عقول على الهامش… لماذا تُقصى الصحة النفسية من أجندة السياسة في تونس؟

عقول على الهامش… لماذا تُقصى الصحة النفسية من أجندة السياسة في تونس؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 5 سبتمبر 202513 دقيقة للقراءة

تبدو الصحة النفسية في تونس، كظلٍّ ثقيل يرافق التحوّلات الاجتماعية والسياسية من دون أن تحظى بالاهتمام المطلوب. فالخطاب العام ينشغل بالبطالة، الديون والانتخابات، فيما تبقى المعاناة الداخلية للأفراد خارج دائرة الاهتمام، وكأنها شأن خاص لا صلة له بمستقبل الجماعة. ومع ذلك، تكشف تفاصيل الحياة اليومية أنّ الأزمات النفسية لم تعد استثناءً؛ حالات الانتحار، والانفجارات العنيفة، وتزايد استهلاك المهدّئات والمخدّرات، أو موجات الهجرة… تتحوّل إلى هروب جماعي من أفق يبدو مسدوداً.

هذا الصمت السياسي يتعايش مع تغيّرات اجتماعية عميقة. فالعائلة، التي شكّلت طويلًا شبكة أمان، تآكلت تحت ضغط البطالة والفقر وهجرة الأبناء. شبكات القرابة والجوار، التي كانت تمدّ الفرد بملاجئ صغيرة من التضامن، لم تعد قادرةً على الصمود أمام ديناميات السوق والفردانية الصاعدة. وفي غياب هذه الحماية التقليدية، الدولة ليست حاضرةً لـ"التعويض"، بل تنسحب تاركةً الأفراد بين عزلة اجتماعية وضغط اقتصادي. هكذا يعيش الفرد محاصراً بفراغ مزدوج: مجتمع مفكّك ومؤسسات غائبة عن معاناته النفسية.

غياب الاحتواء وشبكات الدعم

لكن فقدان أدوات الاحتواء لا يعني غياب التأويل الرمزي. فالمرض النفسي يظلّ محاطاً بسرديات تقليدية تُحيله إلى المسّ أو العين أو ضعف الإيمان، وتحمّل الفرد أو ذويه المسؤولية. هذا التأويل يفتح منافذ علاجيةً بديلةً -من الراقي إلى الزاوية- لكنه يضاعف عزلة المريض بحرمانه من الاعتراف بأنّ معاناته نتاج شروط اجتماعية وظروف سياسية أوسع. والمفارقة أنّ هذه القراءات الشعبية تتعايش مع خطاب رسمي يتعامل مع الظاهرة من زاوية أمنية، فيُرى المريض النفسي كخطر محتمل لا كمواطن يحتاج إلى رعاية. بذلك، تلتقي المنظومتان، الشعبية والرسمية، في إقصاء التجربة الإنسانية للمرض النفسي عن حقها في الفهم والعلاج الجادّين.

لا ينبغي اختزال تهميش الصحة النفسية في تونس في غياب التمويل أو ضعف المؤسسات، لأنه يكشف أيضاً تناقضاً بين سرعة التحوّلات الاجتماعية وبطء السياسة، بين وعود الديمقراطية واستمرار منطق الإقصاء، بين خطاب الحداثة وممارسات الوصم

ويظهر هنا تناقض عميق؛ بلد يرفع منذ ثورة عام 2011 شعارات الحرية والكرامة، لكنه يترك أكثر جراح مواطنيه حساسيةً خارج دائرة الاهتمام. فبينما تتحدّث الدولة التونسية عن إصلاحات كبرى، تبقى مؤسسات الصحة النفسية في وضع هشّ، تعاني من نقص الموارد والبنية التحتية والكوادر.

