حين تتحول المهنة إلى هوية… لماذا يخشى مغاربة من اندثار الطّرز؟

حين تتحول المهنة إلى هوية… لماذا يخشى مغاربة من اندثار الطّرز؟

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 6 سبتمبر 202510 دقائق للقراءة

يزخر المغرب بتراث غني ومتنوع، يعكس تفاعل مجموعة متنوعة من الثقافات والحضارات التي تعاقبت على أرضه عبر العصور، والتي تجسد عمق هويته التاريخية. وتتجلى مظاهر هذا التراث من خلال العديد من الفنون والحرف التقليدية والتقاليد التي توارثتها الأجيال، والتي تحمل بصمة المدن المغربية وتميز بعضها عن بعض، وترسم لها روح هويتها وثقافتها الأصيلة.

وقد ورثت مدينة فاس الإدريسية عن الحضارات التي مرت عليها، فرادةَ الإبداع الأصيل، حيث تُعدّ مهد فنون الصناعات التقليدية، التي تجذب الزوّار من كل حدب وصوب بفضل جودة منتوجها الذي يحمل براعة أنامل الصانع التقليدي المغربي الأصيل. من بين هذه الفنون الصناعية التقليدية التي تشتهر بها فاس ، يبرز فن الطرز الفاسي كأحد أرقى أشكال فنون زخرفة النسيج يدوياً، والتي أبدعت ولا تزال تبدع فيه أناملُ النساء المغربيات وحافظت عليه منذ عصور.

تاريخ ونشأة فن التطريز

فن التطريز هو فن" التَّوْشِيَةِ"؛ وشى فلانُ الثوبَ، أي زخرَفه، حسنه بالألوان ونمنمه ونقشه، والطراز هو النمط والشكل. ويعتبر التطريز من أقدم الفنون التي عرفها الانسان منذ القدم والتي لحقت بصناعة النسيج من أجل إضفاء قيمة جمالية للقطع النسيجية وقد ارتبط هذا الفن ارتباطاً وثيقاً بـ"دور الطراز" التي لعبت دوراً كبيراً في بروزه وتطوره.

حسب كتاب "اقتصاد النسيج في الغرب الإسلامي في العصر الوسيط" لمحمود هدية، فقد أطلق لفظ "الطراز" بدايةً على الكتابة الزخرفية الموجودة على المنسوجات، فهو لفظ أعجمي مأخوذ من كلمة "طرازيدين" أو "ترازيدين"، وهي ترادف الكلمة الإنكليزية "Embroider"، وتعني التطريز وعمل المدبج، وقد شاع مدلولها على الدور والمصانع. وانقسم الطراز إلى نوعين: الطراز الخاص وهو ما خُصّص إنتاجه للخلفاء والملوك، والطراز العام، وقد وجه إنتاجه لعامة الناس والبلاط أيضاً، وكلاهما خضع للمراقبة من قبل السلطة.

التراث المغربي غني ومتنوع، يعكس تفاعل الحضارات ويمنح كل مدينة طابعاً يميز هويتها وتقاليدها الأصيلة


ويضيف الكتاب أن هذه الدور تضمنت كلَّ ما يلزم لصناعة ثياب ونَسِيج الخلفاء والملوك وخاصتهم، فلم تهتم بإنتاج ما يحتاجه السوق المحلي بشكل كبير، بل سعت جاهدة لإنتاج أجود الثياب التي حُظر بيعها في الأسواق وللعامة، فخضعت للرقابة الحكومية من قِبَل المحتسبين حتى لا يتدنَّى إنتاجها، وتخرج المَنْسوجات مثلما حُدِّد لها عن طريق المحتسبين، ثم تُختم فتصير جاهزة.

