دخل عقبة بن نافع، بلاد المغرب عام 60 للهجرة، ثم بدأت حقبة جديدة إسلامية تحت حكم الإمبراطورية الأموية في بدايات القرن الثامن للميلاد. ظلت هذه المنطقة التي يقطنها الأمازيغ، تُسَيَّرُ من قِبَلِ الولاة والعمال الذين منحتهم السلطة المركزية في دمشق، صلاحية الحكم الإقليمي.
تزامناً مع ذلك، ظهرت خلال هذه الحقبة دعوة الخوارج في بلاد المغرب، إذ عدّوها ملجأً لهم وحاضنةً لنشر مذهبهم وفكرهم ومبادئهم، بعد أن واجهوا معارضةً وحرباً ضروساً من قبل الدولة الأموية في بلاد المشرق.
فكيف انتشر مذهب الخوارج وسط الأمازيغ؟ وما هي عوامل وأسباب انتشار هذا المذهب؟ وكيف تعاطى الأمازيغ مع توجههم الجديد؟ ولماذا تمردوا على دولة بني أمية المركزية متحالفين مع أعدائهم الخوارج؟
ولاةٌ "همّهم جمع الجواري والذهب"
في بدايات القرن الثامن للميلاد، اشتكى الأمازيغ من جور وظلم الولاة بسبب سياستهم التمييزية واستعبادهم واسترقاقهم وإثقال كاهلم بالمزيد من الضرائب والجبايات.
تفيد المصادر التاريخية أن بلاد المغرب كانت محكومةً من قبل حكام (عُمّال وولاة) وُصِفُوا بالـ"طغاة"، همّهم "جمع الإماء والجواري والدواب والذهب"، كما أن فئةً منهم عدّوا الأمازيغ بمثابة "دار حرب" بالرغم من اعتناقهم الإسلام.
الوالي عبيد الله بن الحبحاب، المعيّن من طرف الخليفة هشام بن عبد الملك عام 116 للهجرة، كان أبرزهم، إذ اعتمد القيروان كعاصمة للمنطقة (الغرب الإسلامي) التي يسيّرها.
في بدايات القرن الثامن للميلاد، اشتكى الأمازيغ من جور وظلم الولاة بسبب سياستهم التمييزية واستعبادهم واسترقاقهم وإثقال كاهلم بالمزيد من الضرائب والجبايات
سُجلت في عهده تجاوزات في حق الأمازيغ، والأمر تجاوز حدّه مع ابنه إسماعيل الذي عيّنه عاملاً على طنجة بمعية عمر بن الله المرادي، إذ عدّا سكان هذه البلاد فيئاً وغنيمةً سواءً أسلموا أو لم يسلموا، كما "عاملوهم معاملة الرقيق"، كما يؤكد محمود إسماعيل في كتابه "الخوارج في بلاد المغرب حتى منتصف القرن الرابع الهجري" (ص 35).
بيد أن بعض الباحثين والمؤرخين يبرِّئون الدولة الأموية المركزية من هذه الممارسات والسياسات محمّلين المسؤولية للولاة على أفعالهم.
في هذا السياق، ذكر الباحث محمد علي دبوز، في كتابه "تاريخ المغرب الكبير"، أن الخليفة الأموي سليمان استنكر ما قام به الوالي موسى بن نصير، من سياسات تمييزية ضد الأمازيغ ولامه على ذلك، و"كان حانقاً عليه بسبب مبالغته في السبي وعدم عدله" مع الأمازيغ.
لكن حنق الخليفة سليمان على "ابن نصير" "يؤخذ بحذر"، إذ إن الأمر لا يعدو أن يكون سوى نصيحة وأمر تقليدي جرت به العادة من خليفة لواليه الجديد باتّباع "الحق والعدل".
المؤكد أن ولاة المغرب كانوا ينفّذون سياسة الخلفاء الذين اعتادوا على اختيار ولاة يأتمرون بأمرهم ويعملون على إرضائهم ويطيعونهم.
لكن الحال تغيّر -نوعاً ما- في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، المعروف لدى المؤرخين بـ"الورع والعدل والتقوى". إذ قام بتعيين الوالي إسماعيل بن عبيد الله، الذي اختاره من العدول الأتقياء، وعُرفت فترته بإقبال الأمازيغ على الإسلام.
تشير المصادر التاريخية إلى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز، استطاع أن يستعيد ثقة الأمازيغ من خلال وضع حد لتسلط الولاة وإسقاط الجزية وتحرير من تم استرقاقه أو استعباده.
