لم تهدأ محافظة السليمانية، ثانية كبرى محافظات إقليم كردستان العراق، منذ ليلة أمس الخميس 21 آب/ أغسطس 2025، وحتى صباح اليوم، جرّاء عمليات عسكرية عنيفة شنّتها القوات الأمنية المحلية، وسط منطقة سكنية في مركز المحافظة، استُخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والدبابات وإطلاق النار على فندق "لاله زار"، لاعتقال غريم سياسي.
بدأت هذه العملية بهدف اعتقال رئيس حزب "جبهة الشعب"، لاهور شيخ جنكي، وهو ابن عم رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بافل طالباني، الذي قاد الهجوم. في الصباح الباكر، اعتُقل شيخ جنكي وعدد من عناصره، وفقاً لمذكّرة قضائية بحسب ما ذكرته مصادر رسمية لوسائل إعلام كردية. في المقابل، نفت مصادر إعلامية مقرّبة من حزب "جبهة الشعب"، وجود مذكرات قضائية رسمية.
إلى ذلك، أثار الاعتقال الذي تم بعد مواجهات مسلّحة عنيفة، سبقها تطويق عسكري لموقع إقامة شيخ جنكي وعائلته في فندق "لاله زار" في السليمانية، العديد من التساؤلات عن حجم الفلتان الأمني في المحافظة ومسؤولية الحكومة في بغداد عما يحدث، وما تعكسه هذه الواقعة بوجه عام، وهو ما نناقشه في هذا التقرير.
كيف بدأت القصة؟
يشرح الباحث في الشأن الكردي، جوان سوز، لرصيف22، أنَّ "ما حصل في السليمانية خلال الساعات الأخيرة هو امتداد لما جرى في صيف 2021، عندما قامت السلطات الأمنية في المدينة باحتجاز أموال القيادي آنذاك في الاتحاد الوطني الكردستاني، لاهور شيخ جنكي، والاستيلاء عليها، حيث تم طرد الأخير في ذلك الحين من الحزب".
"بافل طالباني لا يريد أي خصوم أو معارضين سياسيين في السليمانية"... خصومة سياسية تتحوّل إلى معركة بالدبابات والأسلحة الثقيلة في العراق. ما القصّة؟
ويضيف: "شارك شيخ جنكي في العام الماضي، في الانتخابات النيابية لإقليم كردستان العراق، وحصل على مقعدين وبات يشكّل خصماً رئيسياً وأساسياً لبافل طالباني، خاصّةً أنَّ شيخ جنكي قضى سنوات برفقة الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني، لذلك يحاول زعيم الاتحاد الوطني الحالي (بافل)، التخلّص منه بأي طريقة ممكنة"، مبرزاً أنَّ الاعتقال جاء بعد أيام من اعتقال معارض آخر، هو شاسوار عبد الواحد (رئيس "حركة الجيل الجديد")، مستخلصاً أنّ "بافل طالباني لا يريد أي خصوم أو معارضين سياسيين له في السليمانية".
بعد استبعاد شيخ جنكي، استمرت العلاقة بين الطرفين بالتوتّر والتصعيد السياسي، وذلك في موازاة التوتّر المتصاعد بين قوى المعارضة الكردية والاتحاد الوطني الكردستاني، حيث تم اعتقال رئيس أكبر كتلة برلمانية معارضة في الإقليم، عبد الواحد، قبل أيام، في تهم قالت عنها أخته النائبة في البرلمان العراقي، سروة عبد الواحد، عبر إكس، إنَّها "وقوفه مع شعبه وقول كلمة حقٍّ بوجه حاكم ظالم".
الخلافات طالت أيضاً علاقة "الاتحاد الوطني" في الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعّمه مسعود بارزاني، فكانت أبرز فصول هذا الصراع حادثة اغتيال الضابط في وكالة الحماية والمعلومات التابعة لمجلس أمن إقليم كردستان، هاوكار جاف، في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، بعبوتين لاصقتين تحت سيارته، بعد أنَّ انشق عن "الاتحاد الوطني"، وانضمّ إلى "الديمقراطي الكردستاني"، قبل أن يعلن مجلس أمن كردستان، في بيان، أنَّ مفارزه الأمنية اعتقلت ستة متهمين ضمن خليّة مؤلَّفة من 10 أشخاص كانت قد خطّطت للعمل الإرهابي بأمر مباشر من مسؤول "مكافحة الإرهاب" في السليمانية، وهاب حلبجي، الذي يتبع لبافل طالباني.
ليلة من "الحرب العنيفة"
ليلة أمس، طوّقت قوات عسكرية خاصّة تابعة لبافل طالباني محل إقامة شيخ جنكي، مطالبةً إياه بتسليم نفسه. لكنه رفض الاستسلام واختار خيار المقاومة والمواجهة المسلّحة، قبل أن تبدأ قوات بافل طالباني بهجوم مباشر بالرصاص وقذائف الدبّابات على فندق "لاله زار" الذي يتواجد فيه شيخ جنكي وعائلته، قابلته مواجهة واستهداف بالطائرات المسيّرة لمنزل بافل، ليستمر القتال حتى الصباح واعتقال شيخ جنكي، وإخوته ومقاتليه، وعضوة حزب "جبهة الشعب"، ژینو محمد، التي كانت عضوةً في قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني سابقاً.