وأول من اتَّخذ الطِّراز هو الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، والأمير عبد الرحمن بن الحكم، وهو أول من أنشأ داراً للطراز في الأندلس، كما يذكر لسان الدين بن الخطيب في "الإحاطة في أخبار غرناطة": "وفي أيامه اتُّخذ الطِّراز الذي كان حديث الرفاق، وطرفة أهل الآفاق". ويرجع نفس المصدر على أن انتشار دور الطراز عند المسلمين آنذاك خصوصاً في الأندلس يعود إلى اهتمام الدولة لتوثيق الأحداث والمناسبات عن طريق تطريزها وتصويرها على الأعلام والرايات.

وحول تاريخ وجود دور الطراز في المغرب فإن كتاب "اقتصاد النسيج في الغرب الإسلامي في العصر الوسيط" يفترض وجود بعضها في عهد المرابطين، خاصة في زمن يوسف بن تاشفين (500-400هـ) والذي اتخذ قراراً يُفضي إلى إثبات اللقب الذي اتَّخذه في طرازه، غير أن خلفاء الموحدين حرموا على أنفسهم الطِّراز في بداية حكمهم، فلم يكن لهم شيء من طراز "فكانوا يتورَّعون عن لباس الحرير والذهب، فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم، حتى استدركتها فيما بعد السلالة المرينية في عهد السلطان يوسف بن يعقوب المريني"، الذي اتخذ مدينة فاس عاصمة لدولة المرينية (1244-1465)، حيث عرف فن التطريز في هذه الفترة تطوراً واضحاً مع الملوك المرينين الذين تميزوا بذوقهم الراقي وملابسهم الملكية المطرزة بخيوط الحرير والذهب وأسلوبهم الفني الرفيع في شتى المجالات. ومما ساهم في تطويره في هذه الفترة هو استقدام الحكام للحرفيين الأندلسيين إلى المغرب، مستمدين خصوصية رسومات التطريز من الأشكال الهندسية والإنجازات المعمارية التي عرفتها تلك الفترة.

هواية نساء المغرب قديماً

بين جدران البيوت المغربية العتيقة، وعلى إيقاع الحياة اليومية، أتقنت النساء المغربيات قديما فن التطريز اليدوي كهواية منزلية وصنعة عائلية تتوارثها العائلة، بالخيط والإبرة يتفنن لتوشية قطع ملابسهم التقليدية والمفروشات والأثاث المنزلية للتباهي بها في جل المناسبات والأفراح.

تعلم فن التطريز أو فن توشية النسيج وزخرفته لم يكن مجرد ترف عند العائلات المغربية، على حد تعبير أمي فاطمة، إحدى معلمات الطرز الفاسي من مدينة فاس، في حديثها لرصيف22، بل كان ضرورة أساسية ترتبط بتقليد اجتماعي، بغض النظر عن المستوى والمكانة الاجتماعية التي تحظى بها الأسرة، حيث كانت جميع العائلات المغربية الغنية والفقيرة تحرص قديماً على تعليم بناتها فنونَ هذه الحرفة منذ الصبا، إما من خلال تلقينها داخل بيوت العائلة والأقارب والجيران الذين يتقنون هذه المهارة أو الذهاب إلى "دار المعلمة" التي شكلت آنذاك مؤسسات تقليدية للتكوين المهني، منتشرة في جل أحياء وأزقة المدن المغربية، لتعليم الفتيات أصول فن الطرز المغربي بمختلف أنوعه الفاسي والرباطي والتطواني ووالأزموري.

