لم أكن أبحث عن شيءٍ معيّن حين وقع على مسامعي، في ليلةٍ ربيعية، صوت الشيخ إمام، وهو يغني "إذا الشمس غرقت". سرعان ما انتقلت إلى أغنية "الهدل"، لياس خضر، وكأنني أنتقل بين عالمين مختلفين تماماً في دقائق قليلة.
حملتني الموسيقى من شوارع القاهرة ونهر النيل، إلى أزقّة بغداد وضفاف دجلة، فتداخلت مشاعر الفرح والحزن بوتيرة واحدة، ورحت أتساءل: كيف يمكن لإنسانٍ واحد أن يجمع بين هذين العالمين المتناقضين؟
كان صوت الشيخ إمام، بعصاه ونظّارته السوداء، يصرخ في وجوه الناس من قلب القاهرة، بينما كان صوت ياس خضر، المُترَف بالحزن، يتسلل إليّ كنسيم نهر دجلة الهادئ، فيروي قصص الحروب والجراح التي لا تنتهي.
وبرغم أنه لا رابط ظاهراً بين الأغنيتين، لا في اللهجة ولا في الأسلوب الغنائي، إلا أنّ هناك رابطاً داخلياً أعمق، هو مزيج من النصر والهزيمة يتنقّل بين قلبي وعقلي. لم أحتَج إلى ترجمة، فقد صارت الموسيقى مرآةً تعكس داخلي، وطريقاً يرتّب لي ذكرياتي.
حملتني الموسيقى من شوارع القاهرة ونهر النيل، إلى أزقّة بغداد وضفاف دجلة، فتداخلت مشاعر الفرح والحزن بوتيرة واحدة، ورحت أتساءل: كيف يمكن لإنسانٍ واحد أن يجمع بين هذين العالمين المتناقضين؟
صوت العراق الحزين
ياس خضر، المولود في النجف عام 1938، يبدو كأنّه نهر ثالث للعراق. لم يكن صوته مجرد صوتٍ فرديّ، بل كان تجسيداً لوجعٍ جماعي، يعكس الحزن العربي المشترك.
أغانيه، مثل "مرّينا بكم حمد"، تحمل في طياتها أكثر من مجرد حزنٍ شخصي. هي تعبير عن شعوب خذلتها الحروب، وعن أوطان دُمّرت على أيدي الطغاة.
لم يكن ياس خضر، يغنّي للفرد فحسب، بل كان يروي قصة وطنٍ ضاع، مدينة خُذلت، وشعبٍ تفرّق بين الحروب والهجرات. صوته كان سجلّاً حزيناً للذاكرة الجماعية، للأماكن التي فقدناها، وللناس الذين رحلوا.
صوت الاحتجاج والتغيير
أما الشيخ إمام، الذي وُلد في قريةٍ مصرية عام 1918، فقد استخدم صوته لا كأداةٍ للطرب، بل كوسيلةٍ للاحتجاج على الظلم والاستبداد.
كان يغنّي ليُوقظ الناس من سباتهم، لا ليُسعدهم. يقاوم بكلماته، ويشقّ الطريق ضد الطغيان.
حملت أغانيه بعداً ثورياً، تماماً كما كانت أخبار الثورات العربية تنتقل همساً في البيوت. لم يكن يغنّي ليُمتع، بل ليُثير الوعي، ليجعلنا نُفكر في واقعنا، في ظلامنا، وفي ما يجب تغييره.
ما جمعهما أكثر ممّا فرّقهما
برغم كل الاختلافات الظاهرة بين الشيخ إمام وياس خضر، سواء في اللهجة أو الأسلوب الموسيقي، إلا أنّ ما يجمع بينهما أعظم: كلاهما غنّى ليُعبّر عن الوجدان الجمعي للشعوب، لا للطرب أو المتعة فحسب.
في أغانيهما، نجد صوتَين صادقَين يعكسان الواقع، المعاناة، والحلم المشترك لشعوب عاشت الحروب والانكسارات.