خلال الاشتباك، أشارت مصادر إعلامية مقرّبة من شيخ جنكي، إلى أنَّ رئيس ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، اتصلا بشيخ جنكي وطالباه بتسليم نفسه، لكن الأخير بقي مصرّاً على موقفه وظهر في مقاطع مصوّرة قال فيها إنَّه لن يسلّم نفسه واعتذر إلى الشعب الكردي عن تقصيره، في ما رآه البعض رسالة وداع بعدما أحسّ بأنّ اعتقاله قريب.
وبعد العملية، ظهر بافل طالباني بملابس عادية في صورة تبدو أنّها خلال مجلس عزاء، بعد ورود معلومات عن إشرافه شخصياً على العملية، فيما تعهّد في بيان رسمي: "سيتم تعويض جميع المنازل والأماكن التي تضرّرت جراء الأحداث التي وقعت ليلة أمس في سرجنار. المخالفون للقانون رفضوا تسليم أنفسهم، ما أدّى إلى وقوع اشتباكات مسلّحة. وبعد ساعات عدة، تمت السيطرة على لاله زار، وتم توقيف المتهمين، وعلى رأسهم لاهور جنگي بورهان وإخوته".
من جهتها، أعلنت المديرية العامّة لمكافحة الإرهاب في إقليم كردستان، في بيان رسمي اليوم، مقتل آري الشيخ سعد طالباني، خلال "فرض القانون وتنفيذ قرار القاضي توقيف عدد من المخالفين للقانون، حيث نال شرف الشهادة"، مع التأكيد على أنّ "دم الشهيد آري لن يذهب هدراً، وأنَّ المخالفين للقانون سينالون أشدّ العقوبات، وكان توقيفهم مجرد المرحلة الأولى من معاقبتهم". كما أعلنت قناة "الثامنة" الكردية، عن مقتل ثلاثة من عناصر قوات الأمن، في الاشتباكات، وإصابة عدد آخر وهم يتلقون العلاج.
تقول الباحثة في الشأن السياسي، نوال الموسوي، لرصيف22، إنَّ ما يحدث "صراع زعامة، خصوصاً بعد استبعاد بافل منافسيه جميعهم من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني"، منتقدةً حكومتَي بغداد وأربيل اللتين "لطالما غضّتا الطرف عن قيادة بافل وسيطرته على محافظة السليمانية، خشية التصادم معه كونه مدعوماً من إيران بقوة"
أين الحكومة؟
من جانبه، قال الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، صباح النعمان، إنَّه "بعد الأحداث المؤسفة التي وقعت في محافظة السليمانية، تؤكد الحكومة الاتحادية على ضرورة التزام الجهات المختصة باتخاذ الإجراءات القانونية والقضائية وفقاً لأحكام الدستور، وبما ينسجم مع مبادئ العدالة وسيادة القانون"، مؤكداً أهمية أن "تنفَّذ هذه الإجراءات بحيادية تامة وشفافية كاملة، بعيداً عن أي مظاهر مسلحة أو محاولات لترهيب المواطنين، فإنفاذ القانون يجب أن يتم بما يضمن صون كرامة الإنسان وحفظ حقوقه".
أمّا رئاسة إقليم كردستان، فأكّدت في بيان مقتضب، على سيادة القانون وحماية أمن محافظة السليمانية وسلامتها، وأوضحت أنَّه "في أعقاب الحادثة المؤسفة التي وقعت صباح اليوم في السليمانية، والتي أودت بحياة عدد من الضحايا، فإننا نؤكد على سيادة القانون وحماية أمن المدينة وسلامتها وحماية منازل المواطنين. يجب حلّ جميع الخلافات بالقانون والسلم".
تواصل رصيف22، مع عدد من المصادر، منها النائب عن "الديمقراطي الكردستاني"، ماجد شنكالي، الذي اكتفى بالقول إنَّه ليست لديه معلومات عن "الأحداث"، بينما امتنعت مصادر أخرى عن الردّ أو التصريح، خصوصاً الأطراف التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، حيث وردت إلى معدّ التقرير معلومات بأنَّ هناك قراراً بعدم التصريح بشأن الحادث، وحصر الحديث عنه في بافل طالباني.
وترى الباحثة في الشأن السياسي، نوال الموسوي، خلال حديثها إلى رصيف22، أنَّ ما يحدث لا يعدو كونه "صراع زعامة، خصوصاً بعد استبعاد بافل جميع منافسيه من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ما دفع بلاهور إلى تشكيل حركة حزبية سياسية، بعيداً عن الاتحاد المتنفّذ والمتفرّد بالقرارات من قبل بافل طالباني وسيطرته على جميع مقدرات المحافظة من منافذ حدودية رسمية وغير رسمية، كما أنَّ طرفَي بغداد وأربيل (أي الحكومتين) لطالما غضّا الطرف عن قيادة بافل وسيطرته على محافظة السليمانية، خشية التصادم معه كونه مدعوماً من إيران بقوة".
