في لبنان... هل تحمي المخافر النساء المعنَّفات؟

في لبنان... هل تحمي المخافر النساء المعنَّفات؟

حياة نحن والنساء

الثلاثاء 9 سبتمبر 202510 دقائق للقراءة

في بلد يتداخل القانون فيه مع الأعراف، وتتشابك الدولة مع الواسطة، لا تبدو العدالة مسألةً بديهيةً، خصوصاً عندما تكون المرأة هي الضحية. ففي لبنان، وبعد أكثر من عقدٍ على إقرار قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري (رقم 293/2014)، المعدّل بالقانون رقم 204، لا تزال الناجيات يواجهن طريقاً طويلاً، يبدأ من لحظة اتخاذ قرار التبليغ، ولا ينتهي، غالباً، عند باب المخفر.

"أنا اللي فتت، أنا اللي عطيت ورقة الحكم، وكان في مجموعة درك… ما كان فيه اهتمام، حطيت الورقة وطلعت. ما حدا سألني شي، ما أخدوا لا رقم ولا معلومات، وكأنّه الورقة ما إلها قيمة"؛ هكذا تروي ريم (اسم مستعار)، معاناتها لأجل محاولة تنفيذ قرار قضائي صادر عن المحكمة الشرعية يسمح لها برؤية ابنها.

كان يُفترض أن ينفَّذ القرار، وإن رفض طليقها يُسجَن، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. تتابع ريم حديثها إلى رصيف22: "رجعت بعد أسبوعين، ولا كأنّو في شي صار. حدا قال لي القرار تعمّم، بس ما حدا تواصل معي، ولا حدا حَبّ يتابع. طليقي بيضحك عليهم. قال لي دركي: هيدا إنسان سفيه ولسانو طويل وما بنقدر نكمشو". ريم التي كانت مرهقةً، ومحبطةً، أكثر ما هزّها، كما تقول، لم يكن فقط الاستهتار، بل شعورها بأنّ الدولة غائبة، أو ربما موجودة لخدمة طرف دون آخر. "ما حسّيت إنّي عم بحكي مع مخفر وقوى أمن، حسّيت عم بحكي مع مواطن عادي… شي بيقهر"، تُردف.

ريم، مثل لبنانيات كثيرات اصطدمن بجدار سميك من التراخي الأمني، والتبريرات، والمجاملات الاجتماعية وفق مبدأ "بيعرف فلّان وعلّان"، تحكي أنها ذات مرة قالت لطليقها إنها سوف تشكوه إلى المخفر، فقال لها: "بلّغي، ما بخاف من الدولة…"، وهو ما تيقّنت منه أخيراً.

بحسب المحامية غادة نقولا، لا تزال النساء في لبنان يواجهن عوائق في المخافر، حيث يتكرّر العنف بلغة قانونية وضمن إطار رسمي. فالقانون موجود، لكن المخفر لا يزال مكاناً غير آمن. كيف؟

وفق دراسة أُعدّت لصالح مؤسسة "أبعاد"، لعام 2021، واحدة فقط من بين كل عشر نساء يتعرّضن للعنف، تلجأ إلى الأجهزة الأمنية والقضائية. أما البقية، فيلذن بالصمت، أو بأحضان العائلة، أو في أفضل الحالات، بمنظمات غير حكومية، وهذا الإحجام عن التبليغ ليس نابعاً من ضعف الضحية، بقدر ما هو نابع من انعدام الثقة بالآلية القانونية والمؤسسات الأمنية.

"كفى": القانون موجود لكن التطبيق محدود

على الورق، يبدو أنّ لبنان قد خطا خطوات متقدّمةً في مواجهة العنف الأسري. فالقانون رقم 293 الصادر عام 2014، والتعديلات التي أُدخلت عليه لاحقاً في 2020 عبر القانون 204، رسما مساراً واضحاً لتجريم هذا النوع من العنف وتنظيم الاستجابة له. ولكن، كما تقول المحامية ليلى عواضة، الشريكة المؤسسة لمنظمة "كفى"، لرصيف22: "ما زلنا نراوح مكاننا، لأن البنود التي تحسّن فاعلية الاستجابة لم تُنفَّذ بعد".

وبحسب عواضة، ينصّ القانون المعدّل على تخصيص مكاتب داخل قوى الأمن الداخلي لتلقّي شكاوى العنف الأسري، تديرها عناصر مدرّبة، لا أن تُترك الضحية تحت رحمة أول رتيب تحقيق يصادفها في المخفر. لكن حتى الآن، لا وجود فعلياً لتلك المكاتب. تضيف عواضة: "لا تزال النساء يُستقبَلن في المخافر التقليدية، أمام عناصر قد لا يملكون أي حساسية تجاه العنف القائم على النوع الاجتماعي، ولا تدريباً على التعامل مع ضحاياه".

