في طريق رحلة الرجوع إلى موطنه في بلاد المصامدة، التقى الفقيه محمد بن تومرت بشاب بسيط الحال، على قدر كبير من التقوى والتدين. كان هذا الشابُّ عبد المؤمن بن علي الكومي، الذي قُدر له أن يصير، في ما بعد، مؤسس الدولة الموحدية الكبرى، وهي إحدى أهم الكيانات السياسية التي عرفها المغرب الإسلامي عبر تاريخه.
تكشف لنا سيرة عبد المؤمن عن جانب خفي من جوانب تلاقي الديني مع السياسي في التاريخ الإسلامي. من هو عبد المؤمن بن علي؟ وما قصته مع مهدي المصامدة؟ وكيف تمكن هذا الشاب الطموح من تأسيس الدولة الموحدية الكبرى؟
السياق التاريخي
شهد القرن الخامس الهجري صعود نجم الأمازيغ/البربر في شمالي إفريقيا وشبه الجزيرة الأيبيرية. في النصف الثاني من هذا القرن تمكن اتحاد قبلي صنهاجي مكون من قبائل زناتة ولمتونة ومسوفة من تأسيس الدولة المرابطية في المغرب الأقصى. وفي سنة 479هـ استجاب العاهل المرابطي يوسف بن تاشفين لطلبات ملوك الطوائف بالأندلس، فقاد جيشه إلى إسبانيا وخاض معركة الزلاقة، الواقعة بالقرب من حدود البرتغال الحالية، وتمكن من دحر الممالك النصرانية بقيادة ألفونسو السادس ملك قشتالة وليون.
بعد ذلك، أطاح المرابطون بملوك الطوائف واحداً بعد آخر، وفرضوا سيطرتهم الكاملة على الأندلس، ووطدوا حكمهم ونفوذهم في بلاد المغرب. لتصبح الدولة المرابطية واحدة من أقوى الدول الذي عرفها حوض البحر المتوسط في نهايات القرن الخامس الهجري.
كان من لا يحافظ على الصلوات في زمانه يُقتل، وكان إذا أذّن المؤذن يزدحم الخلق في المساجد
ألهمت النجاحات التي حققها المرابطون باقي القبائل الأمازيغية الساعية للحكم والسلطة. في هذا السياق، ظهر الفقيه محمد بن تومرت في قبائل المصامدة، وسافر في شبابه إلى المشرق الإسلامي لتلقي العلوم الدينية على أيدي أكابر العلماء من أمثال كل من أبي حامد الغزالي، وأبي بكر الطرطوشي، والكيا الهراسي. بعدها، قفل ابن تومرت راجعاً إلى وطنه في المغرب الأقصى، وأظهر نيته في السعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما رفع راية الجهاد والتغيير في وجه جميع الدول المغربية التي مر عليها في رحلته.
اللقاء بابن تومرت
بحسب المعلومات التي نقلتها المصادر التاريخية الإسلامية، فإن عبد المؤمن ولد في إحدى نواحي تلمسان الواقعة في الجزائر الحالية. ويوجد خلاف واسع حول توقيت ولادته، ويُرجح أنها قد وقعت في ثمانينيات القرن الخامس الهجري.
بحسب الروايات المشهورة، كان علي، أبو عبد المؤمن، عاملاً بسيطاً يتكسب رزقه من صناعة الخزف والفخار. وتنحدر أصوله من قبيلة كومية، وهي بطن من بطون قبائل زناتة، الأمازيغية الأصل.
في كتابه "البداية والنهاية" تحدث ابن كثير الدمشقي عن عبد المؤمن بن علي في شبابه، فوصفه بأنه "كان شاباً حسناً حازماً عاقلاً". كما ذكر أنه، أي عبد المؤمن، كان عازماً على الرحيل إلى المشرق لطلب العلم وتحصيل المعارف الدينية.
بحسب ما يذكر عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب"، فإن حدثاً مفاجئاً غيّر جميع الخطط المستقبلية لعبد المؤمن. في أحد الأيام قابل عبد المؤمن الفقيه محمد بن تومرت في قرية ملالة القريبة من بجاية الواقعة في الجزائر الحالية. تبادل الرجلان الحديث مع بعضهما البعض، وسرعان ما أدرك عبد المؤمن أنه قد عثر على بغيته في شخص هذا الشيخ العالم. ولذلك عزم الشاب الكومي على اتباع ابن تومرت في رحلته الطويلة نحو بلاد المصامدة، وصار مع الوقت أقرب الناس إليه.
بشكل عام، شغلت تفاصيل اللقاء الأول بين عبد المؤمن وابن تومرت حيزاً مهماً في ذاكرة الدولة الموحدية التي سيتم تأسيسها فيما بعد. على سبيل المثال، ذكر ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" أن ابن تومرت لمّا سافر إلى المشرق عثر على كتاب "الجفر"، وقرأ فيه العديد من النبوءات المستقبلية. ومنها أن الله سيؤيده بصاحب يُدعى عبد المؤمن بن علي. فلمّا رجع المهدي للمغرب اجتهد في البحث عن هذا الصاحب حتى لقيه في قرية ملالة. وهكذا، نُسجت العديد من الروايات -المشكوك في صحتها- والتي حرصت على إضفاء الطابع الأسطوري على اللقاء، وإظهاره باعتباره قدراً محتوماً، رُتب له منذ الأزل لإنفاذ المشيئة الإلهية.