وتلفت الموسوي إلى أنَّ "دور إيران في هذه الأحداث يتّضح أيضاً من خلال حلفائها في العراق، الذين يسوقون الأحداث بالالتفاف على الوقائع. لاهور شيخ جنكي مدعوم أمريكياً، وهذا يجعل منه خصماً لقوى الإطار التنسيقي حليفة بافل طالباني، الحاصل على كل الامتيازات من قبلها، ولكنه عدوّ للأتراك".
"الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة بافل فقد شعبيته، والتنافس الانتخابي على الأبواب يدلّل على مخاوف من قبل بافل لصعود قوى سياسية جديدة، لذا فإنَّه يشنّ حملة اعتقالات على منافسي حزبه في السليمانية قبل شهرين من الانتخابات. أمَّا ملخص الأحداث بمنظور عام، فما حدث فيه تداعيات مستقبلية خطيرة على النظام السياسي العراقي وإمكانية نقل هذا المشهد بين قوى أخرى وارد بقوّة"، تشدّد الموسوي.
في الأثناء، ويشير مصدر مطلع تحدّث إلى رصيف22 مشترطاً عدم كشف هويته، إلى أنَّ "ما حصل هو جزء من صفقة داخلية بين بافل طالباني ورئيس وزراء إقليم كردستان العراق، مسرور بارزاني، حيث يرفع بارزاني بموجبها الدعم عن جنكي في مقابل رفع بافل الدعم عن أدهم بارزاني المقيم في السليمانية والذي يناهض بيت مسعود بارزاني وسياساتهم".
المشهد في كردستان لا يختلف عن نظيره في بغداد، ومع الاستعدادات الجارية لإجراء الانتخابات البرلمانية في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، تتزايد الصراعات والأزمات بشكل متتالٍ، حيث أعلنت مفوضية الانتخابات عن قرارات لافتة استبعدت من خلالها مئات المرشحين للانتخابات بتهم مختلفة، من بينهم رموز سياسية كبيرة مثل صالح المطلك وأحمد الجبوري (الملقب بأبو مازن) ويزن مشعان الجبوري، بالإضافة إلى استبعاد عدد فاق المئة من مرشحي الإطار التنسيقي الشيعي بتهمة الانتماء السابق إلى حزب البعث، ما عزّز من الخطاب التحريضي بين الجهات السياسية المتنافسة.
"دور إيران في هذه الأحداث يتّضح أيضاً من خلال حلفائها في العراق، الذين يسوقون الأحداث بالالتفاف على الوقائع. لاهور شيخ جنكي مدعوم أمريكياً وهذا يجعل منه خصماً لقوى الإطار التنسيقي حليفة بافل طالباني، الحاصل على كل الامتيازات من قبلها، ولكنه عدوّ للأتراك"
يقول المراقب والمحلل السياسي شاهو القرة داغي، لرصيف22، إنَّ "ما جرى في السليمانية كان نتيجة مخاوف بافل طالباني من ابن عمه لاهور شيخ جنكي، الذي أبعده عن رئاسة الحزب سابقاً وكان يشعر أنَّه يشكّل مخاطر حقيقيةً على نفوذ الاتحاد الوطني داخل السليمانية".
ويضيف: "قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني قرّرت هذه المرة إنهاء عقدة لاهور شيخ جنكي وإخوانه، عن طريق اللجوء إلى العنف والقوة، بحجّة وجود مذكرة إلقاء قبض بحقه بتهمة تخريب الأمن والاستقرار، واستخدمت كل أنواع الأسلحة لدفعه إلى الاستسلام تحت زخّات الرصاص والقذائف".
ويشير القرة داغي، إلى أنَّ هناك مخاوف من تكرار هذه التجربة مع شخصيات وقيادات أخرى في المستقبل، لافتاً إلى أنَّ هناك أطرافاً خارجيةً قد تستفيد من هذه الحالة وتدفع باتجاه إثارة المشكلات، وزيادة الشرخ، واستغلال هذه الأحداث لنشر الفوضى وخلق الفتنة، كما تفعل منصّات إعلام الفصائل المسلّحة وفعلت سابقاً مع حادثة خورشيد هركي في أربيل.
خلاف بين أبناء العمّ أرهب ساكني مدينة السليمانية الهادئة، وفاقمته الضغوط الخارجية والتحالفات، وعزّزته منصات فصائلية كالتي تتبع الحليف الأول لبافل طالباني، زعيم ميليشيا "عصائب أهل الحق"، قيس الخزعلي، مع قرب إجراء الانتخابات البرلمانية وتصاعد الخلافات السياسية حولها والجدل حول إقرار قانون الحشد الشعبي الذي من شأنه أن يعزّز قانونية الفصائل المسلّحة، في مشهد يمكن وصفه بأنّه تثبيت للنفوذ الإيراني في العراق، وتوسيع لمناطق النفوذ لتشمل إقليم كردستان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.