الأمر لا يقتصر على المخافر، العدالة القضائية هي الأخرى بطيئة ومجتزأة، فبرغم تخصيص محامين عامين في النيابات العامة لقضايا العنف الأسري، يفتقر النظام القضائي إلى قضاء متخصّص بالكامل في كل مراحل الدعوى: قضاة تحقيق، وجنايات، واستئناف. وفي هذا الشأن، تلفت عواضة إلى أنّ "هذا الغياب يبطئ المحاكمات، ويُثني النساء عن المتابعة. لا يمكن لامرأة معنّفة الانتظار سنتَين لتحصل على حكم حماية. وبرغم شمول القانون للأسرة كلها، ترى 'كفى' أنّ هذه 'المساواة الشكلية' تخدم المعنِّف أكثر مما تحمي ضحيته".

وتشدّد عواضة على أنّ "الرجل بات يستخدم القانون ضد المرأة، عبر دعاوى مضادة، في محاولة لتعطيل مفعول الشكوى الأصلية"، مردفةً بأنّ "هذه ثغرة قاتلة، لذلك نطالب بتخصيص حماية النساء حصرياً، لأنهنّ الضحايا الفعليات للعنف القائم على النوع الاجتماعي". الأخطر مما سبق، بحسب عواضة أيضاً، هو أنّ القانون لا يشمل الاغتصاب الزوجي، برغم كونه من أكثر أشكال العنف شيوعاً وخفاءً، مبرزةً: "القانون لم يُعدَّل ليتضمّن هذه الجريمة، فالنساء لا يمكنهنّ التبليغ عنها أصلاً، ما يترك ثغرةً قانونيةً هائلةً". 

وفي موازاة النقص التشريعي، هناك عقبات عملية خانقة، تشمل كلفة تقرير الطبيب الشرعي، وغياب المساعدة القانونية، ونقص العناصر الأمنية في المخافر نتيجة الأزمة الاقتصادية. وعنها توضح عواضة: "كان سابقاً يكفي اتصال على الخط 1745، ليتحرّك المخفر حتى لو لم تستطع السيدة الحضور. اليوم، بسبب نقص العناصر، يُطلَب من النساء التوجه بأنفسهنّ، ما يزيد من خطورة الوضع".

أمّا إذا كان الزوج معنّفاً وعسكرياً، فالوضع يكون أسوأ، وفق عواضة التي تؤكد: "الشكوى تُحوَّل تلقائياً إلى الشرطة العسكرية، حيث لا خطّ ساخناً، ولا حق شخصي، ولا إمكانية للمتابعة أو معرفة مصير الشكوى. المرأة تصبح بلا تمثيل، بلا وسيلة متابعة، وبلا حماية".

برغم جهود منظمات الحماية النسوية في لبنان، تبقى المعضلة الأساسية غياب الإرادة السياسية الصريحة للاعتراف بالعنف ضد النساء كظاهرة ممنهجة ومتجذّرة في النظام الاجتماعي والقانوني، وفق المحامية ليلى عواضة

المعنَّفات بين بيروقراطية الأمن وتحديات الحماية

بدورها، تنبّه المحامية غادة نقولا، من التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني (RDFL)، إلى تعقيدات الوضع بعيداً عن النصوص القانونية. تقول لرصيف22: "لا تزال النساء يواجهن عوائق في المخافر، حيث يتكرّر العنف بلغة قانونية وضمن إطار رسمي. القانون موجود، لكن المخفر لا يزال مكاناً غير آمن". وتوضح نقولا أنّ المشكلة ليست فقط في النصوص، بل في الفجوة الكبيرة بين القانون وتطبيقه، إذ تتردّد بعض المخافر في إصدار أوامر الحماية أو تؤخِّر تنفيذها، وتفسّر مواد القانون بشكل ضيّق يقيّد الضحية بدلاً من حمايتها.

وتشير نقولا، إلى أنّ غالبية عناصر الضابطة العدلية والمخافر تفتقر إلى التدريب اللازم للتعامل مع ضحايا العنف، سواء في الحفاظ على السرّية أو توثيق الإفادات القانونية بطريقة تراعي حقوق الضحية وتجنّبها إعادة الصدمة. والأمر الأسوأ، بحسب نقولا، أنّ بعض المخافر تفتقر إلى غرف تحقيق خاصة أو محققين مدربين، ما قد يحوّل الشكوى إلى استجواب مهين، أو يثني الضحية عن المتابعة.

وتشرح: "الضحية التي تخطو خطوة التبليغ، لا يجب أن تُعاقب بالتجاهل أو التأجيل، إذ قد يعرّضها التأخير في إحالة الملف أو تنفيذ أمر الحماية لخطر مباشر". وترى المحامية اللبنانية، أنّ تدخّلات النفوذ والعلاقات تعيق العدالة، خاصةً حين يكون المعنِّف ذا منصب سياسي أو عسكري. في هذه الحالة، "العدالة لا تحمي، لكنها تفرّق بين القوي والضعيف".