بيد أن سياسة الخليفة عمر لم تدم طويلاً بعد وفاته، إذ رجع الحال إلى كما كان عليه في السابق في عهد الخليفتين يزيد وهشام بن عبد الملك، واستشرى ظلم واستبدّ الولاة من جديد، وتزايد حنق الأمازيغ على تلك السياسات، وهو عامل ساعد على انتشار فكر الخوارج في ما بينهم.
ثم ظهر الخوارج...
تضاربت الشواهد التاريخية بخصوص تاريخ بدء دعوة الخوارج في المغرب، فـ"ابن حوقل" يُرجعها إلى سنة 658 للميلاد، عندما اندلعت معركة النهروان. إلا أن ابن خلدون في كتابه "العبر"، يُرجعها إلى حقبة أواخر القرن الأول وبدايات القرن الثاني الهجريَّين.
على الأرض، انتشر في بلاد المغرب مذهبان من تيار الخوارج، هما الإباضية والصفرية، وهذه الأخيرة كانت الأكثر انتشاراً في صفوف الأمازيغ وتحديداً في المغرب الأقصى، وتشير المصادر الإباضية، كما يذكر محمود إسماعيل نقلاً عن أبو زكريا في "مخطوط السيرة" والدرجيني في "مخطوط طبقات الإباضية"، إلى أن سلمة بن سعيد، دعا إلى مذهب الإباضية، في حين تزعّم ميسرة المطغري أمازيغ مذهب الصفرية.
تأثر ميسرة المطغري، قائد قبيلة مطغرة، بمذهب الصفرية وأخذ تعاليمه ونشرها بين صفوف قبيلته من أمازيغ مطغرة، كما يؤكد ابن خلدون في "العبر".
الأمر نفسه حصل مع بقية القبائل، كقبيلة مكناسة الأمازيغية التي تأثر شيخها أبو القاسم سمكو بالدعوة الصفرية ونشر تعاليم هذا المذهب في قبيلته بل وتعدّاها إلى المناطق الجنوبية الصحراوية كواحات تافيلات، وقام ببث دعوته الصفرية بالتخفي والتستر، كما هو الشأن مع المطغري، بين الرعاة والرُحّل من خلال التظاهر بتربية القطعان والأغنام.
انتشر في بلاد المغرب مذهبان من تيار الخوارج، هما الإباضية والصفرية، وهذه الأخيرة كانت الأكثر انتشاراً في صفوف الأمازيغ وتحديداً في المغرب الأقصى. هذا التوجه أدى إلى ثورة الأمازيغ ضد الأمويين
من ناحية أخرى، توسع امتداد المذهب الإباضي في منطقة المغرب الأوسط (الجزائر حالياً)، والأدنى (ليبيا حالياً)، وكان للداعية سلمة بن سعيد دور كبير في ذلك في بدايات القرن الثاني الهجري.
يذكر الباحث إسماعيل، نقلاً عن مصادر تاريخية، أن سلمة "اتخذ من المغرب الأدنى ميداناً لنشاطه حيث استطاع أن يكسب أنصاراً في أقاليم طرابلس وجبل نفوسة " (ص54)، إلى أن كبرت دائرة الانتشار لتشمل المغرب الأوسط.
انتشار في نار الأمازيغ الحانقين
يُعزى انتشار مذهب الخوارج في بلاد المغرب إلى السياسات التي انتهجتها الإمبراطورية الأموية من تمييز وتهميش واستعباد للأمازيغ.
شكلت هذه الظروف حاضنةً ملائمةً لانتشار هذا التوجه في هذه المنطقة، كما أن فشل ثورات الخوارج في بلاد المشرق ولجوءهم إلى نهج الدعوة عوضاً عن المواجهة في أطراف الامبراطورية الأموية البعيدة عن أي سيطرة كاملة، كان عاملاً في نجاحها وانتشارها.
على الرغم من أن فكر الخوارج يُتَّهم براديكاليته وتكفيره لعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، إلا أنه حاول أن ينهل من مبادئ تداول الحكم السياسي. مبادئ تجمع بين ما يصفه الباحث إسماعيل بـ"ثورية سياسية تنادي بالخروج عن الحاكم إذا طغى"، و"ديمقراطية أساسها أن الإمامة متاحة لكل مسلم"، بغض النظر عن عرقه أو لونه أو انتمائه القبلي. لذا، ساهمت هذه الأفكار المتمردة في زمنها في إذكاء النزعة القومية والانفصالية لدى الأمازيغ.
