حمتني زهرة

حمتني زهرة "عبّاد الشمس" من الموت في إسطنبول 

مدونة

الأربعاء 16 يوليو 202510 دقائق للقراءة

تُسمّى زهرة عبّاد الشمس في اللغة التركية "Ayçiçeği"، أيّ زهرة القمر. لم أكن أعلم ذلك من قبل، إلى أن وصلتني مؤخراً رسالة من "أُونُور" (Onur)، وهو شابّ تركيّ في الأربعين من عمره، يسكنُ في حيّ للطبقات المتوسطة العليا قربَ محطة "زنجرلي كويو"، يسألني فيها: ما المكان الذي ترغبين في زيارته في مدينة إسطنبول ولم يسبق لك أن زرته أو فكرتِ فيه؟

أجيبه: ربما حقل من زهور عبّاد الشمس.

حينَ بحثتُ عن أصل الكلمة، لم أجد مرجعاً يفسّر هذه التسمية. ففي معظم اللغات، لا تنفصل هذه الزهرة عن الشمس، إلّا في اللغة التركية، حيثُ تزدهر في الضوء المعتم الدامس وهذا يناسب ذاكرتي عن مدينة إسطنبول التي تترعرع تحت الأضواء الخافتة، إذا ما استعرنا العبارة من الكاتب الشهير هنري ميلر.

انتقلتُ للعيش في مدينة إسطنبول بعد انفجار مرفأ بيروت في عام 2020 بشهرٍ واحدٍ فقط. لقد حمتني زهرة عبّاد الشمس من الموت في هذه المدينة المتشظية.

قبل ساعة فقط من الانفجار، أهديتُ نفسي عبّاد شمس من محل لبيع الورود، بينما كنتُ في طريقي عائدةً من جامعتي في الحدث إلى أنطلياس مروراً بجسر الكرنتينا. 

تقول الأسطورة إنَّ كليتي (Clytie)، وهي حورية ماء، أحبّت إله الشمس ذات مرة، وعندما تركها انكسر قلبها. ربما أنا زهرة عبّاد الشمس الذي أشفقَ عليها الإله حينَ جلست كما كليتي (Clytie)، تسعة أيّام متواصلة، تراقب الشمس وهي تتحرك في السماء، رافضةً أن تشرب أو تأكل. إنني تلك الزهرة التي لا تكفّ عن التوجه نحو الشمس: بيروت، المدينة التي فقدتها إلى الأبد.

انتقلتُ للعيش في مدينة إسطنبول بعد انفجار مرفأ بيروت في عام 2020 بشهرٍ واحدٍ فقط. لقد حمتني زهرة عبّاد الشمس من الموت في هذه المدينة المتشظية. قبل ساعة فقط من الانفجار، أهديتُ نفسي عبّاد شمس من محل لبيع الورود...

قبل أن تحطّ طائرتي في مدينة إسطنبول، كنتُ أقرأ في كتاب "إسطنبول الذكريات والطفولة" للكاتب المثير للجدل هنا، أورهان باموق، إذ إنّ القليل من الأتراك الذين عرفتهم يحبونه أو يعترفون به كاتباً يستحقّ جائزة نوبل. سمعتُ مرّةً صديقي التركي يقول لي: إنّه عدوّ لتركيا. لم أسأله أكثر، فأنا أعلم أنّ خلفيته القومية المعقدة ستقدّم لي هكذا إجابات. أتفقُ مع بعض الأصدقاء الأتراك في عدم حبّه، لكنَّ الأسباب تختلف.

حينَ زرتُ متحف البراءة في شارع تشوكورجُما Çukurcuma، الذي يقع في منطقة "بي أوغلو"، والتي كانت تضمّ سابقاً أكراداً ويونانيين وأرمن، رأيت كيفَ أنَّ هذه المنطقة تعرضت ولا تزال لما يُعرف بالـgentrification، أي التحول الحضري للحيّ. فبدلاً من أن تبقى فضاءً يُعبّر عن الفئات التي تمّ تهميشها، جاء بناء هذا المتحف داخل بيتٍ خشبي كترميز إلى بيوت الإمبراطورية العثمانية، وإلى الطبقة التي انتمى إليها أورهان في السابق. وباجتذابه السياح مثلنا، محا المتحف حكايات هذا الحيّ، ومن سكنه.

جملة واحدة أتذكرها فقط من كتاب أورهان باموق، قبل وصولي إلى تقسيم: "هذا الارتباط بإسطنبول يعني أنَّ قدر المدينة يُكوّن شخصية الإنسان".

إسطنبول… سوناتا الضوء القمري

حينَ وصلتُ إلى تقسيم، الوجهة الأولى التي يقصدها السيّاح عادةً، رحتُ أتمشّى في شوارعها. كانت هناك صفوف من المطاعم الفخمة، وباعة خضروات وساحة كبيرة، يتوسطها تمثال لأتاتورك. كان يوماً رمادياً من أيام أيلول/ سبتمبر. وكانت الساحة شبه مظلمة ورصاصيةً، على خلاف شنطتي الحمراء، التي كنتُ أجرّها بتعبٍ وخوف ورهبة. وكان صوتُ جرجرتها يُحدثُ ضجةً غريبةً وكبيرةً ومفرطةً في الصخب.

