شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بين بغداد وأربيل... جذور الصراع النفطي وتطلعات إلى ما بعد

بين بغداد وأربيل... جذور الصراع النفطي وتطلعات إلى ما بعد "الاتفاق التاريخي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 11 مايو 202303:00 م

في أعقاب حرب الخليج الثانية، "أمّ المعارك"، عام 1991، وبعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت، شجع الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش الأب، الشعب العراقي بشكل غير مباشر على الإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين، وقال حينها إن "مهمة قوات الائتلاف الدولي كانت تحرير الكويت، لكن تغيير النظام الحاكم في العراق شأن داخلي".

بعدها بساعات، بدأت أحداث انتفاضة شعبية كبرى شملت غالبية مدن العراق، حيث اجتاحت حالة التمرد مدن الجنوب وصولاً إلى الشمال، وعلى مدى أسابيع هاجم مواطنون ومسلحون مراكز الشرطة ومعسكرات الجيش، في الوقت الذي استخدمت فيه السلطات العراقية كل آلياتها لقمع الانتفاضة.

مع بدايات الانتفاضة في مدن الشمال، نزلت القوات العسكرية التابعة للأحزاب الكردية من أعالي الجبال التي فرّوا إليها عقب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، بعدما شنّ صدام حسين ضد المعارضة الكردية عمليةً عسكريةً موسعةً عام 1986، أطلق عليها حملة "الأنفال"، لتقود حالة الغضب في محافظات الأكراد، وقد ساعدتها أمريكا وبريطانيا، بتأسيس منطقة حظر طيران وملاذ آمن في شمال العراق، لتوقف هذه الإجراءات الحكومة العراقية عن استمرار عملياتها في الشمال، وتسحب قواتها العسكرية من إقليم كردستان.

أقرّت حكومة الإقليم منفردةً قانوناً خاصاً للنفط والغاز عام 2007، في ظل رفض الحكومة الاتحادية في بغداد

حينها، حصل الإقليم على الحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع، وسيطرت القوات الكردية على المدن الرئيسية الشمالية؛ السليمانية وأربيل ودهوك وكركوك، وبعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003، وسقوط نظام صدام حسين، تحولت منطقة الحكم الذاتي إلى إقليم كردستان العراق، وتم انتخاب مؤسساته الرسمية، لكن الخلاف على تبعية كركوك الغنية بالنفط ظل قائماً.

في عام 2005، اعترف دستور العراق الجديد بحكومة إقليم كردستان بصفتها الحكومة الرسمية في الأراضي الواقعة في محافظات الشمال العراقية، وتقاسم حزبا "الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" السلطة في الإقليم، ولكن سرعان ما نشبت الخلافات بينهما بسبب الخلاف على الموارد الاقتصادية للإقليم، التي يُعدّ النفط أهمها.

جذور الصراع النفطي

بدأت وزارة الموارد الطبيعية في إقليم كردستان العراق بتطوير قطاع النفط ﻋﺎم 2006، عن طريق مجموعة من الشراكات مع الشركات الأجنبية في خطوة غير مسبوقة لأي سلطة عراقية منذ العقوبات الدولية على العراق 1990، حيث وقّعت عقوداً مع عدد من الشركات الأجنبية الصغيرة في البداية، قبل أن تصبح الغلبة للشركات الأمريكية، إذ فتحت الباب لشركة "غولف كيستون" البريطانية، ثم دخلت الشركات الأمريكية العملاقة؛ "إكسون موبيل"، "شيفرون"، "شلمبرجير"، "بيكر هيوز"، و"هاليبرتون"، بالإضافة إلى "توتال" الفرنسية، "غاز بروم" الروسية، " دي أن أو" النرويجية، والشركة الكندية "ويسترن زاغروس" وغيرها.

بعدها، أقرّت حكومة الإقليم منفردةً قانوناً خاصاً للنفط والغاز عام 2007، في ظل رفض الحكومة الاتحادية في بغداد، وأعطى القانون الحق لحكومة الإقليم في تنظيم جميع العمليات النفطية، وتسويق حصة الإقليم من النفط المستخرج منه، بالإضافة إلى الحق في توقيع الاتفاقيات الخاصة بالنفط كافة، كما أنشأت -بموجب القانون- مجموعةً من الشركات الحكومية الكردية لتشرف على جميع العمليات النفطية في الإقليم.