أما المجتمع، فبرغم مطالبته بالاعتراف بالحقوق، لا يزال يخشى مواجهة حقيقة أنّ المرض النفسي حق إنساني يحتاج إلى رعاية مؤسساتية مثلما يحتاج التعليم أو الشغل. وهكذا، في كل مرّة يُستحضر خطاب الديمقراطية فيها، يطفو سؤال مسكوت عنه: أي معنى للمواطنة إذا كان العقل المتألِّم خارج العقد الاجتماعي؟

تونس، بهذا المعنى، تعيش على إيقاع توتّرات متعايشة؛ مجتمع يسير نحو الفردانية لكنه يتمسّك بمقولات جماعية لتفسير المرض. دولة تروّج خطاباً حداثياً لكنها تُقصي ملفاً لصيقاً بكرامة الفرد. فضاء عمومي يُفترض أنه مفتوح، لكنه يحاصر النقاش حول الهشاشة النفسية بالوصم و/ أو الصمت. وبين هذه المستويات، يبقى المريض النفسي مرئياً كـ"حادثة" أو "تهديد"، وغير مرئي كإنسان يعيش هشاشةً عميقةً تستحق اعترافاً ورعاية.

ولا ينبغي اختزال تهميش الصحة النفسية في تونس في غياب التمويل أو ضعف المؤسسات، لأنه يكشف أيضاً تناقضاً بين سرعة التحوّلات الاجتماعية وبطء السياسة، بين وعود الديمقراطية واستمرار منطق الإقصاء، بين خطاب الحداثة وممارسات الوصم. والسؤال المؤرق يظلّ: كيف يمكن لمجتمع أن يبني أفقاً ديمقراطياً جامعاً، إذا ظلّ يرفض مواجهة جراحه الداخلية ويترك مواطنيه ينهارون في صمت؟

تفتّت الروابط الاجتماعية وتعاظم الهشاشة النفسية

في زمن ما بعد الثورة، لم تعد الأزمات النفسية في تونس مجرد أعراض فردية، بل مؤشرات على تحوّل بنيوي يطال المجتمع التونسي بأسره. فحوادث الانتحار المتكرّرة في الأحياء الشعبية أو على تخوم المدن تتجاوز القرار الفردي لتكشف عن تفكّك الروابط التي كانت تمنح للحياة معناها. حين يفقد المجتمع شبكات التضامن ويترك الأفراد لمصائرهم، يتجلّى ما يمكن تسميته بـ"الانكسار الصامت"، حيث يصبح المرض النفسي انعكاساً للعزلة وفقدان الاندماج الاجتماعي.

خلال العقد الأخير، تحوّلت تونس إلى فضاء يزداد فيه منسوب الهشاشة؛ بطالة مزمنة، وهشاشة في العمل، وانسحاب تدريجي لدولة الرعاية. في خضم هذه الظروف، يجد الفرد نفسه في وضع "معلّق"، بلا انتماء فعلي إلى أيّ شبكة حماية. العامل/ ة العاطل/ ة عن العمل، وربّ/ ة الأسرة المرهق/ ة بالديون، والشابّ/ ة المهمّش/ ة في الاقتصاد غير الرسمي، جميعهم/ نّ يعيشون/ ن تجربةً مشتركةً: لم يعودوا جزءاً من منظومة قادرة على دمجهم. هكذا يتشكّل ما يمكن وصفه بـ"الفائض البشري"، حيث تتحوّل شرائح متزايدة من المجتمع إلى أجساد غير مرغوب فيها، مهدَّدة دوماً بالاستبعاد. 

لكن الأزمة ليست اقتصاديةً فحسب. فالمجتمع يشهد انفجاراً للفردانية؛ العائلة لم تعد متماسكةً كما في السابق، وشبكات القرابة تراجعت، والجوار أصبح عابراً. في غياب هذه الروابط، يُدفع الفرد إلى مواجهة معاركه اليومية وحيداً، في عالم يفرضه السوق أكثر مما تفرضه العلاقات الاجتماعية. هذه "الفردانية غير المحمية" تزيد الهشاشة النفسية حيث يجد الأفراد أنفسهم مطالبين بأن يكونوا "أبطال حياتهم" فيما تنهار البنى من حولهم. 