تكمل أمي حديثها وهي تسترجع شريط بدايتها مع الطرز الفاسي، وفي نفس الوقت تستمر أناملها المبدعة في إتمام قطعة وسادة تزينها بدقة وحرفية بنقوش الطرز الفاسي كي لا تضيع الوقت ملتزمة بالمثل الشعبي القائل: "حديث ومغزل"، فتقول: "بدأت رحلتي في تعلم فن الطرز الفاسي وأنا طفلة صغيرة في سن التاسعة، بناءً على رغبة أمي التي كانت تأخذني إلى بيت إحدى جاراتنا، معلمة الطرز، والتي كان يعرفها الجميع في الحي بمهارتها الكبيرة في هذا الفن، ويتوافدن إلى بيتها لتعلم أصول هذه الحرفة. ففي ذلك الوقت لم يكون تعليمي لهذا الفن نابعاً عن حب، حيث لم أكن أرى فيه سوى وقت طويل أقضيه مجبرة في بيت جارتنا بناءً على طلب أمي، إلا أنني شيئاً فشيئاً ومع كل يوم أمضيه في تعلمه ومع كل غرزة إبرة بدأت أُعجب بجمال تفاصيله التي تتجلى في جمالية نقوشه المميزة والتي تحول القماش الأبيض الذي لا حياة فيه إلى لوحة فنية نابضة بالحياة تسحر العيون، ومن تمت أدركت قيمة تعلمه و شيئاً فشيئاً بدأت أجد في تعلمه المتعة والشغف الذي تحول في ما بعد إلى هواية ثم إلى صنعة رافقتني طوال حياتي".

فن الصبر والدقة والحساب في كل غرزة

تنعت معلمات الطرز ، الطرز الفاسي بلقب "طرز الحساب" و"طرز الغرزة" أيضاً، وذلك بسبب الاعتماد الكبير على حساب الغرز بدقة متناهية تميزه عن باقي فنون الطرز الأخرى. وفي هذا الصدد تقربنا المعلمة فاطمة من أهم مميزات الطرز الفاسي مواصلةً حديثها مع مداعبة خيوط حرير الطرز وتقول: "الطرز الفاسي يتطلب الصبر والدقة والتركيز من قبل الحرفيات، فهو من أرقى وأدق وأعقد فنون الطرز في المغرب؛ هو ليس مجرد حرفة يدوية مثل باقي الحرف، بل قائم على حساب الغرز بدقة متناهية من قبل الطرازة، إذ لا مجال فيه للعشوائية، فكل تفصيل صغير فيه قد يؤثر على الشكل النهائي للقطع، ولهذا يلقب بلقبين: طرز الحساب وطرز الغرزة".

وعلى غرار باقي أنواع الطرز تضيف أمي أن الطرز الفاسي ينجز فوق ثوب رقيق أبيض من نوع الحرير أو من القطن أو الكتان، ويتفرد عن غيره من أنواع فنون الطرز بكونه لا يعتمد على رسومات جاهزة مسبقة، بل يتم إنجازه مباشرة على الثوب. وتتألف رسومات الطرز الفاسي من أشكال هندسية هرمية بقببها المرتفعة و معينات متداخلة ورسومات نباتية مزهرة تتمثل في "زهرة الزنبق". هذه الأشكال الهندسية تستمد رموز أصولها من الأشكال الهندسية العتيقة التي خلفتها الحضارات السابقة في فنون العمارة المغربية.

فن التطريز الفاسي، أحد أرقى أشكال الزخرفة اليدوية التي تتطلب دقة وصبراً عميقين، وهو تعبير فني حيّ يعكس براعة النساء المغربيات

وفي ما يتعلق بأدوات و مواد صناعة الطرز الفاسي تكشف لنا المعلمة فاطمة عن هذه الأدوات وتقول: "الأدوات التي نعتمدها في فن الطرز هي أدوات بسيطة جداً تتمثل في ثلاث أدوات رئيسية: أداة المرمة الخشبية (طارة التطريز) وتتكون من حلقتين، يتثبت عليها قطعة النسيج، ثم الإبرة، والخيوط الحريرية، ونشرع في عملية غرز القماش شيئاً فشيئاً ليتحول في نهاية إلى لوحية فنية".

