شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ما سرّ نجاح المخرجة كوثر بن هنية أو كيف تعرّي الواقع في أفلامها؟

ما سرّ نجاح المخرجة كوثر بن هنية أو كيف تعرّي الواقع في أفلامها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء

الجمعة 22 مارس 202409:45 ص

تُعدّ المخرجة التونسية كوثر من هنية، واحدةً من المخرجات المميزات في حقل العمل الوثائقي والديكو-دراما، فتجربتها السينمائية عبر سنوات أكدت على قدرتها على سبر أغوار الواقع وقضاياه المسكوت عنها وتقديمه على طبق كوجبة سينمائية للجمهور الغربي قبل العربي، وكأنها عبر ذلك تسعى إلى تعرية الواقع وكشف الغطاء عنه لا مقاضاته، كخطوة أقل ما يقال عنها إنها جريئة لا تخشى لومة لائم. ليس هذا فحسب، بل هي خطوة لطالما فتحت لها أبواب العالمية.

فكرت كثيراً في الأسباب التي تجعل فيلماً ما يصل إلى العالمية، وتفتح له أبواب المهرجانات، وينال كل تلك الجوائز. تجارب كثيرة لمخرجين من بينهم التونسية كوثر بن هنية، التي أصبحت اليوم اسماً له وزنه في المهرجانات العالمية وليس فقط العربية، بل إن أفلامها باتت نصب أعين أوروبا التي تتلقفها كما اللقمة الدسمة.

تُعدّ المخرجة التونسية كوثر من هنية، واحدةً من المخرجات المميزات في حقل العمل الوثائقي والديكو-دراما، فتجربتها السينمائية عبر سنوات أكدت على قدرتها على سبر أغوار الواقع وقضاياه المسكوت عنها وتقديمه على طبق كوجبة سينمائية للجمهور الغربي قبل العربي

بدأت بن هنية (1977)، تجربتها في وقت مبكر، لكنها اشتهرت في العام 2012، مع فيلمها "شلاط تونس"، الذي دارت أحداثه حول "شلّاط تونس"، أو الرجل الذي عُرف بمطاردته النساء، وشطب مؤخراتهنّ بموسى حادة، والحقيقة أن ذلك الشلّاط لم يستطع أي تونسي الالتقاء به أو حتى ضبطه متلبساً، حتى صار ذلك الغامض أشبه بالأسطورة، الأمر الذي جعل منه موضوعاً جذاباً للكتّاب والروائيين، فكتب عنه الروائي التونسي كمال الرياحي، روايته "المشرط". ليس هذا فحسب، بل كان موضوعاً مهماً لبعض السينمائيين أمثال كوثر بن هنية التي أعادت فتح ملفه وحوّلته إلى فيلم سينمائي، ليكون أوّل فيلم روائي طويل للمخرجة يجمع في إخراجه بين التوثيق والرواية، وقد نجح الفيلم نجاحاً مبهراً وعُرض في أكثر من 35 مهرجاناً عربياً وأجنبياً وحصد العديد من الجوائز.

بعد نجاح تلك التجربة، ازداد الحس القوي لدى بن هنية في طريقة اختيار المواضيع الجذابة للمهرجانات، خاصةً العالمية منها، وتقديمها كفيلم سينمائي بعد معالجتها فنياً، فقدمت فيلمها "زينب تكره الثلج" الذي تابعت من خلاله رحلة الطفلة زينب البالغة من العمر 9 سنوات، والتي تعاني من مشكلة نفسية نتيجة خسارتها أباها في وقت مبكر من عمرها وخوفها من فقدان أمها، وستضطر مجبرةً إلى الالتحاق بوالدتها التي قررت العيش في كندا مع زوجها الجديد، لكن زينب في الحقيقة تكره كندا لأنها تكره الثلج. وبرغم أن الفيلم لا تدور أحداثه حول قضية كبرى كما تجري العادة في الأفلام الوثائقية، بل كان مجرد فيلم إنساني تدور أحداثه حول عائلتين تونسيتين، إلا أن المخرجة استطاعت وضعه على خط المنافسة مع أفلام روائية طويلة مهمة في مهرجان قرطاج السينمائي، حين استخدمت الأسلوب التسجيلي الحميمي الذي قارب في بعض لحظاته الأسلوب الروائي، بل أكثر من ذلك استطاع الفيلم أن يقتنص جائزة "التانيت" الذهبي لأيام قرطاج السينمائي، وسط ذهول كبير من بعض النقاد والمهتمين بالشأن السينمائي، وحتى وسط ذهول المخرجة نفسها.

ملصق فيلم "زينب تكره الثلج"

حصدت بن هنية سمعةً طيبةً كمخرجة قادرة على نبش الواقع التونسي ومشكلاته ونقلها بطريقة فنية إلى الشاشة بحيث ينفعل معها الجمهور ويتفاعل، ليس فقط في تونس وإنما في أي مكان في العالم، ومكّنتها جرأتها دوماً من الحصول على تمويل لدعم أفلامها، فقدّمت تجربةً فريدةً في العام 2017، من خلال فيلمها الروائي الطويل "على كفّ عفريت"، الذي عالجت من خلاله وبطريقة روائية، واقعةً حقيقيةً حدثت عام 2012، تعرضت خلالها فتاة جامعية للاغتصاب على يد عناصر من الشرطة، وعُدّت تلك القضية من القضايا المسكوت عنها، واستطاعت بن هنية أن تجعل أحداث فيلمها تدور في ليلة واحدة بين أقسام الشرطة والمستشفيات، وقدّم الفيلم بكل جرأة الممارسات المشينة التي كان يقوم بها بعض رجال الشرطة ضد المواطنين، والتي ينسبها الفيلم إلى الفترة التي سبقت سقوط نظام زين العابدين بن علي، وأذكر تماماً وأنا أشاهد هذا الفيلم في إحدى قاعات السينما التونسية أنني تمنيت لو تنشقّ الأرض وتبتلع جسدي عن أن أكمل مشاهدته، فلقد دخل إلى أعماق روحي وبثّ فيها درجةً عاليةً من الرعب كدت معها أفقد قدرتي على الخروج من قاعة السينما التي حولت تونس بالنسبة لي إلى مكان مرعب لا أمان فيه.

