"عزوة" الأبناء الذكور في غزّة... ما الذي غيّرته فينا الحرب؟

حياة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 28 أغسطس 20257 دقائق للقراءة

لم تكتفِ الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة بتدمير المباني وفقدان ضحايا كل لحظة، بل امتدت لتشمل "العزوة"، أي الأبناء الذكور الذين يُمثّلون السند والامتداد في المجتمع المحافظ، ولا يعني فقدانهم غياب أفراد من العائلة فقط، بل تغيّر مكانة الرجل ودوره الاجتماعي، وإعادة تشكيل لمفهوم القوة والهوية الأسرية.

في بيت صغير يطلّ على أمواج البحر في مخيم الشاطئ غرب غزة، كانت تعيش حنان بكر (58 عاماً) حياة بسيطة تملؤها تفاصيل أبنائها الأربعة، لم تكن ترى فيهم مجرّد أولاد، بل كانوا سندها وعزوتها يعينونها وسط الإبادة الإسرائيلية.

فقدت الثلاثة

كل صباح، يخرج الكبير سامر (30 عاماً) لشراء ما تحتاجه والدته من السوق، ويذهب محمد (27 عاماً) لتعبئة جالونات المياه من أقرب نقطة تعبئة، بينما ينشغل الثالث عبد الله (22 عاماً) في جمع الحطب لمساعدة والدته في إشعاله تحت قدر الطهي. كانت خطواتهم في البيت أشبه بموسيقى يومية تحفظ لها إيقاع الحياة، وكانت أصواتهم وضحكاتهم تملأ المكان دفئاً يغنيها عن أي طقوس أخرى.

لكن في ليلة واحدة تغيّر كل شيء. كان الليل هادئاً على غير عادته، جلست مع أبنائها يتسامرون قبل النوم، دقائق فقط كانت تفصلهم عن السكينة، حين اخترق صاروخ إسرائيلي المنزل وتحول البيت إلى ركام. لم تسقط حينها أعمدة المنزل بالنسبة للأم بل سقطت أعمدتها الثلاثة: أبناؤها.

فقدان الأبناء الذكور في غزة لا يعني خسارة أفراد فقط، بل انهيار "العزوة" بما تمثله من سند امتداد عائلي في مجتمع كمجتمع غزّة، ما يحوّل الفقد الفردي إلى صدمة عامة لمدن تخسر شبابها بالجملة

تقول حنان: "عندما شاهدت جثث أبنائي الثلاثة ممدّدة أمامي لأودّعهم، وقفت مشلولة عاجزة حتى عن البكاء. شعرت أن صوتي انطفأ وكأن روحي دُفنت معهم. لم أبدِ أي ردة فعل، احتضنت من تبقّى لي، الصغيرين عبد الرحمن وسارة، وأنا في حالة لا وعي".

تكمل: "فقدت عزوتي كلها، لا حياة كما كانت قبل. أنهض بالصباح وأنادي عليهم أحاول إيقاظهم من نومهم، أمشي في نفس الطريق الذي كان يمشي فيه عبد الله بالشارع، أحتضن جالونات المياه التي كان يقوم بتعبئتها، وأحياناً أستيقظ ليلاً أصرخ عليهم. كنت أتمنى أن أزوّجهم وأرى أبناءهم حولي في المنزل يركضون وينادونني جدتي".

لم تعد لحنان في البيت سوى ابن وابنة يحاولان أن يكونا عزوةً لها، لكنهما أصغر من أن يملآ الفراغ الهائل الذي تركه إخوتهم. وتشير لرصيف22 بقولها: "عندما أشاهد أماً مع أولادها أتذكر أبنائي وأشعر بالحسرة. كبّرتهم وعلّمتهم حتى صاروا شباباً وراحوا مرة واحدة".

ورغم أن الجيران يواسونها، ويقولون لها: "احمدي الله أن عندك ابناً وابنة"، إلا أنها تعرف أن لا أحد يمكنه أن يعوّضها عن فقدان ثلاثة ركائز ووجوه كانت تشكّل حياتها كلها.

ودعت عزوتي وسندي

في الموروث الشعبي الفلسطيني، يقولون "الولد عزوة"، في إشارة إلى أن الابن ليس مجرد فرد في العائلة، ولا تُختزل في الأبناء الذكور فحسب، بل تشمل أيضاً الإخوة وأبناء العمومة وكل من يقف إلى جانب العائلة في مواجهة تقلبات الحياة. وفي مجتمع غزة تحديداً، "العزو" هي الهيبة التي تمنح الفرد شعوراً بالأمان وتثبّت مكانته داخل جماعته.

كما تمثل الامتداد الطبيعي للعائلة واستمرارية اسمها عبر الأجيال، ولهذا ارتبطت في الوعي الشعبي بالقدرة على الصمود، حتى صار غيابها مرادفاً للضعف. ومن هنا يأتي جانب من مرارات الحرب في غزة، إذ بدّدت عزوات كاملة.

وفي مشهد آخر لا يقل فداحة، اهتز الشارع الغزي على وقع استهداف الاحتلال الإسرائيلي لستة أبناء دفعة واحدة من عائلة المواطن زكي أبو مهادي بتاريخ 13 نيسان/أبريل من العام الحالي، خلال ظهوره في صلاة الجنازة وهو يقف أمام أجساد أبنائه المسجّاة صفاً واحداً، شكّلت صورة موجعة تختزل معنى فقدان "العزوة".