إلى ذلك، يعيش التونسي في "مجتمع المخاطر"، حيث التهديدات لم تعد خارجيةً بل متجذّرة في الحياة اليومية: بطالة، وفقدان أمان وظيفي، وتراجع الرعاية الصحية. هنا يصبح القلق النفسي تجربةً عامةً، ويغدو "اللايقين الجماعي" أحد أبرز ملامح العيش. هذه الحالة تتعزّز في زمن "الحداثة السائلة"، حيث الوظائف مؤقتة، والعلاقات هشّة، والمعايير متقلِّبة، والأفراد يجدون صعوبةً في بناء معنى ثابت لحياتهم، فتتسع دوائر القلق والاكتئاب والانكسار.

غياب الاعتراف ومضاعفة المعاناة

مع ذلك، يكمن جوهر المعضلة في غياب الاعتراف. الفرد الذي يعاني نفسياً لا يُعتَرف به كمواطن كامل الحقوق: العائلة تُخفي، والمجتمع يوصم، والدولة قد ترى فيه خطراً أمنياً. هذا النفي يضاعف عزلة المريض ويحوّله إلى ضحية مزدوجة. وفي موازاة ذلك، يجد الفرد نفسه مضطراً إلى تركيب هويته في عالم متشظٍّ. لم تعد الهوية فيه تُمنح عبر الانتماء إلى عائلة أو عمل مستقر، بل أصبحت بناءً هشّاً وسهل الانهيار مع أول أزمة.

كما يكرّس الاقتصاد السياسي آليات إقصاء منهجيةً، حيث من لا يملك عملاً مستقراً أو يعيش على هامش السوق أو يعاني من هشاشة نفسية، يُدفع تدريجياً إلى خارج فضاء المواطنة الفعلية. هذا الإقصاء لا يعني فقط الحرمان من الموارد، بل يخلق أيضاً إحساساً عميقاً باللاجدوى يتجلّى في الانتحار، والإدمان، والهجرة غير النظامية.

وأخيراً، يفرض تسارع الزمن إيقاعاً خانقاً؛ الأفراد مطالبون بمواكبة تغيّرات اقتصادية وتكنولوجية متسارعة بلا توقف. هذا الإيقاع يولد اغتراباً عميقاً، إذ يشعر الناس أنهم لا يسيطرون على وقتهم ولا على مسار حياتهم. وهكذا يُنتج التسارع قلقاً دائماً يضاعف هشاشتهم.

كل هذه الديناميات؛ تفكك الروابط، صعود الفردانية، مجتمعات المخاطر، الحداثة السائلة، غياب الاعتراف، هشاشة الهوية، الإقصاء وتسارع الزمن، تتقاطع لتصنع فضاء نفسياً هشّاً، ما يجعل الصحة النفسية في تونس قضيةً تتجاوز الطب لتصبح مرآةً لانهيار العقد الاجتماعي. الفرد الذي كان يجد في العائلة والجماعة والدولة سنداً، أصبح محاصراً في عزلة وانعدام أفق. وهكذا تتحول المعاناة النفسية من مسألة شخصية إلى علامة جماعية على مأزق بنيوي يعصف بالمجتمع التونسي.

الوصم وأنماط الشرعية العلاجية

في تونس، كما في مجتمعات ذات جذور ثقافية عميقة، لا يُفهم المرض النفسي في إطار طبي بحت، بل يُعاد إدخاله في شبكة من الرموز والمعاني. فالاضطراب السلوكي يُفسَّر أحياناً بالمسّ أو العين أو ضعف الإيمان. هذه التفسيرات ليست مجرد بقايا اعتقادات، بل منظومة رمزية تمنح المعاناة معنى، وتُحدّد هوية المريض في نظر الآخرين: "ممسوس"، و"معيون"، أو ببساطة "مجنون".

هذا الوضع يكشف ثقل الوصم الاجتماعي. فالمعاناة لا تُعرَّف فقط بما يعيشه الفرد داخلياً، بل بما يراه فيه الآخرون. الأسرة قد تخفي الأمر خشية الفضيحة، الجيران يتهامسون، المدرسة تُقصي، والعمل يغلق أبوابه. الوصم هنا قوة مؤسِّسة تدفع المريض نحو عزلة مضاعفة، وتؤخِّر طلبه المساعدة.

