صنع الله إبراهيم... حائك الجُرح العربي

صنع الله إبراهيم... حائك الجُرح العربي

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 27 أغسطس 20259 دقائق للقراءة

"رفعتُ يدي المصابة إلى فمي، وبدأتُ آكل نفسي"

جاء رحيل الروائي المصري صنع الله إبراهيم في الثالث عشر من آب/أغسطس الجاري، كعنوانٍ صارخ لنهاية مرحلة تاريخية من عمر العالم العربي المتآكل والمسحوق بين قوى رجعية استبدادية وأخرى استعمارية مستعرة، حولت أجزاءً منه إلى حُطام، عبر الإبادة الجماعية لسكان غزة، مُوجهة آلة القتل إلى غيرها من البلدان العربية الغارقة في دمائها، والمنحولة من جوعها؛ فمن غير اللائق، أن نفصل بين رحيل الروائي اليساري وما يشهده العالم العربي من فجائع وانكسارات، وهو الذي بنى مشروعه الروائي الفريد، على مدار ما يقرب من ستة عقود، من لحم القضايا المصرية والعربية، وآلام وجِراح الإنسان الذي صار مغترباً ومهزوماً في وطنه، جراء "التوحش الرأسمالي، والاتجاهات النيوليبرالية، والقمع السلطوي والقهر الإجتماعي".

 تلك السياسات رصدها، وشرّحها صنع الله إبراهيم بقسوة توازي قسوة السلطة، في أعماله الروائية: "تلك الرائحة"، "اللجنة"، "ذات"، "شرف"، دون أن يبتعد عن الرواية كـ"فن" في المقام الأول، فصاحب "بيروت بيروت"، نجح نجاحاً مدوياً في الاختبار الصعب- الذي لا شك أن فشل فيه غيره من الروائيين- حيث كان صنع الله أمام تحدٍّ صعب: كيف يدفع بكل هذه التركة الثقيلة من القضايا الاجتماعية والسياسية في عمل روائي، دون أن تطغى الأيديولوجيا على الفن؟

ولد صنع الله إبراهيم لأسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المصرية في 24 شباط/فبراير عام 1937. واكبت سنوات مراهقته -كما قال نصاً في المقدمة التي صدر بها النسخة الإلكترونية لأعماله الكاملة- "نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء!... وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء، يجب أن تكون للجميع وبالمجان".    

شرّح صنع الله إبراهيم القمعَ السلطوي والرأسمالي بقسوة توازي قسوة السلطة، دون السماح للأيديولوجيا أن تطغى على الفن. هل سيتكرر مثل هذا الصوت الروائي؟

التحق صنع الله بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وهناك بدأ ينخرط في العمل السياسي، حيث انضم للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، وقبل أن يُنهي دراسته الجامعية، اعتُقل مع رفاقه في عام 1959، في حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعيين، شنها الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وتنقل بين سجون القلعة وأبو زعبل، حتى وصل إلى سجن "الواحات" سيئ السمعة، وهناك قضى ما يقرب من ست سنوات، حيث العمل في السخرة في لهيب الصحراء.

هناك من وقتٍ إلى آخر، كان يتلقى حصته من التعذيب، لكن الفجيعة الكبرى التي ظلت ماثلة أمام عينيه طوال عمره، هي رؤية صديقه المناضل شهدي عطية الشافعي، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت سياط الجلاد. سنوات السجن هذه، هي التجربة المركزية في حياة صنع الله إبراهيم؛ هي التي شكلته كاتباً وإنساناً، وقد وثقها في كتابه "يوميات الواحات"، حيث يقول: "السجن جامعتي الحقيقية، بين جدرانه، ترسخت قناعتي بأن الكتابة ليست مهنة فحسب، بل شكلاً من أشكال المقاومة".