الوصول للسلطة
ظل عبد المؤمن بن علي لصيقاً بابن تومرت على مرّ السنوات. حارب الشاب الكومي رفقة أستاذه في المعارك الكثيرة التي خاض غمارها ضد كل من قبائل المصامدة، والدولة المرابطية. وكان عبد المؤمن أول من أعلن تصديقه بابن تومرت عندما أعلن الأخير عن نفسه باعتباره المهدي المنتظر الموعود الذي بشرت به الأحاديث النبوية. في هذا السياق، قاد عبد المؤمن الجيوش بأمر المهدي مراراً، وصار القائد الثاني لجماعة "الموحدين"، وهو الاسم الذي أطلقه المهدي على أتباعه تمييزاً لهم عمن خالفهم من أهل المغرب.
في سنة 524هـ -وبعد أن تمكن الموحدون من تحقيق العديد من الانتصارات على القوات المرابطية- قرر ابن تومرت أن يستولي على العاصمة المرابطية مراكش. فأرسل جيشاً كبيراً بقيادة عبد المؤمن لحصار المدينة، بينما ظل هو في قاعدته الحصينة "تينملل" بسبب المرض الشديد الذي ألمّ به.
على عكس المتوقع، هُزم الموحدون هزيمة ساحقة في موقعة "البحيرة"، وهربت فلولهم راجعةً لتينملل. في الوقت ذاته، توفي ابن تومرت بشكل مفاجئ تاركاً مصير دعوته الدينية في مهب الريح. وفي تلك اللحظة العصيبة، انتقلت مقاليد السلطة ليد عبد المؤمن بن علي.
في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" تحدث الباحث المصري محمد عبد الله عنان عن ظروف تلك اللحظة، وما أُحيطت به من قداسة في الوجدان الموحدي، فقال: "...كما نُسجت حول ابن تومرت ودعوته، واختيار القدر له ليكون مهدي آخر الزمان، هالة من الأساطير، لتؤكد قدسيته وصدق رسالته، فكذلك نُسجت مثل هذه الهالة حول عبد المؤمن وخلافته للمهدي، لتؤكد أن القدر قد اختاره، كما اختار المهدي منذ الأزل، ليقوم بهذه الرسالة".
من تلك الأساطير ما تواتر عن اختيار المهدي لعبد المؤمن لخلافته قُبيل وفاته. وأنه، أي المهدي، قال لأصحابه وهو يشير لعبد المؤمن: "صاحبكم هذا غلاب الدول". وما قيل أيضاً عن استدعاء المهدي لكبار أتباعه وأنصاره قبل وفاته، وإنه قد قال لهم: "قد اخترنا لكم رجلًا منكم، وجعلناه أميرًا بعد أن بلوناه، فرأيناه ثبتًا في دينه، متبصرًا في أمره، وهو هذا -وأشار إلى عبد المؤمن- فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع ربه، فإن بدل ففي الموحدين بركة وخير، والأمر أمر الله يقلده من يشاء"، وذلك بحسب ما نقله شمس الدين الذهبي في كتابه "سيّر أعلام النبلاء".
من جهة أخرى، حرص المؤرخون المنتمون للدولة الموحدية على إثبات النسب الشريف لعبد المؤمن، رغبةً في إضفاء الشرعية الكاملة على سلطته. على سبيل المثال، ربط أبو بكر الصنهاجي المُكنى بالبيذق -وهو واحد من أصحاب المهدي بن تومرت- في كتابه "أخبار المهدي ابن تومرت وابتداء دولة الموحدين" بين نسب عبد المؤمن والبيت العلوي، فقال إن الخليفة الموحدي الأول هو عبد المؤمن بن علي بن علوي بن يعلى بن حسن بن كنونة بنت إدريس بن إدريس بن عبد الله بن القاسم بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب.
كذلك، ظهرت بعض النبوءات التي قدمت إرهاصاً غيبياً بالمستقبل المجيد الذي ينتظر تلميذ المهدي. من ذلك ما نقله الذهبي في كتابه عندما ذكر أن عبد المؤمن "كان في صباه نائماً، فسمع أبوه دوياً، فإذا سحابة سمراء من النحل قد أهوت مطبقةً على بيته، فنزلت كلها على الصبي". فلما سأل الأب أحد العلماء عن تفسير تلك الحادثة الغريبة، قيل له: "يجتمع عليه -أي على عبد المؤمن- طاعة أهل المغرب".
