موت صنع الله إبراهيم، يوم 13 آب/أغسطس 2025، أغرى نبلاء وأشقياء ومذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بالتنافس في صنع إطار من قداسة مضادة لدلالة مشروعه. هذه السلوك يحجب الرؤية الجمالية، ويغني عن الاشتباك مع أفكار تتجدد في إبداعه، ويصرف الأنظار إلا عن واقعة مفصلية في مسار الرجل وفي تاريخ علاقة المثقف بالسلطة، كما يعفي الكسالى من البناء على الموقف الراسخ لصنع الله عام 2003، وتطوير بذرة تمرُّد استوعبته السلطة بذكاء؛ لاستعادة زمام السيطرة.
إعادة الإحكام بدأت لحظة الخروج من دار الأوبرا، وعلى أيدي مثقفين موظفين، ومثقفين مستقلين. والرجل المتعالي على سلطة المنح والمنع عوقب على الاستغناء بالإقصاء، استناداً إلى أنه، بقصد أو بدون، أمة وحده. لم ينتظر مكافأة، ولم يبال بما ظنّوه عقاباً. غياب الفطنة منع النقابات والمؤسسات التعليمية والجمعيات الثقافية أن ترشحه لجائزة مصرية. ولبعض هذه الكيانات صلاحية الترشيح لجائزة نوبل التي يستحقها بجدارة. قصِر النظر أصاب إدارة الأمن في جامعة عين شمس، عام 2016، فاعترضت على حضوره مناقشة رسالة ماجستير عنوانها "ثنائية الحاكم والمحكوم في روايات صنع الله إبراهيم" لحمزة قناوي، ولم يسمحوا بدخوله إلا بتدخل أستاذين في قسم اللغة العربية، وتأكيدهما لإدارة الجامعة أن حضوره "يشرّف كلية الآداب... فوافقت الإدارة على مضض"، كما كتب قناوي في صحيفة القدس العربي، في 15 أيار/مايو 2025.
تحويل صنع الله إبراهيم إلى أيقونة مُقدَّسة يصرف الأنظار عن مشروعه الإبداعي، ويُغني الكسالى عن مواجهة نصوصه وتحليل أفكاره، وكأن حضور الموقف يغني عن حضور الأدب
برفض صنع الله جائزة القاهرة للإبداع الروائي العربي في دورتها الثانية، تخيل الكثيرون من جيله وما تلاه أن خطاياهم التالية مغفورة، بفضل المخلّص. في لحظات الحنين، لأكثر من عشرين سنة، تُستعاد الواقعة. والموت جعلها أيقونة. هي تستحق أن تتأيقن، ضمن مشروع إبداعي تنسجم فيه الكلمة مع السلوك. أما تعمُّد تضخيم الحدث، ونزعه من سياقه، فهو سلوك لئيم لمبدعين يبرئون الذمة، بعد العجز عن التقاط شعلة التمرد. ويشارك في هذا اللؤم نقاد انصرفوا عن إبداع صنع الله، وعن موقفه الزلزالي، وحيدًا ضد سلطة محلية تحكمها سلطتان. أراد الخبثاء بقاء الاعتراض العاصف في الواجهة، كلما ذُكر اسم صنع الله إبراهيم، فيحضر الكاتب المعارض ويغيب الروائي.

بعض اللئام أسعدهم اقتران اسمه بأعمال درامية مأخوذة من رواياته، مثل مسلسل "ذات"، وفيلم "شرف" لسمير نصر. تزامن التغييب النقدي مع جريان اسم صنع الله على ألسنة مشاهدين لا يقرأون. ومرّت في هدوء رواياته التالية لعاصفة الجائزة المرفوضة. في سياق صحي، ما كان لرواية "67" لتُنشر في صمت، كانت ستحظى بما واكب "تلك الرائحة" من جدل نقدي. نص "67" الذي احتفظ بطزاجته، ونشر بعد خمسين سنة من كتابته، يلقي أضواء على مقدمات الهزيمة. في ضباب ما بعد انكسار الثورة، قد تتكرر النتائج.
من خارج مصر جاء ضوء يكاد يكون وحيداً. عني الناقد المغربي صدوق نور الدين بدراسة بعض الحصاد الأخير، في كتاب "اكتمال الدائرة.. دراسة في ثلاثية صنع الله إبراهيم" الصادر عام 2021. الثلاثية المقصودة هي "67" و"برلين 69" و"1970". والروايات صدرت في أعوام 2017 و2014 و2019 بالترتيب.
