كيف يهدّد التنافس التركي الإسرائيلي وحدة سوريا واستقرارها؟

كيف يهدّد التنافس التركي الإسرائيلي وحدة سوريا واستقرارها؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

السبت 6 سبتمبر 202511 دقيقة للقراءة

بين مساعٍ تركية حثيثة لتمديد النفوذ، واندفاع إسرائيلي للسيطرة على المناطق الجنوبية، تواجه دمشق تحدّيات متصاعدةً، تصاحبها تغيّرات متسارعة في مواقف القوى الإقليمية الفاعلة على الساحة السورية، إذ فتح القرار التركي ببناء ملاجئ في 81 مدينةً في سياق تعزيز البنية التحتية الدفاعية وسبل حماية المواطنين في أوقات الأزمات، وقطع العلاقات التجارية مع تل أبيب، تساؤلات حول الآثار التي قد تعود على دمشق من وراء هذا التصعيد، ولا سيّما أنه تزامن مع هجوم للقوات الإسرائيلية على موقع قرب دمشق، زعم مصدر إسرائيلي أنه كان يحتوي على "أجهزة تركية وُضعت للتجسّس على إسرائيل".

التنافس التركي الإسرائيلي على سوريا يأتي في ظل تنامي التعقيدات الداخلية في البلاد، إذ تلاحق السلطة الانتقالية في دمشق اتهامات بالتمييز ضد بعض المكونات الاجتماعية وتهميش أخرى، فيما لم يتحدّد موقف الكرد والدروز، وتنشد بعض الجماعات مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، اللامركزية في وقت لا تثق فيه المجتمعات الدرزية والعلوية بالسلطة الجديدة، ما يضاعف التعقيدات السياسية ويضيف إليها أخرى أمنية واقتصادية تضع المستقبل السوري على حافة المجهول.

في هذا التقرير، يسعى رصيف22 لتحليل إلى أي مدى قد تستحيل سوريا ساحةً لمواجهة مباشرة أو غير مباشرة بين إسرائيل وتركيا؟ وما هي التأثيرات المحتملة لهذه المواجهة -إن حدثت- على مستقبل البلاد واستقرارها؟ وما هي الخيارات التي قد تمتلكها السلطة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، لمنع تورّط البلاد في هكذا معركة؟

"ربما لن تكون هناك دولة سورية موحدة قوية بما يكفي لمواجهة التحدّيات الإقليمية في المستقبل القريب"... إلى أي مدى يهدّد التنافس الإسرائيلي التركي في سوريا استقرار البلاد ووحدة أراضيها؟

هل أنقرة بديلة إيران في سوريا الجديدة؟

في خضم المواجهات الإسرائيلية التركية في سوريا، يفرض السؤال عما إذا كانت دمشق تعتزم استبدال الإيرانيين -حلفاء النظام الساقط الأبرز- بالأتراك في مواجهة تل أبيب، نفسه. وعنه، يجيب المحلل السياسي السوري أحمد شيخو، معبّراً عن اعتقاده أنّ "السوريين يشعرون وكأنّ قدرهم أن يكونوا تابعين لقوة إقليمية".

ويضيف، في تصريحات لرصيف22، أنّ الحضور التركي في سوريا "غير مبرَّر"، وأنّ تدخّلات أنقرة في الشأن السوري باتت "مزعجةً"، منبّهاً إلى أنّ استبدال إيران بتركيا هو استمرار لهيمنة القوى الإقليمية على القرار الوطني السوري، وهو ما لن يكون في صالح الدولة والشعب.

ويشير شيخو، المتخصص في الشأن الكردي والتركي، إلى أنّ الوجود التركي في سوريا ربما يكون أخطر مما كان عليه الوجود الإيراني، عازياً ذلك إلى "التلاصق والعقلية العثمانية لسلطات أنقرة الإسلاموية"، لافتاً في الوقت عينه إلى أنّ الاستقرار السوري لن يكون إلا من خلال عودة دمشق إلى محيطها العربي وتحقيق الأولويات السورية بعيداً عن استعمال البلاد كساحة لتصفية الحسابات.