بعد النجاح الكبير الذي حققته بن هنية في أفلامها الثلاثة السابقة، ثم عبر فيلمها "الرجل الذي باع ظهره 2021"، والذي تم ترشيحه للأوسكار ووصل بالفعل إلى القائمة القصيرة، عادت في العام 2023 لتقدّم فيلمها الجديد "بنات ألفة"، الذي سيدور حول "ألفة الحمروني" الأم الحقيقية التي عُرفت قضيتها في العالم منذ العام 2016، بعدما أثارت علناً قضية تطرف ابنتيها المراهقتين رحمة وغفران، وتركهما المنزل والانتقال إلى ليبيا للقتال في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية داعش، حيث تم القبض عليهما وأُودِعتا السجن. كانت الأم تتحدث عن بناتها في الإذاعة حين تعرفت بن هنية على قصتها والتقطتها بعد أن وجدت فيها مادةً جذابةً يمكن تحويلها إلى فيلم سينمائي يمكن تقديمه للجمهور. صحيح أن الفيلم يحمل صنعةً إخراجيةً مميزةً وطريقةً مبتكرةً وجديدةً في تقديم الديكو-دراما، لكن ذلك في الحقيقة ليس السبب في نجاح الفيلم، بقدر ما هو اختيار الموضوع الخاص بالإرهاب، وتنظيم الدولة الإسلامية داعش، الذي ما زال يشكل موضوعاً مهماً وجذاباً بالنسبة للغرب يريد أن يسمع عنه المزيد ويتعرف على خباياه، وكأن بن هنية تمتلك عين صقرٍ، وسبب نجاحها يكمن في اختيار مواضيعها المثيرة ولو استغرق منها الأمر سنوات كما حصل تماماً مع هذا الفيلم.

حصدت بن هنية سمعةً طيبةً كمخرجة قادرة على نبش الواقع التونسي ومشكلاته ونقلها بطريقة فنية إلى الشاشة بحيث ينفعل معها الجمهور ويتفاعل، ليس فقط في تونس وإنما في أي مكان في العالم

تقول بن هنية: "كانت لدي الرغبة لأعرف ما حدث حقيقةً مع ألفة وبناتها، ولماذا اختارتا ذلك الطريق، حيث لم يكن لدي تفسير منطقي لتلك الخطوة، لذلك كنت أرى أنه لا بد من أن أذهب إلى الماضي خاصةً الحسّي والحميمي المرتبط بتربيتهما وعلاقتهما بأمّهما والمجتمع، وسنوات المراهقة"، وهي رغبة موجودة ليس فقط لدى المخرجة بل لدى الجمهور نفسه. وبرغم أن موضوع الفيلم ليس جديداً ولطالما كان مغرياً بالنسبة للسينمائيين العرب، خاصةً التونسيين منهم، إذ سبق وقدّم المخرج التونسي رضا الباهي فيلماً حول الموضوع نفسه في العام 2016، بعنوان "زهرة حلب" وكان من بطولة الفنانة التونسية هند صبري التي لعبت دور أمّ تفقد ابنها بعد أن التحق بتنظيم داعش في سوريا، إلا أن فيلم "بنات ألفة" استطاع أن يصل إلى العالمية بسبب الطريقة التي عالج بها الموضوع وقدمه حين وضع اللوم ليس فقط على العائلة والممارسات الخطأ في التربية بل أيضاً على الثورة التي أتت بحكم الإخوان الذي تسبب في تطرف العديد من الشبّان وضياعهم. وهذه هي المرة الأولى التي تتم فيها إدانة الثورة التونسية سينمائياً ولومها لأنها السبب في كل هذا التطرف والإرهاب، وهذا بجانب كونه فيلماً دمج أيضاً بين الوثائقي والدرامي ليس فقط على صعيد الأسلوب وإنما على صعيد التكنيك، حين استعانت المخرجة بالممثلة هند صبري بناءً على طلب "ألفة الحمروني"، لتلعب دور الأم تارةً ولتترك للأم الحقيقية تارةً أخرى موقعها، كما استعانت بممثلتَين لتلعبا دور الشابتين المتغيبتَين طوعاً عن المنزل.

ملصق فيلم "بنات ألفة"

نجح الفيلم وشارك في مهرجان "كان" السينمائي 2023، وحصد العديد من الجوائز منها جائزة "العين الذهبية" للأفلام الوثائقية، وجائزة "السينما الإيجابية" التي تُمنح للفيلم الطويل الأكثر إيجابيةً في قائمة الأفلام المرشحة في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، كما حصل على تنويه خاص من لجنة الناقد فرنسوا شالي والتي تقدمها جمعية فرنسوا شالي، ومثّل تونس في جوائز الأوسكار عن فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزية، كما نال جائزة "جوثام" كأفضل فيلم وثائقي في المسابقة السنوية المخصصة للسينما المستقلة. وليس هذا فحسب، بل إن الفيلم اليوم يحمل هدفاً إنسانياً بعيد المدى، وهو هدف سيحمل الأمل للأم "ألفة الحمروني" للمطالبة بإعادة ابنتيها من سجنهما في ليبيا، ومحاكمتهما في بلدهما تونس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image