في هذا السياق، يقول المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، في كتابه "مجمل تاريخ المغرب"، إن الخوارج نشروا مذهبهم بل وسّعوا رقعة الإسلام في بلاد المغرب بفضل "حيويتهم وميلهم إلى النقاش والجدال"، كما اعتنق الأمازيغ مذهبهم "تعبيراً عن نزوعهم الدائم نحو الاستقلال"، خلال حقبة أواخر القرن الأول وبدايات القرن الثاني الهجريين.
يوضح المؤرخ أحمد بن خالد الناصري، في كتابه "الاستسقا لأخبار دول المغرب الأقصى"، أن قيم ومبادئ الخوارج كانت متناغمةً مع طباع الأمازيغ الفطريّة ومُتماهيةً مع أهدافهم السياسية
يضاف إلى ذلك عامل آخر في تقبل الأمازيغ لدعوة الخوارج، هو ما سماه الباحث محمود إسماعيل، بـ"الاتساق" في الصفات الكامنة، أي في "الصلابة والقوة ورفض التقية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى الخوارج والتي تقابلها شدة المراس وقوة البأس والتمرد لدى الأمازيغ".
يوضح المؤرخ أحمد بن خالد الناصري، في كتابه "الاستسقا لأخبار دول المغرب الأقصى"، أن قيم ومبادئ الخوارج كانت متناغمةً مع طباع الأمازيغ الفطريّة ومُتماهيةً مع أهدافهم السياسية ونزعتهم القومية.
يقول الناصري: "وحسن موقعها (أي مبادئ الخوارج) لديهم (الأمازيغ) بسبب ما كانوا يعانونه من وطأة الخلافة القرشية، وجور بعض عمالها (ولاتها) فلقّنهم أهل البدع (أي الخوارج) أن الخلافة لا تشترط القرشية ولا العربية... دسّوا إليهم مع بعض تشديدات الخوارج وتعمقاتهم، وأروهم ما هم عليه من التصلّب في دينهم، فظهر للبربر (الأمازيغ) ببادئ الأمر أن تعمقهم ذلك إنما من آثار الخشية لله والخوف منه".
ثم ثارت ثائرة الأمازيغ
كان الظلم جاثماً فوق نفوس الأمازيغ، فبعد تولّي عبيد الله بن الحبحاب، مناطق الغرب الإسلامي، ازداد حنقهم وتعاظمت أجواء التمرد لديهم بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتنامي الممارسات التسلطية "الجائرة". والمحصلة: ثار الأمازيغ بدءاً من عام 740 للميلاد، متأثرين بفكر الخوارج الذي يحث على الخروج ومناهضة الحاكم الجائر.
بيد أن بوادر الثورة والانتفاضة كانت حاضرةً قبل هذا التاريخ بوقت طويل، فمنذ سنة 720م، قتل أمازيغ واليهم يزيد بن أبي مسلم، وكان هذا الحادث، دليلاً على الأزمة القادمة، كما شدّد على ذلك المؤرخ المغربي عبد الله العروي في "مجمل تاريخ المغرب".
قبل اندلاع الانتفاضة، سلك الأمازيغ طريق الحوار والتقرب من الخليفة هشام بن مروان في محاولة منهم لحلّ الأزمة، لكنه لم يستجب لشكواهم
قبل اندلاع الانتفاضة، سلك الأمازيغ طريق الحوار والتقرب من الخليفة هشام بن مروان في محاولة منهم لحلّ الأزمة، إذ قام وفد منهم بقيادة ميسرة المطغري بعرض تظلماتهم وشكواهم على باب قصر الخليفة في دمشق، إلا أن مطالبهم قوبلت بالمنع والرفض وهو ما تسبب في اندلاع شرارة الثورة عام 740م.
خلال هذه الحقبة التاريخية، بدأ يبزغ نجم ميسرة المطغري، إذ قاد ثورة الأمازيغ ضد خلافة بني أمية، وكانت مؤشراً على بداية القطيعة مع الدولة المركزية في المشرق إلى أن تأسست لاحقاً كيانات سياسية مستقلة أبرزها إمارات مثل: برغواطة التي تختلف الروايات حول تأسيسها بين عامي 742 أو 744 ميلادية، وبني مدرار عام 757م، و بني رستم عام 779م.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...