ويتابع شيخو، بأنّ تركيا ترى أنّ التغيّرات الحاصلة في الأبعاد الإستراتيجية ستحجّم دورها أمام صعود الدور العربي الإسرائيلي في سوريا، وهي غير مرتاحة لأي دور كردي أو تسوية تضمن حقوق الكرد، لذا فهي لا ترغب في أن تخدم التغيّرات الجديدة مطالب الكرد، لأن ذلك قد يؤثر على مستقبل القضية الكردية التي لم تحسمها تركيا بعد.

كما يشير شيخو، إلى علاقات ومصالح تركيا وإسرائيل المشتركة ضمن منظومة حلف الناتو، وغيرها من اتفاقات عسكرية وأمنية ثنائية، مستدركاً: "صحيح أن علاقة الطرفين حالياً يشوبها غضب وانزعاج، لكن ذلك لن يؤثّر على علاقاتهما كون أنقرة وتل أبيب تدوران في حلقة أمريكية واحدة، إلا إذا أراد النظام الدولي خلق مشكلات كبيرة لتركيا".

هل تتحوّل سوريا إلى ساحة مواجهة تركية إسرائيلية؟

من جهته، يرى الباحث العراقي الخبير في الشؤون الإستراتيجية، حسام بوتاني، أنّ الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها تركيا عقب حرب الـ12 يوماً بين إيران وإسرائيل وتصاعد النشاط الإسرائيلي في الداخل السوري، تعكس ذهنيةً إستراتيجيةً جديدةً لأنقرة تقوم على تعزيز منظومتها الدفاعية إذ تسعى إلى إعادة بناء قدراتها الدفاعية في شرق أوسط يشهد تحوّلات دراماتيكيةً لا تتوقّف منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

ويضيف بوتاني، لرصيف22، أنّ هذه التحرّكات تأتي بالتزامن مع إعادة توزيع أدوار القوّة وتراجع النظام الإقليمي العربي إلى مستويات غير مسبوقة بعد حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة وغياب التأثير العربي في المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية، لافتاً إلى أنّ أنقرة موّلت برنامجاً للصواريخ الباليستية لتغطية مدى وصولها إلى إسرائيل، وشرعت في تطوير ملاجئ ومنظومات حماية جديدة. برغم ذلك، يشير إلى أن "هذه الخطوات لا تعني أنّ تركيا في طريقها إلى خوض حرب مباشرة مع إسرائيل، كونها عضواً في حلف الناتو مع ما يترتّب على ذلك من التزامات قد تجرّ الغرب إلى مواجهة مدمّرة".

لكنه يعتقد أنّ ما تقوم به أنقرة يهدف بالأساس إلى تعزيز حضورها الإقليمي وسدّ الفراغ الذي تركه تراجع الدورين السوري والإيراني في المنطقة، مشيراً إلى أنّ قرار تركيا الأخير قطع العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل لم يكن مرتبطاً فقط بالحرب على غزة، بل جاء كردّ مباشر على عملية عسكرية نفّذتها وحدات كوماندوز إسرائيلية جنوبي دمشق، استهدفت نشاطاً استخباراتياً تركياً.

كما يُذكّر بوتاني، بأنّ علاقات تركيا بإسرائيل كثيراً ما شهدت فترات انقطاع، لكن من دون ترجمة حقيقية على الأرض، مبرزاً أنّ "أنقرة تواجه الآن تحدّياً أعقد في الساحة السورية، حيث تحاول ملء الفراغ الإستراتيجي الناجم عن إسقاط نظام الأسد، بالتوازي مع توسيع نفوذها عبر تحالفات مع أطراف محلية، غير أنّ ذلك يصطدم بالتدخّل الإسرائيلي المتزايد في سوريا، والذي يهدف في جزء منه إلى إفشال الدور التركي، وهو ما يضع أنقرة أمام تحدّيات إقليمية بالغة الصعوبة".