بعض الأزقة في هذه المدينة تبتلع الأصوات جميعها، وتبقيك في قلب مشهد سينمائيّ بطيء، حيثُ يحدّق فيك الأتراكَ، بملل. إنه صوت صفير الانتقال، صوت البوسفور، والسفن التي تبحر بعيداً.

في اللغة التركية، ثمّة كلمات لا تجد ما يقابلها في اللغات الأخرى. اكتشفتُ واحدةً من هذه الكلمات ذات مساء صيفيّ على سواحل كاراكوي برفقة Maze، الشابّ الكرديّ الغارق في قوميته.

كان برج الفتاة ينتصب في الأفق، وبحر مرمرة يمتدّ أمامي كصفحة ساكنة، والسماء ممتلئة بالنجوم، وضوء القمر ينهمر ببطءٍ على سطح الماء. تكثّفت هذه الأضواء جميعها على بحر مرمرة بكلمة واحدة: Yakamoz. أخبرني مؤخراً شابّ تركيّ، تحمل جذوره بعض امتدادات السكان اليونانيين القدماء، أنَّ هذه الكلمة ربما تعود إلى اللغة اليونانية، وأنها دخلت إلى المناطق الساحلية الأناضولية، وأنها لا تحيل فقط إلى انعكاس الأضواء على سطح الماء بل تعبّر أيضاً عن المدّ والجزر اللذين يحرّكان البحار.

يمازحني صديقي التركي بأمثال شعبية عن حياة الكُرد، بينما يقول لي صديق كرديّ آخر إنهُ ليس تركياً. تتداخل العنصرية في إسطنبول وتركيا عموماً بالعلاقات السياسية والتاريخية والهويّات الكثيرة.

قبل أن تصير مألوفةً

سمعتُ مرّة أنَّ العزف على البيانو يحتاج إلى أصابعٍ طويلة، لتطال جميع المفاتيح وتتعرّف عليها وإلّا فقدَ العازف القدرة على المتابعة. ينعكسُ هذا الوصف تماماً على مدينة إسطنبول؛ إذا لم تطل أيّاً من مفاتيحها تبتلعك، وتصبح أنت غير المرئي فيها، لتحاول من جديد، إلى أن تلتقط جميع المفاتيح وتبدأ بالعزف. وهذا ما حدث لي؛ لم أفهم سرعتها، ولا إيقاعها حتّى وطأت قدماي مقهى وبار "تانيا" في حيّ "بي أوغلو". 

يقعُ هذا البار في الطابق الثاني، في قلب إسطنبول العريقة، التي بُنيت على طراز الأنماط الأوروبية. تستقبلك المقاعد الخشبية، والدهان الداكن، والأضواء الخافتة والقناديل المعلّقة.

في زيارتي الأولى إلى هذا المكان، كنتُ محاطةً بوابل من الأحاديث المتقاطعة: صديقي العربي يُبدي رأيه في الأتراك، صديقتي تتذمر من العنصرية، والآخر يختصر البلد بجسمٍ واحد، لا يحتمل الاختلاف؛ الحياة القاسية والمتوحشة في مدينة إسطنبول، والفرص الضئيلة. لكنّني على المقلب الآخر، كنتُ ولأول مرة أنصتُ بصمتٍ إلى التعقيد المجتمعي الذي يحيط بإسطنبول وبتركيا عموماً. شيء في المكان شدّني... فبار ومقهى "تانيا"، هو بار كرديّ بامتياز، يجتمع فيه اليساريون والكُرد، والعرب، بالإضافة إلى الأقليات المهاجرة والشركسية والأرمنية. كانت تلك زيارتي الأولى، التي أفهم فيها كيفَ يعاد تشكيل التاريخ من وجهة نظر الأقوى، وكيف يُنسى الآخر ويهمّش.

يمازحني صديقي التركي بأمثال شعبية عن حياة الكُرد، بينما يقول لي صديق كرديّ آخر إنهُ ليس تركياً.

تتداخل العنصرية في إسطنبول وتركيا عموماً بالعلاقات السياسية والتاريخية والهويّات الكثيرة.

يسردُ لي صديقي طارق tarık، بائع الكتب من مدينة سيفاس sivas، حادثةً حدثت معه في المكتبة التي يعمل فيها؛ بعد أن رفض زبون تركي أن يدفع مبلغاً بسيطاً إضافياً -ليرة واحدة فقط- بسبب خطأ في الحساب، قال لهُ الزبون: أنا من قيصري kayseri. فردّ عليه طارق: وأنا من سفاس Sivas، ولا أحبّ أهل قيصري إطلاقاً، فردّ الزبون: نحن الذين نملك المال... ليجيب طارق: ونحن نملك الرجولة والشرف، وانفجرت الأمور.