في الزنزانة، كان صاحب "شرف"، يقرأ بنهم كل ما يصل إليه من كتب لكتاب مثل هيمنغواي، جورج لوكاش، فيرجينيا وولف، وغيرها من كتب المفكرين والسياسيين، وكان ثمة سؤال مُلح يراوده: كيف أكتب؟ وفي أي شكل روائي سأصب أفكاري؟ وكان الأمر المحسوم بالنسبة إليه، هو أنه كاتب ملتزم بقضايا وطنه "لا يُمكنني أن أنجو بنفسي بعيداً عن الواقع المشتعل، لا يُمكنني أن أتخلى عن القضايا الإنسانية الكبرى، فما يهمني هو الإنسان المهمش، المنسحق، تحت وطأة سلطة متجبرة". وقبل خروجه من المعتقل عام 1964، كان صنع الله قد نجح في تهريب مجموعة من القصص القصيرة بواسطة صديقه حسين عبد ربه الذي سبقه إلى الخروج بفترة قصيرة، نشرها في ما بعد في طبعة واحدة مع أول أعماله الروائية: "تلك الرائحة" (1966).

ثمة شيء مروع وصل إلى نخاع وروح صنع الله إبراهيم في ليل الزنزانة، تلقاه في صمت، دون أن يصرخ، هذا الشيء أشبه بـ "دويندي لوركا"، فالكاتب الشاب في زنزانته، "البق" يزحف على جسده ويمص دمه، وفجأه جاءه الصوت الخفي،"لابد أن تصل إلى الحقيقة"، وكي يصل إلى حقيقة ما في أعماله، كان لا بد أن يبتعد عن كل ما يُشوه الرؤية، إذاً لابد أن يكون صارماً، حاداً، أن يصل إلى هدفه دون أن يُشتت القاريء ويأخذه معه في رحلة لغوية مضنية لا تثمن ولا تغني من جوع، تحت هذه النار، المشتعلة في روح صاحب "نجمة أغسطس"، استوت وتشكلت السمات الفنية التي ميزت كتابة صنع الله على مدار رحلته الإبداعية؛ الجُمل القصيرة الحادة، سرعة الإيقاع، اللغة الحادة الصارمة والمتقشفة، السخرية السوداء، التهكم في أعلى مراحله، الذي يجعلنا نضحك ونبكي في آن"، ولأن الوصول إلى الحقيقة هو هدف صنع الله الأول والأخير، فقد ابتكر شكلاً روائياً، انتقده البعض، وهو دمج الوثائق من قصاصات صحف، وإعلانات وغيرها، في متن السرد، لكن هذه الوثائق لم يحدث أن نالت من فنية رواياته، بل أنها عززت وقوت من البناء الروائي المحكم.

مثلت أعمال صنع الله الروائية، توثيقاً روائياً، لفترات مفصلية في التاريخ المصري، واحتوت الذاكرة الجمعية للشعب المصري بجميع طبقاته، ورصدت وحللت، ونقدت بلذاعة التحولات السياسية والاقتصادية في مصر، وتأثيرها على الطبقات الاجتماعية، وأظهرت الفساد ككائن متوحش دميم، وتنقلت بين مختلف الوطن العربي، فوثقت تاريخ ثورة ظفار المغدورة في "عُمان" عبر مذكرات وردة المناضلة اليسارية التي حمل اسمها عنوان الرواية، ومن "عُمان" إلى رواية "بيروت بيروت" التي وثقت وتناولت أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، ثم اتجه صنع الله إلى بقاع أخرى من العالم في روايتيه "أمريكانلي"، و"برلين 69".

وذهب إلى التاريخ المصري في روايته "العمامة والقبعة" التي نبشت في فترة الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون. أما روايته "نجمة أغسطس"، التي انتهى منها قبل عودته من موسكو في السبعينيات، فقد وثقت أهم مشروع تنموي مصري في حقبة عبد الناصر وهو "السد العالي"، ولعل أهم ما حملته الرواية هو سؤال الراوي: كيف يصبح الإنسان جزءاً من البناء، لا مجرد نتاج له؟ ثم مضى إلى طرح أسئلة أخرى حول مدى تماسك هذا البناء، وإلى أين يتجه الإنسان المصري؟ وهل هذا البناء يحمل بذرة الاستمرار؟ لقد أفرغ صنع الله السد العالي من ماديته، وراح يُشكل من جوهر فكرته، التي اجتمع حولها أبناء الشعب، بناءً روائياً، وهذه قدرة فنية، تنطوي على عبقرية روائية فريدة.