بعد وفاة صنع الله، أعدتُ قراءة مشهد العاصفة، وتأملتُ مواقف ربما تفسر إقصاء الرجل بالصمت؛ سلاح العاجزين عن إرضاء الله والشيطان في آن. تنقصهم جسارة الاهتمام بأعمال الرجل، فيصمتون. نظام الحكم الخشن لا يتسامح. ولمثقفي هذا النظام، والمشتاقين إلى أن يكونوا من مثقَّفيه، قرون استشعار تتحسس مواطن الرضا عن هذا والغضب من ذاك. ربما يتهاون النظام في التصفيق للمرضيّ عنهم، لكنه لا يغفر لمن يقترب من المغضوب عليهم. يدينون بدين السلطة، أنّى توجهت ركائبها. دليلي على ذلك من بدايات صنع الله إبراهيم.
في عام 1966 صوردت روايته "تلك الرائحة"، واستطاع المؤلف "استخلاص عدد من النسخ"، أهداها إلى أصدقاء وصحافيين لم يصلهم خبر المصادرة، فنشروا تعليقات عن الرواية المستقرّة في مخازن وزارة الداخلية. وفي محاولة للإنقاذ، ذهب مع الشاعر الشيوعي زكي مراد إلى المثقف اليساري أحمد حمروش، رئيس تحرير مجلة "روزاليوسف". حمروش ضابط له علاقة بالشأن الثقافي قبل ثورة 1952، مثل ثروت عكاشة، ويزيد عليه بكتابة القصة والمسرحية، وصار مؤرخاً رسمياً للثورة التي اختارته ـ بعد شهرين من استيلائها على الحكم، لرئاسة تحرير مجلة "التحرير". حمروش فاجأهما بمفارقة تؤكد رهافة قرون الاستشعار، وكيف يكون "المثقف" عبّاد الشمس، عبّاد السلطة.
في حضور زكي مراد، رحب حمروش بصنع الله إبراهيم بحرارة، وأراني بروفة العدد الجديد من المجلة وبه تعليق صغير له عن الرواية تحت عنوان "لغة العصر". وعندما أبلغتُه بنبأ المصادرة ظهرت عليه المباغتة. واتصل هاتفياً بقريب له في مصلحة الاستعلامات، وأنصت إليه، وقبل أن يعيد "السماعة إلى مكانها اتصل بمطبعة المجلة وطلب شطب مقاله عن الرواية". سلوك ضابط يتلقى تعليمات، مثقف وظيفي لا يجادل. لا اجتهاد لمثقفي السلطة مع قراراتها.
وصفتُ رفض صنع الله إبراهيم جائزة القاهرة للإبداع الروائي العربي بالزلزال. والآن أستعيد رسم المشهد التالي لخروجه من دار الأوبرا، مساء الأربعاء 22 تشرين الأول/أكتوبر 2003. الصدمة هزمت البعض، وأسقطت متظاهرين بالمعارضة والاستقلال في اختبار بلا إعادة. هناك صامدون بالفطرة يزهدون في ذهب السلطة. كنت في المقعد الأخير بالمسرح، بجوار الممر. مكاني المفضل في المحاضرات الجامعية والندوات والملتقيات، يمكنني أن أنسحب بهدوء في أي وقت. أمامي بالضبط وزير الثقافة فاروق حسني، تسبقه كاميرا، وخلفه جابر عصفور، ثم أحمد مجاهد يحمل ملفات. مال الوزير إلى عصفور الأقصر منه، ثم استقام وصرح للتلفزيون مستنكرًا سلوك صنع الله: «لماذا قبِل جائزة العويسي؟"، بالياء، يقصد جائزة سلطان العويس، لكن الاضطراب منعه أن يسمع بدقة ما أملاه عصفور.
محمود أمين العالم، عضو لجنة التحكيم، شارك المحكّمين والحضور في التصفيق للفائز بالجائزة. وبعد دقيقة، صفق وحده من المنصة، لصنع الله وهو يفجّر الملتقى بالبيان الغاضب. تصفيق العالم المصاحب للغضب أعمق وأطول زمناً من التهنئة بالفوز. لا أعرف هل وجّه الوزير لوماً إلى العالم، باعتباره مقررَ لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة الذي يترأسه الوزير؟ بدهاء رجل استخبارات، تمكن الوزير من امتصاص الصدمة في الحفل، وأعلن حقّ صنع الله في الرفض. ثم ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة؛ فاتهم صنع الله بإساءة التصرف، "وهذا لا يعني أننا سنلفظه، بل سنسعى إلى تقويم فكره وتوعيته". تصريح استعلائي يؤكد رؤية السلطة الشمولية للمثقفين، قطعان في الحظيرة، والراعي وزير لديه سلطة تقويم ما يحسبه اعوجاجاً.