ازدادت أهمية "العزوة والسند" وسط الحرب، مع انهيار البنى التحتية والمجتمعية، وغياب الأمن، وصارت فكرة الابن الذكر تمثل الحماية المباشرة لكثير من العائلات.

لم يكن أبو مهادي حينها يودّع أبناءه فقط، بل كان يشيّع هيبته وسنده وامتداده، في مشهد يلخّص كيف تحوّل غياب الشباب إلى انهيار اجتماعي عميق يتجاوز حدود الفقد الفردي ليصيب جوهر العائلة الفلسطينية كلها.

فكيف يمكن لمجتمع فقد رموزه المادية والمعنوية أن يعيد ترميم ذاته؟ عندما تنطفئ عزوته تبدو الإجابة أصعب من أي وقت مضى بالنسبة للغزي. وهذا ما يفسّره الأخصائي الاجتماعي درداح الشاعر في حديثه لرصيف22، إذ يقول: "إن مجتمعنا الغزّي يعتبر فقدان الأبناء الذكور صدمةً وجودية تهزّ العائلة في صميم كيانها، فالذكور في ثقافتنا ليسوا مجرد أفراد، بل هم حملة العزوة وحُرّاس السند الاجتماعي".

ويشير إلى أن الصدمة هنا ليست فردية فحسب، بل مجتمعية بامتياز، ففي مجتمع ذكوري الطابع يعتمد بشكل كبير على الرجال في الحماية والكفاح، يصبح الفقد جرحاً يدمي الكيان الجمعي، حتى أدعية النساء الكبيرات للحوامل لم تخلُ من هذا الأثر: "يرزقكِ بالذكور".

ويضيف: "يشعر الأبوان بحالة من اليتم المزدوج: يتم على أبنائهم، ويتم على هويتهم الاجتماعية. الأب يفقد الحماية، والأم تفقد السند الذي كان سيؤمّن مستقبلها ومستقبل بناتها في مجتمع لا يزال يربط الحماية بالذكورة. هذه الصدمة تولّد شعوراً عميقاً بالضياع والخوف من المستقبل، بل وتُشعر العائلة بالهشاشة أمام عواصف الحياة".

فقدنا الماضي والمستقبل

في زاوية دارهما في مخيم النصيرات وسط غزة، لا يزال الزوجان الخمسينيان نائلة وزكريا عبيد يتجرعان مرارة فقد أربعة من أبنائهما ذهبوا ضحية الحرب: أمل وأحمد ويحيى ومهند. لم يتبقَّ سوى صورهم على الجدران، وذكريات تؤرّق الأبوين.

تضمّ نائلة صورة مهند (14 عاماً) إلى صدرها، "آخر العنقود" كما تسميه، الذي سقط عليه صندوق إسقاط جويّ بينما كان يبحث عن لقمة العيش. تقول بلهجةٍ تختلط فيها الغصّة بالحسرة: "كنت أتباهى بهم في الأفراح. كانوا كل شيء في هذه الحياة. أنا تربّيت وحيدة بلا عائلة، فصاروا أشقائي وأصدقائي وحتى والدَيّ".

الحرب بدّدت عزوات كاملة، فحملت النساء نفس الأعباء الاجتماعية والاقتصادية، التي طالما اعتُبرت "ذكورية"، مثبتات أن الحرب لا تفرق بين الجنسين، وأنها قادرات على قيادة الأسر وسط أبشع ظروف الفقد والدمار

بدأ الفقد برحيل أمل مع زوجها وأطفالها في قصف إسرائيلي، ثم تبعها أحمد الذي كان يُلقّب بـ"الرجل الأنيق" لوسامته وترتيبه. لم يمهلهم القدر طويلاً حتى جاء دور يحيى، الذي قتله الجيش الإسرائيلي وهو يجمع الحطب، وبعدها بـ28 يوماً استُشهد الصغير مهند.

وبينما توقفت نائلة عن حديثها، يتابع زوجها زكريا بقوله: "المنزل كان مليئاً بضحكاتهم، الآن لا أسمع إلا صوت القصف والقذائف ونحيبنا عليهم. أحياناً أجلس على الباب وأنادي أصدقاءهم، كأنني أتخيّلهم قادمين".

يقول: "في غزة، الابن هو السند. عندما فقدناهم، شعرنا أننا صرنا عُرضة للضعف". لكن نائلة ترفض هذه الفكرة اليوم: "لو كانوا هنا، لقالوا: 'أمي قوية كفاية'". تكمل: "أبنائي دائماً كانوا يقولون لي: 'ماما، إحنا عزوتك'". أما زكريا، فيختصر المأساة بكلمات قليلة: "اللي فقدناه مش بس أولاد.. فقدنا الماضي والمستقبل".

وبالعودة إلى تعقيب الأخصائي الاجتماعي، يبدو أن الحرب القاسية فرضت تحولات جذرية في هذه الصورة النمطية للعزوة.

اليوم، نرى عشرات العائلات التي فقدت جميع رجالها، واضطرت النساء إلى حمل أعباء كانت تُعتبر "ذكورية" بحتة في نظر المجتمع، خاصة فاقدات المعيل اللواتي أثبتن أنهن قادرات على قيادة الأسرة بصلابة تفوق كل التوقعات. ويوضح أن المفارقة هنا تكمن في أن المجتمع الذي كان يعتمد كلياً على الرجال، وجد نفسه يعتمد على نساء يصنعن المعجزات يومياً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image