يقول لي طارق إنَّ أهل مدينته يتداولون كلاماً عن أهل قيصري يقولون فيه إنهم أغنياء جداً، لكنهم بخلاء. ويعترف بأنه لا يحبّ التعميم، إلّا أنَّ هذا الحديث أصبح شبه تقليد في المنطقة. ويضيف أنَّ "القومية المحلية الضيقة" منتشرة في تركيا، لكنها تظهر غالباً بشكل محابٍ ومحافظ أكثر منه فاشياً أو قمعياً، وأنَّ لدى أهل سيفاس قصصاً مليئةً بالصدمات التاريخية، إذ تُعدّ هذه الولاية إلى جانب ولاية ديرسم Dersim، من المناطق الأناضولية التي لم يتمكن العثمانيون سابقاً من السيطرة عليها بشكل كامل. كانت موطناً لمجتمعات متنوعة من الأرمن، الكُرد، الأتراك، والعلويين الكرد، والعلويين الأتراك، قبل أن تتعرض هذه المجموعات للمجازر والنفي.

الذي بُني خلال الليل

استمعتُ للمرة الأولى إلى أحمد كايا Ahmet Kaya، في مقهى وبار "تانيا". كان صوته يملأ المكان، كما لو كان جزءاً منه. أحمد كايا، أحد أهم الفنانين الذين وُلدوا لأبٍ كردي وأمّ تركية، شكّل حضوره الفني والسياسي نقطة جدل دائم في تركيا، خاصةً بسبب مواقفه الداعمة للمطالب السياسية الكردية.

يقول لي "Umut"، وهو شابّ ينحدر من أصول تترية وجورجية ومن عائلة شيوعية عريقة، إنَّ أحمد كايا، برغم القضايا التي لاحقته وهجمات القوميين الأتراك عليه، لا يزال حاضراً بقوّة، وإنه لا يمكن أن يحضر كأس مشروب الراكي rakı الشهير على الطاولة، من دون أن يصدح صوت أحمد في الخلفية.

 وهذا ما حدث فعلاً. فقد قضيتُ ليلةً كاملةً في منزل Umut الواقع في حيّ قريب من منطقة كاديكوي Kadıköy، نشرب الراكي ونستمع إلى أغانيه، ومن بين كل ما سمعته كانت أغنيته الأشهر: kum Gibi، وتعني "مثل الرمل"، هي التي ذكرتني بالحزن الغريب الذي يلفّ إسطنبول، وبالذكريات المُحمّلة من الماضي والتحديث المُفاجئ، إذ شهدت إسطنبول نهضةً عمرانيةً، ومعها نمت الأحياء العشوائية. 

تُعرف الأحياء العشوائية في اللغة التركية بالـgecekondu semtleri، ومعنى الكلمة حرفياً: "الذي بُني خلال الليل"، في إشارة إلى الأحياء والمنازل التي بُنيت سريعاً وفي الخفاء بعيداً عن أعين السلطات، لتصبح جزءاً من هذه المدينة التي وصفها أحدهم مرّةً بأنها المدينة التي "تمتطي ظهر قارّتين".

يسكن هذه الأحياء، المهاجرون والأقليات وتظهر فيها الصراعات الطبقية الواضحة.

لا وجود لمقابل دقيق باللغة العربية لكلمة Flâneuse (مؤنث flâneur باللغة الفرنسية). تناولتها العديد من الكاتبات لوصف التجوّل المعقد للنساء داخل المدينة، أولئك اللواتي سعينَ إلى امتلاك حق التسكّع الحرّ في الفضاءات العامّة، والانفصال عن الحشود، دون أن ينفصلنَ فعليّاً عن المدينة، بل ذائبات في جميع تفاصيلها الصغيرة، ومشدودات إليها.

تلاحقني قسوة المشهد كلما مررت بمنطقة فيكرتبي "fikirtepe"، وأنا في طريقي إلى منطقة كاديكوي Kadıköy. على يميني تمتد الأحياء العشوائية التي شُيّدت منذ الستينيات بأيدي العمال المهاجرين من القرى النائية؛ بنوا منازل بلا تراخيص، وبلا بنى تحتية. وعلى يساري ترتفع الأبراج السكنية الفاخرة والتجمعات السكنية الحديثة، وكأنهما مكانان مختلفان.

لا وجود لمقابل دقيق باللغة العربية لكلمة Flâneuse (مؤنث flâneur باللغة الفرنسية). تناولتها العديد من الكاتبات لوصف التجوّل المعقد للنساء داخل المدينة، أولئك اللواتي سعينَ إلى امتلاك حق التسكّع الحرّ في الفضاءات العامّة، والانفصال عن الحشود، دون أن ينفصلنَ فعليّاً عن المدينة، بل ذائبات في جميع تفاصيلها الصغيرة، ومشدودات إليها.

أستعير هنا ما قالهُ يوماً إيتالو كالفينو: لا تستطيع إلّا أن تسكن في رغبة المدينة، وتكون أنت لها محتوى. هكذا هي القوّة، أحياناً تُدعى مؤذيةً، أحياناً حميدةً، تماماً مثلكِ يا إسطنبول! 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image