستُ مقدّرةً لأن أقيّد. أنا أنتمي إلى هذه الريح، وأجرّ الحقيقة ورائي. 

ماتَ صديقي وليام بعد ثلاثة أعوام. يُقال في هذه الأسطورة إنَّ اليعسوب اختفت إلى الأبد مع الريح، وإنها تركت الذئب وحيداً يحدّق بانعكاسه أمام الماء متسائلاً عما إذا كان ما حدثَ وما رآه حقيقياً. 

عندما أصبح وشمي ندبةً

يُعرّف أحد الفلاسفة الندبة بأنها الصدمة، أو "أثر العالم الذي يترك بصمته على الجلد"، حتّى أنّ الندبات الأكثر سخافةً يمكن أن تكون تذكيراً بالذكريات، كالندوب الناجمة عن سقوط الدّراجات في صغرنا، أو عندما نخطو خطوتنا الأولى.

 وشمتُ أحاديثي مع صديقي وليام. وشمتُ ذكرياتي في مدينة بيروت معه. وشمتُ كلّ هذه المشاهد في تلك الرسمة. اخترتُ أن أدقّ هذه اليعسوب لأهرب من لعنة الاختفاء، ولتكون خساراتي محكيةً، وساذجةً كموتك يا وليام!

عندما كنتُ في إستديو overdose في كاديكوي، شعرتُ برغبة جارفة في وشم يعسوب وقد اخترتُ لهُ مكاناً واسعاً ومريحاً على فخذي، وكان عليّ أن أمدّ الهدية الإلهية ببعض الذكريات القاسية، لتتحول إلى ندبة، ربما ستبقى معي حتى موتي.

 وشمتُ أحاديثي مع صديقي وليام. وشمتُ ذكرياتي في مدينة بيروت معه. وشمتُ كلّ هذه المشاهد في تلك الرسمة. اخترتُ أن أدقّ هذه اليعسوب لأهرب من لعنة الاختفاء، ولتكون خساراتي محكيةً، وساذجةً كموتك يا وليام!

انتهى الشاب أخيراً، وسكتت آلة الوشم عن العنعنة. كان رفاقي في انتظاري خارج الإستديو. وأنا أهمّ بالرحيل، بدأت أفكر في وشميَ الآتي. ربما سأدقّ في المرّة القادمة "ليليث"، وهي من الشياطين الملعونة التي نبذها الله من سمائه إلى الأبد؛ ربما ستدلّكَ يا صديقي مرّةً أخرى على هذا العالم، بمعجزة أو بلعنة!



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image