بينما يرفع الخطاب العام شعارات الحرية والكرامة، تبقى الصحة النفسية غائبةً عن جدول الأولويات، والسياسة عاجزة عن إدراج المسألة كحق أساسي. هنا يظهر التناقض: دولة تدّعي الانتقال الديمقراطي، لكنها تهمّش أكثر الملفات التصاقاً بكرامة الإنسان

ومع ذلك، يقابَل هذا الوصم ببدائل علاجية واسعة. فالطب النفسي موجود، لكنه لا يحتكر الساحة. الراقي، والشيخ، والزاوية، وحتى المرأة المتخصّصة في فكّ السحر، جميع هؤلاء يحتلون مواقع علاجيةً موازية. فالمريض الذي يعتقد أنّ معاناته نتيجة "العين"، يبحث عن علاج يتماشى مع هذا الفهم. نحن إذاً أمام ما يمكن تسميته بـ"تعدد أنماط الشرعية العلاجية" حيث لا وجود لمرجعية وحيدة، بل تفاعل بين أنظمة تفسير وعلاج، من البيولوجي إلى الشعبي.

هذا التعدد يعكس أكثر من مجرّد تنوع ثقافي، إذ يرتبط بغياب اعتراف مؤسّسي حقيقي بالصحة النفسية. فضعف النظام الصحي وعجزه عن توفير خدمات متاحة وعادلة يدفعان الناس إلى منافذ بديلة. وفي مجتمع مشبع بالتصورات الدينية والسحرية، تصبح هذه المنافذ شرعيةً بحد ذاتها. هكذا يتنقّل المريض بين الطبيب والراقي في رحلة بحث عن معنى وعلاج، دون أن يجد إطاراً يدمج تجربته كاملةً.

المثير أنّ هذه المسارات لا تُعدّ متناقضةً في نظر المرضى، بل مكمّلة لبعضها بعضاً. فقد يجمع المريض بين الدواء وزيارة الزاوية. هذا "الازدواج العلاجي" يكشف أنّ المرض النفسي تجربة ثقافية مركبة، تتداخل فيها مستويات مختلفة من الفهم. وبدلاً من عدّه تناقضاً، يمكن قراءته كإستراتيجية بقاء عبر محاولة مضاعفة فرص العلاج من خلال تعدّد القنوات.

لكن هذا التعدّد يكشف أيضاً هشاشةً. فغياب سياسة عمومية تعترف بالحق في الصحة النفسية يترك الأفراد رهائن أنظمة متباينة: الراقي قد يضاعف الوصم عبر ربط المعاناة بضعف الإيمان، فيما يهمل الطبيب الأبعاد الرمزية التي تعطي للمرض معنى في نظر المريض، والنتيجة أنّ المريض يظلّ معلّقاً في فضاء وسط، بلا اعتراف كامل لا هنا ولا هناك.

المسألة إذاً لا تتعلّق بالطب مقابل المعتقدات الشعبية فحسب، بل بصراع أعمق حول من يملك "حق تعريف المرض" وشرعية علاجه. في غياب سياسة صحية عمومية تُعطي للصحة النفسية مكانتها، تستمر هذه التعدّدية غير المنظمة، وتبقى المعاناة موزّعةً بين فضاءات علاجية متعدّدة، لكنها نادراً ما تُفضي إلى اعتراف كامل بالإنسان الذي يعيشها.

الإقصاء السياسي… العقل المرهق خارج الحسابات الرسمية

لا يكمن تهميش الصحة النفسية في ضعف البنية التحتية أو قلة الموارد فقط، بل في منطق سياسي يعيد صياغة أولويات الدولة. فعندما يُفتح النقاش حول السياسات الرسمية، تتقدّم ملفات الاقتصاد الكلي، والديون، والأمن، والاستثمار، بينما يبقى العقل المرهق في الظلّ، وكأنّه ملف غير منتج أو بلا قيمة إستراتيجية. بهذا المعنى، لا يُقصى المريض النفسي لأنّ مشكلته صغيرة، بل لأنّ السياسة تُبنى على منطق نفعي يحوّل الإنسان إلى جسد عامل أو رقم انتخابي، لا إلى كيان هشّ يحتاج إلى رعاية. 