كان إمام يصرخ في وجه الاستبداد، بينما خضر ينوح في صمت، ويعكس الحزن العميق لشعوب جُبلت على الفقد.
برغم كل الاختلافات الظاهرة بين الشيخ إمام وياس خضر، سواء في اللهجة أو الأسلوب الموسيقي، إلا أنّ ما يجمع بينهما أعظم: كلاهما غنّى ليُعبّر عن الوجدان الجمعي للشعوب، لا للطرب أو المتعة فحسب.
بين الثورة والحزن… تجربة سورية
كمواطنةٍ سورية عاشت الحروب والخذلان، لم يكن غريباً أن أجد نفسي أرقص مع انتصار الشعب صباحاً، ثم أعود إلى خيبة الأمل مساءً.
في تلك اللحظات المتناقضة، كان الشيخ إمام وياس خضر، يمثّلان لي توازناً داخلياً. الأول يعبّر عن الثورة والأمل في التغيير، والثاني يشير إلى الحزن العميق الذي يثقل القلوب.
كان صوتاهما مرآتَين تعكسان في كل مرة جزءاً من واقعنا: أحدهما يصرخ فينا أن نتغيّر، والآخر يذكّرنا بأننا ما زلنا نعيش في جرحٍ مفتوح.
الموسيقى لا تعترف بالحدود
أغاني الشيخ إمام وياس خضر، لم تكن بحاجةٍ إلى جوازات سفر لتصل إلى سوريا، أو إلى أي مكانٍ آخر. كانت الموسيقى، كما الذاكرة، تتجاوز الحدود الجغرافية.
لم يكن يهمّني من أين جاء الصوت، بقدر ما كان يعنيني ما يمثّله هذا الصوت في لحظاتي، في حزني، وفي طموحاتي وألمي.
حين أسمع صوت إمام أو خضر، لا أسمع أغنيةً فحسب، بل أسمع نفسي، أسمع تاريخي، وأسمع وطناً يعيش الهزائم والانتصارات في آن واحد معاً.
على ضفّتَي القلب… إمام وخضر
برغم أنّ الشيخ إمام وياس خضر، لم يجتمعا في دويتو غنائي، إلا أنهما اجتمعا في وجداني. ولا أشعر بالتناقض، بل بالاكتمال.
يعكسان جزءاً من هويتي، من صراعي اليومي بين الأمل والحزن. فبين صرخة إمام ونوحة خضر، وجدت توازناً نادراً في فوضى مشاعري.
أغاني الشيخ إمام وياس خضر، لم تكن بحاجةٍ إلى جوازات سفر لتصل إلى سوريا، أو إلى أي مكانٍ آخر. كانت الموسيقى، كما الذاكرة، تتجاوز الحدود الجغرافية.
ذاكرة عربية من ضفاف النهرَين
من القاهرة إلى بغداد، من ضفاف النهرَين، لا تزال الأغاني تُغنّى وتعيش فينا.
بين صرخة إمام في وجه الطغاة، وحنين خضر إلى وطنٍ ضاع، نجد أنفسنا نعيش بين الألم والفرح، بين الثورة والانكسار.
في النهاية، هذه الأغاني ليست مجرّد ذكريات، بل هي جزء حيّ من هويتنا، من الوجدان العربي الذي لا يتوقف عن الغناء.
"همّا مين؟ وإحنا مين؟"؛ يسأل الشيخ إمام، فيُجيبه ياس خضر، دون قصد: "مرّينا بيكم حمد... وإحنا بقطار الليل".
كلماتٌ تشقّ الطريق من ضفّتَي نهرٍ إلى ذاكرةٍ واحدة، تتقن مواصلة الغناء.
وفي هذا التوازي الخفيّ، نجد عزاءً، نجد وطناً داخلياً لا تهدمه الحروب، بل تصقله الذاكرة والصوت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 7 ساعاتيا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ يوممحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا
Aisha Bushra -
منذ يومينA nice article,I loved it..
رزان عبدالله -
منذ 5 أيامشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ 6 أيامترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!
Naci Georgopoulos -
منذ أسبوعOrangeofferis a convenient platform for finding the latest promo...