كما تؤكد أنه عندما يكون المعنِّف أو الضحية من المؤسسة العسكرية، تتعقّد الأمور أكثر، إذ تحال القضايا إلى القضاء العسكري الذي يفتقد الشفافية، وتُحرَم الضحية من متابعة ملفها أو تمثيلها القانوني غالباً. وتضيف نقولا: "غياب آليات متابعة واضحة داخل المؤسسة يجعل الإبلاغ شبه مستحيل"، كما تواجه المرأة العسكرية ضغوطاً اجتماعيةً ومهنيةً شديدةً قد تصل إلى فقدان العمل أو العزل داخل الوحدة، مع صعوبة الوصول إلى دعم نفسي أو مأوى خارج المؤسسة.

وعلى صعيد البلديات وقوى الأمن، تشيد نقولا ببعض التدريبات التي رفعت الوعي، ووجود تنسيق محدود بين الشرطة البلدية والجمعيات المدنية، لكنها تحذّر من غياب إطار وطني موحد وملزم للتنسيق والمتابعة، "فكل شيء يعتمد على حماسة فردية، لا يشكّل نظام حماية متكاملاً".

الاعتراف أول خطوة في طريق الحماية

وبرغم الجهود التي تبذلها المنظمات النسويّة في لبنان، بما فيها منظمة "كفى"، تبقى المعضلة الأساسية، والحديث للمحامية ليلى عواضة، في غياب الإرادة السياسية الصريحة للاعتراف بالعنف ضد النساء كظاهرة ممنهجة ومتجذّرة في النظام الاجتماعي والقانوني، "فالدولة لم تعترف بعد بوجود عنف ضد المرأة، وكذلك القوانين المتوافرة لا تتناول النساء كفئة تحتاج إلى حماية خاصة". ومن هنا، تقدّمت الجمعية باقتراح قانون شامل لمناهضة العنف ضد المرأة، يشمل التحرّش والعنف في المجالين العام والخاص، كما الاغتصاب الزوجي، ويعترف بالنساء كضحايا لهذا النوع من العنف.

لكن الاعتراف، وإن كان أول الطريق للحماية، لا يكفي وحده، إذ تشدّد عواضة على أنّ أي قانون، مهما بلغ من الدقة، يبقى قاصراً إذا لم يعالج البنية القانونية التي تنتج هذا العنف وتعيد تكريسه، مشيرةً إلى أنّ "قوانين الأحوال الشخصية الطائفية هي التي تكرّس التبعية والطاعة داخل الأسرة، وتعيد إنتاج النظام الأبوي"، متمسكةً بأنّ "الدولة يجب أن تشرّع قانوناً مدنياً موحداً للأحوال الشخصية، يكرّس المساواة والشراكة داخل الأسرة، ويعيد التوازن لعلاقات السلطة التي يُبنى عليها العنف". 

قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، قضاء متخصّص، وحدات مدربة في المخافر، ونظام حماية متكامل؛ كلّها ليست كماليات، بل شروط جدّية لبناء بيئة آمنة للنساء في لبنان

في هذا السياق، لا تكمن المشكلة في غياب أدوات الحماية فحسب، بل في منظومة قانونية واجتماعية لا تزال تتعامل مع العنف ضد النساء كـ"شأن خاص"، يُدار خلف الأبواب المغلقة، أو يُحلّ بتسويات عائلية، غالباً على حساب الضحية. ما تحتاجه النساء اليوم في لبنان ليس مجرد إضافة نصوص جديدة إلى القوانين القائمة، بل رؤية سياسية وقضائية واضحة تعترف بأنّ العنف ضد المرأة هو عنف ممنهج، تكرّسه بنية قانونية طائفية تقوم على التمييز، وتعيد إنتاجه مؤسسات يُفترض أن تكون مسؤولةً عن الحماية.

قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، قضاء متخصّص، وحدات مدربة في المخافر، ونظام حماية متكامل؛ كلّها ليست كماليات، بل شروط جدّية لبناء بيئة آمنة، لأنّ الحماية لا تبدأ فقط عند لحظة تقديم الشكوى، بل بتفكيك النظام الذي يجعل من النساء أهدافاً سهلةً، ويمنح الجناة حصانةً غير معلنة، سواء عبر نفوذهم أو عبر هشاشة آليات المحاسبة. ويبقى السؤال: هل تتحرّك الدولة لتصحيح هذا الخلل البنيوي؟ أو تبقى النساء الطرف الأضعف في معادلة غير متكافئة، تدار بلا ميزان عدالة، وبلا إنصاف؟

*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية "DRI"، ضمن مشروع "أصوات من الميدان… دعم الصحافة المستقلّة في لبنان".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image