هذا التصور ليس وليد اللحظة. تاريخياً، تعاملت السلطة مع "الجنون" كاختلال يستدعي العزل والسيطرة، لا كمرض يتطلب علاجاً. ولا يزال هذا الإرث حاضراً. فالمرض النفسي يُختزل في خطاب أمني، والمريض يُرى كخطر محتمل على النظام العام، أكثر من كونه مواطناً هشّاً يحتاج إلى دعم. هكذا تُوجَّه الموارد إلى السجون وأجهزة المراقبة بدل مراكز العلاج، في إعادة إنتاج للمنطق القديم نفسه: العقل المأزوم يُدار بالضبط لا بالعلاج.

في سياق ما بعد الثورة، يكتسب هذا الإقصاء بعداً إضافياً. فبينما يرفع الخطاب العام شعارات الحرية والكرامة، تبقى الصحة النفسية غائبةً عن جدول الأولويات. المستشفيات تعاني نقصاً فادحاً في الكوادر والوسائل، والخدمات شبه غائبة عن الجهات الداخلية، فيما السياسة عاجزة عن إدراج المسألة كحق أساسي. هنا يظهر التناقض: دولة تدّعي الانتقال الديمقراطي، لكنها تهمّش أكثر الملفات التصاقاً بكرامة الإنسان.

من منظور سوسيولوجي، يتّصل هذا الوضع بانسحاب الدولة الاجتماعية. فالتحولات النيوليبرالية قلّصت دور الدولة كمزوّد للرعاية، وأعادت تعريف مسؤوليتها تجاه "ضبط المخاطر" بدل ضمان الحقوق. وبما أنّ الصحة النفسية لا تدرّ أرباحاً ولا قيمة اقتصادية مباشرة، تصبح ضحيةً سهلةً لهذا التحوّل. العقل المرهق يتحوّل إلى "مخاطرة خاصة" يتحملها الفرد، بدلاً من أن يكون "حقاً عاماً" تكفله الدولة.

غياب الدولة لا يعني فراغاً. فالمعاناة النفسية تبقى حاضرةً، لكنها تتموضع كوصم اجتماعي أو عبء تتحمله العائلة، أو كموضوع يُستثمر فيه سياسياً عند ربطه بالمخدرات أو العنف. بذلك يصبح المرض النفسي حاضراً كـ"خطر"، وغائباً كـ"حق"، ومرئياً عندما يهدّد النظام، وغير مرئي عندما يطالب بالعلاج.

يفضح إقصاء الصحة النفسية في تونس محدودية الديمقراطية فيها. فالديمقراطية لا تُختبر فقط في صناديق الاقتراع أو في حرية التعبير، بل في قدرتها على حماية الأضعف والاعتراف بحقوقهم الأساسية. فأي معنى للمواطنة في مجتمع لا يعترف بالعقل المرهق ولا يدرجه في حساباته؟

هذا الوضع يعكس غياب الاعتراف. فالمريض النفسي لا يُقصى فقط من الخدمات الصحية، بل أيضاً من دائرة المواطنة الكاملة. عدم الاعتراف هذا يحرم الفرد من الشرعية الرمزية التي تمنحه حق الوجود داخل الجماعة. المعاناة النفسية هنا ليست تجربةً ذاتيةً فحسب، بل تجربة سياسية تكشف كيف تعيد الدولة رسم حدود المواطنة: من يُعترف به، ومن يُترك خارجها.

في النهاية، يفضح هذا الإقصاء محدودية الديمقراطية التونسية. فالديمقراطية لا تُختبر فقط في صناديق الاقتراع أو في حرية التعبير، بل في قدرتها على حماية الأضعف والاعتراف بحقوقهم الأساسية. حين تُستبعد الصحة النفسية من الأجندة، فهذا يعني أن العقد الاجتماعي الجديد ناقص، لأنه لا يستوعب هشاشة مواطنيه.

في المحصّلة، تُعدّ الصحة النفسية مرآةً تكشف حدود الانتقال السياسي، وتطرح السؤال المؤرق: أي معنى للمواطنة في مجتمع لا يعترف بالعقل المرهق ولا يدرجه في حساباته؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image