قطعة أساسية في جهاز العروس المغربية

تشارك المعلمة فاطمة بكل فخر واعتزاز رصيف22 قطعَ الطرز الفاسي الذي أنجزته منذ 28 سنة تتمثل في قطعة غطاء السرير (الإزر) ووسائده المطرزة باللون الأخضر ومناديل المائدة. تمرر أناملها برفق فوق نقوشه وتُقلب القطعة لتُظهر الجانب الآخر المتطابق وتعلق قائلة: "هذا الإزر تحديداً يحمل ذكرى عزيزة على قلبي، فقد صنعته ضمن جهاز زفافي قبل 28 سنة. ففي وقتنا قديماً جرت العادة عند العائلات المغربية في بدء تحضير الطرز الفاسي وإدراجه بشكل رئيسي ضمن لوازم جهاز العروس لبناتهن منذ سن مبكرة جداً، حتى قبل خطوبتهن، فبمجرد أن تبلغ الفتاة تبدأ العائلة رحلة إعداد هذا الجهاز أو ما يعرف بـ'الشورا' ليصبح لاحقاً جزءاً من زينة بيتها الزوجية".

الانتقال إلى التصنيع الآلي

يواجه الطرز الفاسي في هذا العصر تحديات كبيرة تهدد استمراريته كجزء أصيل من التراث المغربي. تشير فاطمة بحسرة إلى هذه التحديات وتقول: "يشهد الطرز الفاسي اليدوي تراجعاً ملحوظاً، وذلك بسبب مجموعة من التحديات التي تشعرني بالخوف عليه من خطر الاندثار مستقبلاً. من بين هذه التحديات، نجد تقلص عدد الحرفيات 'الطرزات' حيث أصبحن معدودات على رؤوس الأصابع، وذلك في ظل غياب اهتمام الفتيات الشابات بتعلم هذا الفن في أوقات فراغهن فقد باتت الأغلبية منهن مع الأسف تنشغل في قضاء معظم أوقاتها على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن جهة أخرى يبرز تحدي آخر يتجلى في ظهور الآلات الطرز الحديثة التي تنافس العمل اليدوي بمنتوجاتها السريعة وبتكلفتها المنخفضة".

وللوقوف على واقع تجارة الطرز الفاسي اليدوي مع منافسه الآلي، قصدت أحد تجار الطرز الفاسي بمتجره بقيسارية الكفاح بفاس، لأسأله عن نوع المنتوج الذي يفضله الزبائن والذي يحقق له مبيعات أكثر في هذا الوقت. يقول محمد، بائع الطرز: "يسجل الطرز الفاسي المصنوع بالمكينة (الآلة) أكبر نسبة مبيعات بالمحل، مقارنةً بالطرز الفاسي اليدوي الأصيل؛ فأغلب الزبائن الذين يأتون إلى هنا يفضلون شراء الطرز الآلي، وذلك بسبب وفرته في السوق، إذ لا يستغرق وقتاً كبيراً في إنجازه، وأيضاً بسبب سعره الرخيص مقارنة بالطرز الفاسي مرتفع التكلفة".

وحول الفئة التي تقتني الطرز الفاسي باليد وتفضله على الطرز الآلي، يصرح محمد وهو يُلوح لنا بيديه تجاه الطرز الفاسي المعروض بدقة بألوانه المختفة حول رفوف محله ويقول: "الطرز الفاسي اليدوي يفضله الزبائن الذين يمتلكون ذوقاً رفيعاً ويقدرون التحف الفنية المصنوعة يدوياً، بعيداً عن الإنتاج الصناعي السريع، فمن المعروف أن ما صُنع باليد ليس كما صُنع بالآلة، فما هو يدوي يكون حقيقياً ذا جودة عالية يحمل روح الصانع، والآلي يبقى مجرد نسخة مقلدة لا روح فيها".

وفي ختام حديثه، يدعو محمد إلى ضرورة صيانة وتثمين هذا التراث، وذلك من خلال دعم الحرفيات وتشجيعهن، خاصة في ظل التحديات التي تواجههن وكذلك إنشاء مراكز تكوينية ليتمكن الشباب من تعلم هذه الإرث العريق لضمان بقائه باعتباره جزءاً لا يتجزأ من التراث الثقافي المغربي الذي يجب الحفاظ عليه للأجيال القادمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image