بعيداً عن تلك الروايات التي تميل للأسطورة والمبالغة، يمكن القول إن أصول عبد المؤمن التي ترجع إلى قبيلة كومية، كانت سبباً في تسهيل انقياد المصامدة له. لأن معظم أتباع ابن تومرت كانوا من كبرى القبائل المصمودية مثل هنتانة، وهرغة، وجنفيسة، وتينملل. ولذلك فقد رضوا أن يعهدوا بالأمر لعبد المؤمن حتى يقضوا على الصراعات المتوقعة بينهم على السلطة والحكم. في هذا السياق، بويع عبد المؤمن بالخلافة من قِبل خاصة أتباع المهدي في رمضان سنة 524هـ، وإن ظل خبر وفاة ابن تومرت سرّاً مخفياً عن العامة. بعد عدة سنوات، بويع عبد المؤمن بيعة عامة في مسجد تينملل. وأُعلن اسمه أميراً للمؤمنين، وخليفةً للمهدي المنتظر.
شخصية مثيرة للجدل
بعد سنتين من وصوله للسلطة، تمكن عبد المؤمن بن علي من توحيد الصف الموحدي، وتدارك ما لحق بجيشه من خسائر في موقعة البحيرة. وسرعان ما استولى على أهم مدن المغرب واحدةً بعد أخرى. في سنة 541ه-، توّج عبد المؤمن مجهوداته بعدما قضى بشكل نهائي على الدولة المرابطية عقب مقتل إسحاق بن علي بن يوسف أخر حكام المرابطين.
تشدد عبد المؤمن لم يقتصر على التعامل مع الأعداء وأصحاب الأديان المختلفة فحسب، بل امتد كذلك ليشمل طائفة الموحدين وجميع المنتسبين للدعوة
على إثر تلك الأحداث المتسارعة، فرض الموحدون سيطرتهم على الأغلبية الغالبة من مناطق المغرب والأندلس. ودخلوا في صراع طويل مع ممالك الشمال النصرانية في ليون، ونافار، وقشتالة، وأراجون، والبرتغال. وأعلنوا عن أنفسهم باعتبارهم حُماة الإسلام ضد الهجمة الصليبية الأوروبية الشرسة.
بشكل عام، يتفق المؤرخون على الإشادة بقدرات عبد المؤمن الإدارية العظيمة التي أهلته لتشييد الدولة الموحدية الكبرى. على سبيل المثال، يقول ابن كثير: "وحين صار الأمر إلى عبد المؤمن بن علي أحسن إلى الرعايا، وظهرت منه سيرة جيدة فأحبه الناس، واتسعت ممالكه، وكثرت جيوشه ورعيته". ظهر الوصف ذاته في ما دونه ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" عندما امتدح الخليفة الموحدي الأول، فقال إنه: "كان ملكاً عادلاً سايساً، عظيم الهيبة، عالي الهمّة، كثير المحاسن، متين الدّيانة، قليل المثل، وكان يقرأ كل يوم سبعًا من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير، ويصوم الاثنين والخميس، ويهتمّ بالجهاد والنظر في الملك كأنما خلق له".
من جهة أخرى، من السمات المهمة والمثيرة للجدل في شخصية عبد المؤمن، ميله الدائم للبطش وممارسة العنف وسفك الدماء. تذكر الروايات التاريخية أن الموحدين لمّا استولوا على مراكش، فإن عبد المؤمن جمع من فيها من المسيحيين واليهود، وخطب فيهم "إن المهدي أمرني ألا أقر الناس إلا على ملة الإسلام، وأنا مخيركم بين ثلاث، إما أن تسلموا، وإما أن تلحقوا بدار الحرب، وإما القتل". على إثر تلك التهديدات، لم يجد الذميون بُداً من الرضوخ لأمر الخليفة المتشدد، فأضطر بعضهم لإعلان الإسلام، فيما رحل البعض الأخر إلى الممالك المجاورة. من أشهر هؤلاء الراحلين الفيلسوف اليهودي الشهير موسى بن ميمون الذي فرّ من بلاد المغرب والأندلس إلى المشرق الإسلامي، واستقر في مصر حيث عمل طبيباً في بلاط السلطان صلاح الدين الأيوبي.
من الملاحظات الجديرة بالذكر أن تشدد عبد المؤمن لم يقتصر على التعامل مع الأعداء وأصحاب الأديان المختلفة فحسب، بل امتد كذلك ليشمل طائفة الموحدين وجميع المنتسبين للدعوة. يذكر ابن كثير في البداية والنهاية: "وكان مَنْ لا يحافظ على الصلوات في زمانه -يقصد عبد المؤمن بن علي- يُقتل، وكان إذا أَذَّن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد... وكان سفاكاً للدماء، حتى على الذنب الصغير.".
يمكن فهم هذا التشدد من خلال سيرة ابن تومرت نفسه، والذي ذكرت الروايات أنه كان يحرق الغنائم التي سلبها من المرابطين إن شعر برغبة أنصاره في تملكها. كما كان يضرب من يتخلف عن الصلاة وقيام الليل. وهكذا، تشرب عبد المؤمن شخصية أستاذه، فسار على هديه، وانتهج منهجه. وحول الدعوة إلى دولة قوية، تمكنت من الصمود في وجه الممالك المسيحية لما يزيد عن المائة وخمسين عاماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.