المايسترو التركي يهندس علاقات دمشق؟

 فضلاً عمّا سبق، يقول الباحث العراقي إنّ تركيا تحاول لعب دور "المايسترو" في هندسة العلاقات السورية مع بعض الأطراف الخارجية وعلى رأسها روسيا، لكن الاندفاع الإسرائيلي العدواني الذي يسعى إلى ضرب التجربة الجديدة وخلق حالة من الفشل لدى الإدارة السورية الوليدة عبر تقويض هيبتها وافتعال تحدّيات داخلية، يمثّل أكبر التحدّيات.

ويرى بوتاني، أنّ طبيعة النظام الجديد في دمشق، ذي الخلفية الجهادية والمعتمد على عناصر لديها مواقف صدامية مع إسرائيل، تجعل من أي استفزاز عسكري عاملاً ضاغطاً يفرض تحدّيات داخليةً وخارجيةً معاً، مشيراً إلى أنّ ملف "قسد" يمثّل لغماً إستراتيجياً قد ينفجر إذا لم يُحلّ بطرق سلمية واحتوائية.

ويشدّد أيضاً على أنّ هذا الواقع خلق تحدّيات إستراتيجيةً كبرى أمام النفوذ التركي الجديد في سوريا، لافتاً إلى أنّ الاعتداءات الإسرائيلية باتت إحدى أبرز العقبات أمام حضور أنقرة. لكنه ينبّه في المقابل إلى محدودية البدائل التركية وتردّد تركيا في مواجهة التهوّر الإسرائيلي بخطوات جريئة، مثل نشر بطاريات دفاع جوي أو إنشاء قواعد عسكرية مباشرة في سوريا، خشية الانجرار إلى حرب شاملة، وهو ما قد يؤّدي إلى تراجع استثمار تركيا في اللحظة التاريخية الراهنة وإضعاف قدرتها على ترسيخ نفوذها في سوريا.

يرى علاوي أنّ بعض الدول تسعى إلى تطبيق نموذج شبيه بالحالة اللبنانية في سوريا، وعلى رأسها إيران التي تحاول دعم العلويين أو قوات "قسد"، إلا أنّ المزاج الدولي قد يرفض ذلك كونه لا يميل إلى تقسيم سوريا

تركيا كـ"حليف أكبر" لسوريا

من جهته، يستبعد الصحافي السوري فراس علاوي أنّ تكون أنقرة راغبةً في لعب الدور ذاته الذي لعبته إيران حتى نهاية العام الماضي في سوريا، موضحاً أنّ تركيا ترى نفسها حليفاً إقليمياً لبلاده، بينما كانت طهران تسعى إلى السيطرة المباشرة عليها عبر أدوات مختلفة.

ويضيف علاوي، في حديثه إلى رصيف22، أنّ ثمّة خلافات وإن غير عميقةـ بين الحكومة السورية الحالية وأنقرة في ما يخصّ بعض السياسات الخارجية، وهو ما قد يثير إزعاج الأتراك أحياناً، خاصةً في ما يتعلّق بعلاقة دمشق بالولايات المتحدة الأمريكية، موضحاً أنّ المشهد الإقليمي الحالي يعكس تبادلاً في مراكز القوى. فبينما كانت طهران قوةً مهيمنةً على الوضع السوري، باتت أنقرة اليوم أقرب إلى موقع "الحليف الأكبر" لا المتدخّل بشكل كامل، ولا سيّما في ظلّ وجود حلفاء آخرين كالسعودية.

ويشير إلى أنه برغم وجود هجوم إعلامي متبادل بين إسرائيل وتركيا، إلا أنّ الأمور لم تصل إلى مستوى الصدام المباشر على الأرض السورية، كما أنّ الحكومة السورية لا تبدي رغبةً في تحويل البلاد إلى ساحة مواجهة بين الطرفين، متوقعاً أنّ تستمر سياسة "ضبط النفس" التي تنتهجها دمشق لفترة إضافية، وهو ما قد ينعكس سلباً على علاقاتها مع أنقرة، على حد قوله.