وبعد عام 2013، بدأت أربيل بتصدير النفط الخام من الإقليم الشمالي بعيداً عن الحكومة الاتحادية، بعد تعرضه لأزمة مالية نتيجة انهيار أسعار النفط، واجتياح تنظيم "داعش" لمناطق شمال العراق، في خطوة عدّتها بغداد غير قانونية، حيث نجحت حكومة الإقليم في إنشاء خط أنابيب جديد لتصدير النفط الخام إلى تركيا، وذلك بعد أن توقف إنتاج خط كركوك-جيهان أكثر من مرة، بسبب مشكلات فنية وهجمات مسلحين، وينطلق الخط الجديد من منطقة "فيش خابور" على الحدود الشمالية العراقية، حيث يدخل النفط إلى تركيا ويجري ضخّه إلى ميناء "جيهان" التركي على ساحل البحر المتوسط.

تصدير الأزمات

لم تقف الحكومة المركزية مكتوفة الأيدي، إذ قامت شركة تسويق النفط العراقية "سومو"، برفع دعوى قضائية أمام "غرفة التجارة الدولية" عام 2014، ضد الحكومة التركية ممثلةً في شركة "بوتاش" المشغّلة لخط الأنابيب والمملوكة للدولة، وطالبت حكومة بغداد الجانب التركي بتعويضات ضخمة، نظير إخلاله باتفاقية خط أنابيب العراق-تركيا التي تم توقيعها عام 1973، وتم تحديثها عام 1976، و1985، و2010، والتي نصت على أن "الحكومة التركية يجب أن تمتثل لتعليمات الجانب العراقي في ما يتعلق بحركة النفط الخام الآتي من العراق في مراكز التخزين والتصريف كافة وفي المحطة النهائية"، وحددت الاتفاقية الجهة العراقية المسؤولة عن تصدير النفط، وهي وزارة النفط في جمهورية العراق. 

بدأت حكومة كردستان بتصدير النفط بعد عام 2013، ما سبب أزمة كبيرة مع الحكومة الاتحادية التي توجهت إلى محاكم التحكيم الدولية، فماذا عن دور تركيا في هذه الأزمة؟

وخلال عام 2017، في ظل تزايد الصادرات النفطية من الإقليم، ازدادت حدة الخلاف بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم على تصدير النفط بشكل منفرد، فرفضت الحكومة المركزية تزويد حكومة الإقليم بمدفوعات الميزانية المخصصة لها بقوة الدستور، مما سبب أزمةً ماليةً كبيرةً في الإقليم، تأخرت على إثرها حكومة كردستان عن تسديد الدﻓﻌﺎت المستحقة إﻟﻰ شركات النفط العالمية العاملة في الإقليم، قبل أن تستطيع تسوية ديونها مع غالبية الشركات، وأبرمت عقداً مع شركة "روزنفت" الروسية لإدارة وتطوير خط الأنابيب المتوجه إلى تركيا، في ظل رفض الحكومة المركزية في بغداد، وقد سمح العقد الموقّع مع "روزنفت" باستفادة الإقليم من النفط بنحو مستقل عن بغداد، حيث نص على التمويل المسبق للنفط الخام الكردي.

لم يتراجع الجانبان، الكردي والتركي، عن مسارهما الفردي في ضخ النفط من الإقليم إلى تركيا، واستمرت الشركات في الإقليم في العمل، في ظل امتيازات ضخمة يأتي على رأسها تراجع سعر النفط داخل الإقليم عن السعر العالمي، بهدف تسهيل صادراته وتأمين الدعم الخارجي، وأعلنت حكومة الإقليم أنها ستواصل ممارسة حقّها الدستوري في بيع النفط، وستودع وارداته في بنك تركي.

لا اعتراف بالقضاء العراقي

ظلت الخلافات حبيسة مواقف الجانبين من دون تخلخل يُذكر، برغم مفاوضات عديدة ووساطات دولية وإقليمية، حتى أصدرت المحكمة الاتحادية العليا في العراق، حكماً في عام 2022، بعدم دستورية قانون النفط والغاز لإقليم كردستان، وإلزام الإقليم بتسليم الإنتاج النفطي إلى الحكومة الاتحادية، وعدّ عقود وصادرات النفط التي وقعتها حكومة الإقليم غير قانونية.