تميّزت رواياته بجمل قصيرة وقوية، لغة صلبة لا تهادن، تحمل سخرية سوداوية تعكس مرارةَ الواقع العربي الممزق

تقف "تلك الرائحة" درة على رأس أعمال صنع الله إبراهيم، رغم أنها عمله الأول الذي تعرض للمصادرة، ونال منه مقص الرقيب مرات عديدة. وتحتوي على جزء من حياة الكاتب في السجن، وترصد حالة الاغتراب الذي عانى منها السجين فور الإفراج عنه، والتحولات الاجتماعية والطبقية، والسياسية، بلغة حادة وإيقاع سريع، وغضب مكتوم، كل ذلك مغلف بحالة من الضياع والتمزق. قال عنها القاص المصري يوسف إدريس: "هنا في هذه الرواية القصيرة لخص صنع الله إبراهيم ليس فقط فترة مهمة من حياة البطل، بل فترة مهمة من حياة جيله. ذلك التلخيص الساحر المركز شديد المفعول".

ولعل روعة هذه الرواية لا يكمن فقط في الرصد والتوثيق، بل في الإحساس، الذي نجح الكاتب في أن يُسربه إلينا بأجواء هذه الحقبة الستينية ومذاقها، وما تركته في نفوس الشخصيات؛ نلمح الفتاة ذات الإعاقة وهي تمشي بمحاذاة القطار، ونرتعب من أن تُلقي بنفسها، ونحس بالإهانة والعار، مع البطل الكاتب المثقف، وهو يأخذ من السيدة الثرية قطعة من القماش لكي يصنع منها "بيجامه"، ونحس معه بالرعب، وهو يلهث مسرعاً، حتى لا يعود إلى البيت متأخراً عن الموعد المحدد له من جانب الجهاز الأمني. وقبل كل ذلك، نشعر معه بالضياع القاتل وهو خارج من المعتقل، ولا يعرف أين يذهب؟ لأن هناك شيئاً كبيراً قد ضاع وانكسر إلى الأبد.

وفي روايته "اللجنة" التي تقترب من أجواء كافكا الكابوسية، تتكثف السخرية السوداء للكاتب، ويصل الغضب إلى ذروته، عبر رمزية محكمة؛ فثمة لجنة مكونة من مجموعة من العجائز الفاسدين، ورجال الاستخبارات، تتحدد مهمتها في تحديد مصائر مجموعة من المتقدمين لاجتياز اختبارات غامضة. أما اللجنة فهي توجه إليهم أسئلة مهينة، تصل إلى مستوى القدرات الجنسية، وكل عضو من أعضائها أمامه ملف عن الشخص المتقدم للاختبار، يحتوي على أدق تفاصيل حياته.

تصور اللجنة حالة الامتهان والذل الذي تعرض لهما الطامحون من أبناء الشعب المصري، في مقابل صعود طبقة المحاسيب الفاسدة، لتحلّ محل الطبقة الوسطى التي تآكلت مع تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس أنور السادات. سياسة الانفتاح تلك، ستكون محور عمل آخر لصنع الله هو "ذات" الذي تحول إلى مسلسل تليفزيوني، حقق نجاحاً هائلاً، فـ"ذات" امرأة مصرية عادية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، تتقاطع حياتها الشخصية مع التحولات الاجتماعية السياسية والاقتصادية التي عاشتها مصر في ثلاث فترات متلاحقة، بداية من عصر عبد الناصر وانتهاءً بعصر مبارك.

بعد حياة أدبية وسياسية حافلة، رفض خلالها جائزة الرواية العربية، ووقف مندداً بسياسات الحكومة الداخلية والخارجية، رحل صنع الله إبراهيم عن عمر ناهز 88 عاماً، تاركاً إرثاً أدبياً هائلاً، منحازاً لحرية الإنسان، ومزعجاً للسلطات القمعية الاستبداية. إنه بالأحرى، الإرث الحاضن للذاكرة العربية الجريحة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image