ورقة الأقليات والنموذج اللبناني 

فضلاً عمّا سبق، يعبّر علاوي عن اعتقاده أنّ بعض الأطراف الإقليمية لا تزال تلعب دوراً سلبياً في سوريا حتى اللحظة، من خلال دعم بعض المكونات الداخلية، شارحاً أنّ بعض الدول تسعى إلى تطبيق نموذج شبيه بالحالة اللبنانية في سوريا، وعلى رأسها إيران التي تحاول دعم العلويين أو قوات "قسد"، إلا أن المزاج الدولي قد يرفض ذلك كونه لا يميل إلى تقسيم سوريا.

"تآكل حلم الدولة السورية الموحدة"

لكن هذا يتناقض مع ما ذكره رئيس معهد أبحاث مركز التراث الدرزي في إسرائيل، يسري خيزران، الذي رألأى في مقال له، أنّ سبب ميل بعض الدروز إلى الجانب الإسرائيلي يتمثّل في الزيادة الكبيرة في "أسلمة المعارضة السورية" خلال السنوات الأخيرة، واستهداف بعض المنظمات الجهادية للطائفة الدرزية كما حدث في حزيران/ يونيو 2015، حين ذُبح 20 درزياً في قرية صغيرة في إدلب على أيدي عناصر جبهة النصرة، وكذلك الهجوم على القرى الدرزية من قبل داعش في أيلول/ يوليو 2018 في ما عُرف إعلامياً بـ"هجمات السويداء".

يحذّر الباحث اليوناني من أنه برغم تباين أهداف تركيا وإسرائيل في سوريا إلا أنّ تدخّلاتهما تؤدّي إلى تجزئة النسيج السوري، لافتاً إلى أنّ هذا الواقع الناشئ لا يوفر أملاً يُذكر في الاستقرار أو المصالحة أو إعادة الإعمار

أشار خيزران أيضاً، إلى أنه برغم ترحيب الدروز بانهيار النظام، إلا أنهم لم يبدوا أي حماسة لوصول أحمد الشرع إلى سدّة الحكم، كما أنهم لا يسمحون لقوات الحكومة الجديدة بالتجمّع في مناطقهم، وغير مستعدّين لتسليم أسلحتهم، ولا سيّما بعد أحداث الساحل السوري في آذار/ مارس 2025، وهو ما يجعل الكثير من المحللين يشكّون في أنه لم يعد من الممكن الإبقاء على سوريا كدولة موحدة مرةً أخرى، لافتاً إلى أنّ السيناريو الأكثر تفاؤلاً بشأن مستقبل البلاد هو أن تتكون دولة فيدرالية مع حكم ذاتي للأقليات المركزية الثلاث (العلويين والدروز والكرد)، مع بقاء دولة مركزية تحت رعاية تركيا.

ويوافق الباحث اليوناني، أستاذ العلوم السياسية، سبيروس سوفوس، على أنّ سوريا تحوّلت إلى ساحة صراع بين القوى الإقليمية، مشيراً إلى أنّ سياسات إسرائيل وتركيا تشير إلى بنية متعمّدة من التشرذم، وإلى أنه كلما طال أمد مناطق النفوذ الإقليمية تحت ستار الحماية أو الاستقرار أو مكافحة الإرهاب، كان من الصعب الحفاظ على وحدة الأراضي السورية أو التماسك السياسي الوطني.

ويضيف سوفوس، في مقال له، أنه "ربما لن تكون هناك دولة سورية موحدة قوية بما يكفي لمواجهة التحدّيات الإقليمية في المستقبل القريب"، مبرزاً أنه برغم تباين أهداف تركيا وإسرائيل في سوريا إلا أن تدخّلاتهما، المتوازية والمدعومة بالقوة العسكرية والتحالفات بالوكالة والمناورات الدبلوماسية، تؤدّي إلى تجزئة النسيج السوري، وهو ما يعكس تحوّلاً أوسع نحو السيادة الاسمية في منطقة مجزّأة بشكل متزايد، لافتاً إلى أنّ هذا الواقع الناشئ لا يوفر أملاً يُذكر في الاستقرار أو المصالحة أو إعادة الإعمار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image