إقليم كردستان العراق لم يستمع إلى حكم المحكمة، وأصدر مجلس القضاء في الإقليم بياناً رفض من خلاله حكم المحكمة الاتحادية، مشيراً إلى أنها لا تملك صلاحية إلغاء قانون النفط والغاز الخاص بالإقليم، كما رفضت سلطة الإقليم حكم المحكمة، عادّةً إياه "غير عادل وغير دستوري".

تزامنت هذه التصريحات مع دعوى قضائية لوزارة النفط الاتحادية ضد سبع شركات أجنبية تعمل في قطاع النفط والغاز في إقليم كردستان، وأسست الوزارة دعواها على أن تلك الشركات تعمل خارج محددات الدستور العراقي.

يقول الخبير في مجال النفط والطاقة مسعود الحكيم، في حديث إلى رصيف22، إن "الحكومة التركية دعمت بشتى السبل حكومة إقليم كردستان من أجل استمرار عملية ضخ النفط الكردي إلى تركيا، حيث انتهجت تركيا محاولات التوفيق بين بغداد وأربيل من أجل سن قانون عام للنفط والغاز، يسمح لتركيا باستقبال النفط الكردي بشكل قانوني، كما دعمت الموقف الكردي أمام المحكمة التجارية الدولية التي كانت تنظر في طعن وزارة النفط الاتحادية على قرار حكومة كردستان بتصدير النفط المستخرج من أراضيها بشكل فردي"، مشيراً إلى أن الأحزاب الكردية لم تستطع استغلال حاجة بغداد إليها في ظل تشكيلات الحكومات المتعاقبة، كما أضاعت الوقت الذي كسبته لمدة تسع سنوات دون جدوى حقيقية.

أصدر مجلس القضاء في الإقليم بياناً رفض من خلاله حكم المحكمة الاتحادية، مشيراً إلى أنها لا تملك صلاحية إلغاء قانون النفط

التحكيم الدولي ينتصر لـ"بغداد"

لم يمهل الوقت حكومة إقليم كردستان وتركيا أكثر من ذلك، حيث أصدرت المحكمة التجارية الدولية في 25 آذار/ مارس 2023، حكماً لصالح بغداد ضد تركيا، في الدعوى المقامة من وزارة النفط الاتحادية منذ عام 2014، وألزمت هيئة التحكيم الدولية أنقرة بدفع 1.5 مليارات دولار إلى العراق، نظير تصدير النفط من كردستان العراق عبر ميناء جيهان ما بين الأعوام 2014 و2018 دون موافقة بغداد، إلا أن الحكومة التركية وبرغم اعترافها بحكم المحكمة، وامتثالها له بوقف عملية ضخ النفط الكردي إلى ميناء جيهان التابع لها، أعلنت عبر وزارة الطاقة التركية أن العراق ملزم هو الآخر ضمن حكم المحكمة بدفع مصروفات إنتاج خط الانابيب، من دون أن تعلن عن أي قيمة مالية.

يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة البصرة، الدكتور كارم الصباح، لرصيف22، إنه "بالرغم من حكم لجنة التحكيم الدولية لصالح بغداد إلا أن الواقع يقول إن الحكومة التركية لن تمتثل لدفع هذا المبلغ، وستُحمّل عبء هذا المبلغ لإقليم كردستان في حال إصرار الحكومة الاتحادية على اقتطاعه، مما يعني مزيداً من عبء الديون على الإقليم، وتعقيداً في ملف المصالحة بين بغداد وأربيل".

ويضيف: "أنقرة لن تتخلى عن حصتها الذهبية في نفط إقليم كردستان وغازه، والموثقة بعقود تصل إلى خمسين عاماً، كما أن الحكومة الاتحادية لن تقوم بالتصعيد في وجه تركيا في ظل حاجتها الماسة إليها، حيث أن تركيا سوف تبقى بوابة العراق نحو أوروبا".