انفضّ الحفل، فقال سكرتير لجنة التحكيم أحمد مجاهد لوكالة أنباء الشرق الأوسط، الحكومية المصرية، إن صنع الله قاطع مؤتمر المثقفين منذ شهور، "وكان موقفاً مريباً". في التصريحات التي نشرتها الأهرام المسائي في اليوم التالي، 23 تشرين الأول/أكتوبر 2003، قال مجاهد إن الوزير ديمقراطي ترك صنع الله يكمل قراءة البيان، وكان عليه "أن يراعي ويحترم لجنة التحكيم... أفضل لجنة تحكيم في الوطن العربي". لكن فاروق عبد القادر، في تصريحات لا تجرؤ وسيلة إعلام مصرية على نقلها، قال لرويترز إنه لا يرى في موقف صنع الله "من الجائزة المصرية غرابة أو شذوذاً، بل يتفق مع مواقف الكاتب وتاريخه السياسي ومضمون كتاباته الروائية".
بعد خمسة أيام، في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2003، نشرت صفحة الأدب بجريدة الأخبار ما يشبه محاكمة عنوانها "الروائيون والنقاد يواجهون رافض الجائزة". قال الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور إن رفض الجائزة "أثار زوبعة لا تزال دوائرها تضطرب". أبلغه بالفوز، وطلب اسمه كاملاً، لإصدار الشيك المالي، فأجابه: صنع الله إبراهيم الأرفلي، "ونبّهني إلى أن لقبه بدون واو". بحكم المنصب أسِف عصفور على خديعة صنع الله، فماذا عن مثقفين عرب، ومصريين بلا مناصب؟
بعض الضيوف العرب كانوا أكثر مغالاة، فالعراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي نصح صنع الله إبراهيم بالتأسي بسارتر، حين رفض جائزة نوبل بمجرد إبلاغه، "هذا هو الأسلوب الأليق في الرفض». وقبل مغادرة مصر، عزّ على التونسي صلاح الدين بوجاه ألا يشارك في الزّفة، فأرسل من مطار القاهرة رسالة أودعها ما تركه صنع الله من «مرارة عميقة في نفسي، لأنه لم يكن عفويّاً بالمرة... ما كان عليه أن يفعل هذا".
أمام مبالغة العرب، كيف تكفل المصريون بابنهم المارق؟
سلوى بكر قالت إن المؤسسة الثقافية تؤدي دوراً تنويريّاً مهمّاً، وإن الوزير "مستنير... فنان مثقف، هذه حقيقة". كأن هذا إنجاز غير مسبوق لوزير للثقافة يفترض ألا يكون مثقفاً. سلوى بكر اتهمت صنع الله بأنه "يمثل نخبة متعالية على الحياة الثقافية في مصر، وعلى مشاكل الحياة". وتساءل محيي الدين محسب عميد كلية دار العلوم في جامعة المنيا: إذا كان رفض الجائزة "متجهاً إلى رفض السياق العربي العام فلماذا لا يتم رفض الكتابة أصلاً؟". وقال محمد حسن عبد الله إن سلوك صنع الله "كرسي في الكلوب... قنبلة صوت تزعج أكثر مما تؤثر... ربّ ضارة نافعة، فأمام الأجهزة الثقافية فرصة لتفحص آلياتها".
صنع الله إبراهيم لم يُختَزل في صرخة، بل ترك سجلاً أدبياً يوثق قرنين من حياتنا وينتظر قراءة متمرّدة
لم تتأخر السلطة عن الاستجابة لقضية فحص الآليات. تمضي الجوائز في مسارات أمنية. فائز غير مصري بجائزة ملتقى القاهرة للرواية صارحه المسؤول بأغرب كلام يمكن أن يسمعه فائز. اعترض جهاز الأمن على اسمين، "لكنه وافق على اسمك فوراً". الرجل لم يغضب. يحكي ويضحك. الفلوس مفتاح الفرج، والجائزة فلوس وأضواء. ورضا الأمن لا تطلع عليه إلا دائرة صغيرة تعرف سرّ الكهنوت.
حادثة صنع الله إبراهيم كشفت مثقفين يتبارون في مبادرات اعتذارية طوعية؛ فيحق للسلطة أن تمدّ رجليها، وأن تدعو الابن الضال إلى الانضواء تحت رايتها. وفي المحاكمة التي أقامتها جريدة الأخبار، وبدأت بالإدانة وانتهت بها، لم يحضر صوت صنع الله معلّقاً. غيبوا صوته؛ فكان الأعلى والأكثر حضوراً.
بعد وفاة صنع الله، تعلّق الكثيرون بحبال هذه الذكرى، صدّروا تلك الصرخة كأن الكاتب لم ينجز سواها. هذا استسهال كفاهم أعباء دراسة كاتب أهملوه في سنواته الأخيرة، ولو أتيح لباحث دؤوب من الإخلاص لأعاد اكتشاف أبعاد جمالية في منجزه الأدبي، السجِلّ الذي يوثق إبداعيّاً أكثر من مئتي سنة من حياتنا، في محاولات النهوض، وفي العلاقة بالآخر، فضلاً عن مغامرات فنية تنتظر ناقداً يتمرد على الدرس التقليدي.
تناسي الرصيد الأدبي وتصدير الموقف السياسي يعني هروب النقاد من النصوص، خوفاً من الهزيمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.