اتفاق ينهي حقبةً؟

بحكم المحكمة وامتثال الأتراك له، ازدادت الأمور سوءاً في أربيل، حيث فقدت حكومة الإقليم كل سبل الهروب إلى الأمام، ورضخت مجبرةً لعدد من التنازلات التي رفضتها خلال السنوات الماضية، ووقعت الحكومة الاتحادية اتفاقاً وُصف بالتاريخي مع حكومة الإقليم في 4 نيسان/ أبريل 2023، يسمح بإعادة ضخ النفط من الإقليم إلى الحكومة الاتحادية لتشرف على تسويقه، وسمح الاتفاق بتصدير النفط الكردي عبر شركة "سومو" الوطنية، على أن يتم تمثيل أحد ممثلي الإقليم فيها، في منصب نائب الرئيس، وتشكيل لجنة مشتركة من وزارة النفط الاتحادية ووزارة الثروات الطبيعية لإقليم كردستان للإشراف على تسويق وبيع النفط الكردي في الأسواق العالمية لحين الانتهاء من إقرار قانون النفط والغاز الموحد، كما تضمّن الاتفاق السماح لخبراء وزارة النفط الاتحادية بالتفاوض مع الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط في الإقليم حول مخرجات الاتفاق الجديد.

وبالرغم من أن هذا الاتفاق لم يبدأ تفعيله بعد، بسبب "محاولات الاتفاق الجديد مع الشركات التي ستقوم بشراء النفط من الإقليم"، بالإضافة إلى "بعض الأضرار التي تأثر بها أنبوب النفط بفعل الزلزال الأخير"، طبقاً لتصريحات وزير النفط العراقي حيان عبد الغني، إلا أن ملامح الاتفاق أظهرت تقارباً واضحاً بين الجانبين لحل المشكلات العالقة بينهما، والتي تأتي على رأسها أزمة مخصصات الإقليم في الموازنة العامة، ومشروع قانون النفط والغاز الموحد.

تفعيل المادة 140 من الدستور العراقي، يفتح باباً لخلاف حاد بين الجانبين، حيث يتمسك الإقليم بتسوية وضع المناطق المتنازع عليها، أملاً بضمّ كركوك الغنية بالنفط، ولكن ما علاقة البيشمركة به؟

أعرب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، عقب توقيع الاتفاق، عن "أمله بمضي مجلس النواب في تشريع قانون الموازنة في أسرع وقت ليكون مظلةً لكل الملف بتفاصيله المتشعبة"، مؤكداً أن "قانون الموازنة وُضع حصيلة حوار جرى بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم لمعالجة كل القضايا بما فيها ملف النفط والغاز"، كما أشار رئيس حكومة الإقليم مسرور بارازاني، إلى أن "الاتفاق سيكون أساس الموازنة وقانون النفط والغاز لأنه سيتم تنفيذه بشكل مضبوط".

مشكلات عالقة

يرى الباحث في المركز العربي لدراسة السياسات، محمود الكمالي، في حديثه إلى رصيف22، أن "الاتفاق بشأن النفط بين بغداد وأربيل سيكون بوابة الحل في أزمة مخصصات الإقليم في الموازنة العامة، وكذا مشروع قانون النفط والغاز الموحد، إلا أن هناك العديد من المشكلات العالقة بين الجانبين والتي يصعب حلها".

ويشير إلى أن "تفعيل المادة 140 من الدستور العراقي، يفتح باباً لخلاف حاد بين الجانبين، حيث يتمسك الإقليم بتسوية وضع المناطق المتنازع عليها، أملاً بضمّ كركوك الغنية بالنفط، كما يُعدّ ملف البيشمركة أحد الملفات المهمة، في ظل رؤية الحكومة الاتحادية بضرورة دمج القوات الكردية تماماً في القوات العراقية المسلحة، بينما ترفض سلطات الإقليم هذا المطلب، بل إن الجهود الكردية-الكردية باءت جميعها بالفشل لتوحيد البيشمركة في ظل فقدان الثقة بين المكونات السياسية الكردية".

وفق رأي الكمالي، "لا يمكن تجاهل أزمة المعابر الحدودية غير الرسمية المنتشرة في الإقليم، والتي تعدّها بغداد باباً مقنّعاً للتهريب، بينما ترفض أربيل الاعتراف بوجودها كما ترفض دفع عائدات الجمارك للمنافذ الرسمية".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard