صيفٌ يشتعل بحرارته محلياً وعالمياً، حتى صار تغيّر المناخ حقيقة يلمسها الصغير قبل الكبير. وفي خضم هذا القيظ، يبحث الناس عمّا يخفف وطأته، فيما يلتقط المنتجون الخيط ليقدّموا "وجبات خفيفة" تصلح للهروب المؤقت من صيف لا يُحتمل ومن واقع سياسي واجتماعي أكثر قسوة.
هكذا وجد الجمهور المصري نفسه هذا الموسم أمام ثلاثة أفلام كوميدية: "روكي الغلابة"، "أحمد وأحمد"، و"الشاطر"؛ جميعها تراهن على الأكشن الخفيف والكوميديا المضمونة، فهي اختيارات آمنة في الشكل والخطاب، تلتف على تعقيدات الرقابة وتتفادى المصير الذي علِقَت به أفلام أخرى لم يُسمح بعرضها. أعمال قد لا تُبهر فنياً، لكنها تسير في المنطقة الأكثر أماناً، حيث يكفي أن تضحك، حتى لو لم تدهَش.

ما يلفت النظر في هذه الأفلام الثلاثة، ومن دون أي اتفاق مسبق، هو بروز الأدوار الثانوية على حساب الأبطال أنفسهم. الكوميديا وخفة الأداء جاءت هذه المرة من الهامش لا من المركز: مصطفى غريب في "الشاطر"، محمد ثروت في "روكي الغلابة"، وحاتم صلاح وأحمد عبد الوهاب في "أحمد وأحمد". هؤلاء أنقذوا الأعمال من ثقل الظل الذي كاد يبتلع نجومها، بل وتفوّقوا عليهم في أكثر من مشهد. المفارقة أن كل فيلم رفع اسم بطله في العنوان، كأنه يراهن بالكامل على نجوميته، لكن النتيجة كانت أقرب إلى "خدعة جماعية" لم ينجُ منها أحد.
هنا نبدأ في جولة على هذه العروض السينمائية المصرية الصيفية في موسم بدا عموماً الأكثر كفاءة في العام والأقل صراخاً على كل حال. عروض متواضعة فنياً لكنها تحقّق الغرض. استقطبت جمهوراً واسعاً من محبي الكوميديا والأكشن، رضي عنه المنتجون.
"روكي الغلابة"... بطلة في معركة مع إيفيهات قديمة
أولى هذه الرحلات الكوميدية تبدأ مع عودة النجمة دنيا سمير غانم للسينما مرة أخرى، أو للشاشة عموماً (تلفزيونياً وسينمائياً وإعلانياً) ما بعد رحيل والديها سمير غانم ودلال عبد العزيز، اللذين قدمت لهما إهداءً خاصاً في بداية الفيلم. بشكلٍ عام يحكي فيلم "روكي الغلابة" قصة شابة (رقية أو روكي) التي تعمل حارسة شخصية، تتولى حراسة وتأمين عالِم شاب مُهدد بسرقة بحثه، يحاول التخفّي من أشرار لا نعرف عنهم شيئاً. يتعرضان معاً للعديد من المواقف المليئة بالمفارقات التي تبدو بصرية أكثر من كونها خطابية، إذ تظهر فيها دنيا سمير غانم الوديعة ضئيلة الحجم، أنها تحمي وتدافع عن محمد ممدوح الأكثر سيطرة على الشاشة برغم خوفه من كل شيء حوله.
وجد الجمهور المصري نفسه هذا الموسم أمام ثلاثة أفلام كوميدية: "روكي الغلابة"، "أحمد وأحمد"، و"الشاطر"؛ جميعها تراهن على الأكشن الخفيف والكوميديا المضمونة
الفيلم تأليف كريم يوسف وندى عزت وأحمد الجندي مخرج العمل نفسه. ندى عزت وكريم يوسف المؤلفان، كلاهما شريكا نجاح للأعمال الكوميدية السابقة التي قدّمت فيها دنيا سمير غانم بطولاتها الضاحكة، وربما بدت تلك النقطة تحديداً نقطة ضعف رجوعها؛ إذ باتت الطريقة والمساحة التي تتحرك فيها ليست روتينية فقط، بل تجاوزها الوقت، إن صح قول ذلك. يظهر ذلك بداية من ملصق العمل الرسمي (البوستر) قبل المشاهدة الذي يظهر فيها محمد ممدوح متخفياً بشكلٍ مضحك خلف دنيا سمير غانم التي تنظر بوجه حاد متصنع.
لا يخطئ أحمد الجندي كثيراً في الإخراج البصري للعمل، يقف في منطقة آمنة كأحد أفضل مخرجي الكوميديا العرب، ليس لسيرته الذاتية التي تثبت ذلك دون شك، لكن لمرونته المتكررة في تخيل بصري خفيف الاستقبال، ومضحك دون إسفاف. لذلك كانت أكثر نقاط الفيلم قوة هي الاستعراضات التي قدمتها البطلة، سواء التعاون مع أحمد سعد في "أشرار" أو في أغنية "النور جه" الأكثر حيوية وخفّة في العمل.
تخرج جميع إيفيهات الفيلم تقريباً من المفارقة الخاطئة بين طريقة نطق رقية أو روكي (دنيا سمير غانم) لبعض الكلمات من اللغة الإنكليزية، والاستنكار المتكرر طوال الفيلم من بطل العمل محمد ممدوح الذي يقدم ربما أسوأ أدواره في السنوات القليلة الماضية.
لم يهتم سيناريو "روكي الغلابة" بسياق تواجد عصابة عالمية توازي إيقاع العمل بين الأكشن والكوميديا، قدمها بشكل ساذج جعل المشاهد أقرب إلى عدم التصديق، واحتمالية السخرية على العمل أكثر من السخرية معه، بعيداً عن خط رئيس العصابة (أحمد الفيشاوي) الذي يظهر أنه إنسان آلي دون سياق يُذكر. فقط لو اهتم الصنّاع بصناعة خط جيد في هذا المسار تحديداً لربما تحوّل عمل متواضع إلى سلسلة تقترب أكثر من أكشن كوميدي عالمي يتماس مع التطور التكنولوجي والمعرفي وكان الفيشاوي ذاته أفضل من يقدّمه على الإطلاق.
في النهاية كان فيلم "روكي الغلابة" ضحية التوقعات الكبيرة التي انتظرها الجمهور من نجمة الشباك الأكثر اكتمالاً تقريباً لتحمّل فيلم كوميدي في دور العرض. فخرج في النهاية فيلم عادي تماماً ومكرر، ولم يتحرك كثيراً على مستوى الكوميديا والأداء من أداءات قديمة مثل "نيلي وشيريهان" و"لهفة" وغيرها؛ لم تغيّر جلدها ولم تخرج من تلك السنوات القديمة بعد.
"أحمد وأحمد"... ضحك جنسي في توقيت مثالي
إذا كان فيلم "روكي الغلابة" سقط ضحية عدم التفكير في الجديد بشكل ملائم، دون الاعتماد على الشكل القديم للأبطال والكوميديا المطروحة كتابياً، فإن "أحمد وأحمد" راهن على عبثية ربما تناسب هذه اللحظة المفرغة فنياً دون غيرها. عبث كامل لا يهتم بالبناء أو الطرح أكثر من السعي للتهريج في كل سياق.
بدايةً نرى فيلماً قد بدأت فكرته من خلال إيفيه لفظي أساساً، حيث تحدث أحمد السقا إلى النجم أحمد فهمي لصناعة فيلم عنوانه: "أحمد وأحمد". قد يفكك ذلك كل العبث الدرامي الذي يليه. هنا المركزية التي يتحرك خلالها العمل هي المفارقات اللفظية، والشكلية التي تتمثل في اعتياد الناس على أحمد السقا، بطل الأكشن، وأحمد فهمي نجم الكوميديا. معهم ورشة كتابة تحت إشراف أحمدين آخرين: أحمد درويش وأحمد عبد الوهاب، وجدا، ربما ليس عن طريق الصدفة، المخرج أحمد نادر جلال، الذي بدا البطل الوحيد في العمل، إذ تمثل اختياراته البصرية نموذجاً مثالياً لصناعة عمل أكشن كوميدي.
القصة التي يعتقد الفيلم أنه يحاول صناعتها تبدأ عندما يقرر أحمد العودة إلى مصر وطلب يد ضحى للزواج، ولكن سريعاً ما تتعطل خططه حينما يُصاب خاله أحمد في حادث غامض ويفقد الذاكرة، ويكتشف سرّ خاله الصادم بزعامته لإمبراطورية إجرامية خطيرة. وبينما يتحرك الفيلم وفق إيفيه يبدو أنه قد انشغل به عن صناعة حبكة تجعل المشاهد يتعاطف أو يفهم كثيراً ماذا يحدث في الواقع. يتحرك العمل من السعودية إلى مصر، ومن منطقة حوارية إلى أخرى بشكل يشبه التداعي الحر؛ لا يأبه تماماً بوضع سياق للحركات داخل السيناريو أو لدى الأبطال.
يمكن اعتبار أن فيلم "أحمد وأحمد" هو الأضخم إنتاجياً ربما بين كوميديات هذا الصيف، بأبطاله وقصته التي احتاجت للإنتاج الضخم نسبياً. لذلك يبدو أنه اعتمد مباشرة على استقطاب جمهور الكوميديا والأكشن في ذاتهما لعمل سكتشات مضحكة أحياناً دون حتى معرفة السبب الحقيقي وراءها.
نقطة القوة المستحقة هي الجرأة التي يتحدث خلالها الأبطال في أكثر من موضع بالسخرية والمجازات الجنسية التي تمرر بذكاء وخفة ظل حقيقي. إلى جانب التنفيذ المتقن للمشاهد التي يتحرك فيها السقا الذي بات كبير السن نسبياً على الأكشن لعمل أكشن مضحك أكثر إتقاناً من سابقه "روكي الغلابة" وتاليه "الشاطر". مجازات تكررت بإصرار يستحق الإعجاب، جاءت في لحظة مثالية مكبوتة اجتماعياً وهو ما ساعد على تقبّلها، وصلت إلى أغنية العمل التي غنتها بوسي وهيفاء وهبي بالمط في جملة "يا أحمد" التي يعرف معناها الأعمق كل مصري، وربما غير مصري.
فيلم "أحمد وأحمد" مزحة طويلة، نكتة احتاجت إلى ساعتين لحكيها كاملة، تُحقق رغبة أبطالها أكثر من كونها حلماً سينمائياً كبيراً. لا يعد بأشياء فاتنة، خفيف يمر دون إزعاج أو لفت للانتباه. ولن يبق في رأسك شيء من أحاديث الأبطال أو الموسيقى التي صاحبتهم.
"الشاطر"... كثيرٌ من الغُلب، قليلاً من الشقاوة
ثمة حُكم عام قبل الدخول إلى أي شيء أخر. ربما كان فيلم "الشاطر" الأفضل في رهان هذا الصيف. هذه المرة ليس عن طريق بطليه، أمير كرارة والممثلة هنا الزاهد، لكن عن طريق مصطفى غريب الذي حمل العمل على كتفه وحده وأنقذه من هاوية العدم إلى عمل خفيف الظل يمكن التعاطف مع أحد أبطاله والتعلق بمشاهده كل مرة.
تدور أحداث الفيلم في إطار كوميدي أكشني حول "دوبلير" محترف يتولى تنفيذ المشاهد الخطيرة للنجوم، لكن حياته تنقلب رأساً على عقب حين يتورط مع عصابة يظن أنها خطفت شقيقه الأصغر، عصفور. خلف الكاميرا نجد أحمد الجندي مرة أخرى مخرجاً وكاتباً، إلى جانب كريم يوسف، ليوقعا ثاني أعمالهما هذا الموسم. قد يكون المجهود هنا أكبر، أو ربما لعبت الصدفة الفنية دورها فظهر الفيلم أكثر تماسُكاً من رفيقه، لكنه في النهاية يفسّر الخفة التي اتسم بها موسماهما معاً

كما تدور أحداث الفيلم حول أدهم الشاطر الذي يجسده أمير كرارة، وهو شخصية تخوض تجارب حياتية متقلبة، ويُعرف بقوته الجسدية، واستعداده الدائم للاشتباك، لا سيما عند الانفعال، بطريقة يراها كثيرون جنونية. هذه السمات تقوده إلى العمل في تأمين المشاهد الخطيرة، وتنفيذها داخل الأعمال الفنية.
في حياته الشخصية، يدير الشاطر صالة تدريب رياضية، أسسها مع صديق طفولته مصطفى غريب فتوح، لكنها مهددة بالإفلاس، ومديونة. لا تتحمل التوقف ولو ليومٍ واحد. وفي حين يسعيان لإنقاذ مشروعهما من الانهيار، تنقلب الأمور رأساً على عقب عندما يتعرض شقيقه، عصفور، إلى حادث خلال بث مباشر من تركيا.
لدى كل الأبطال في الأفلام الثلاثة سذاجة مفرطة في عالم قاس؛ جميعهم يحاربون طواحين هواء، يقاتلون أشراراً لا يعلم عنها المشاهد شيئاً فيضطر للتعاطف معهم؛ عالم قاس فيه "أشقياء" يمكن تحملهم بدلاً من الشر الغامض القابع هناك
يبدو ظاهر كل هذه الشخصيات من ملصق العمل الذي يجد فيه الجميع نفسه مربوطاً بحبل طويل بتعبيرات وجه تظهر عدم فهمها لسبب ذلك. بعيداً عن الجميع يقف عصفور (أحمد عصام السيد) مؤثر السوشال ميديا في دور جيد نوعاً ما، يقدم ممثلاً ذكياً ومتنوعاً يبدو أنه استفاد كثيراً من والده المخرج المسرحي عصام السيد.
يمتلك "الشاطر" حبكة تتنقل بين مسارات وأماكن مختلفة، ما يتيح له جذب جمهور متنوع الاهتمامات. البطل أدهم الشاطر (أمير كرارة) لا يتخلى عن هوايته المفضلة: حركات أكشن يوزّع فيها الضربات بأقل جهد ممكن، بينما يقف بجواره شقيقه الأصغر، عصفور، المهووس بمواقع التواصل. ورغم أن الفيلم قدّم نفسه كأكشن صِرف تتخلله لمسات كوميدية، سرعان ما يكتشف المُشاهد في القاعة أن أغلب مَشاهد القتال تُثير الضحك أكثر مما تُثير التوتر. صحيح أن البداية بدت مرتبكة، لكن سرعان ما يستعيد الفيلم إيقاعه في النصف الثاني، بشكل يُلفت النظر في الأداء والإخراج على حد سواء.
ومثلما يحتاج أي عمل خفيف إلى أغنية ترويجية فإن الشاطر اختار بوسي وسعد لمجرد لتقديم أغنية "الشقاوة" التي تحمل إيقاعاً خفيفاً ولطيفاً، وتسمية كان أكثر صلاحية للعمل كله. فيلم "الشاطر" فيلم لدى كل أبطاله بعض الشقاوة الطيبة التي يمكن التعاطف معها.
أخيراً، ربما لدى كل الأبطال في الأفلام الثلاثة سذاجة مفرطة في عالم قاس. جميعهم يحاربون طواحين هواء، يقاتلون أشراراً لا يعلم عنها المشاهد شيئاً، فيضطر للتعاطف معهم؛ عالم قاس فيه "أشقياء" يمكن تحملهم بدلاً من الشر الغامض القابع هناك، بالرغم من أنهم جميعاً ليس لديهم أي رغبة ذاتية في الاختيار الأخلاقي أكثر من المصلحة الشخصية. يمرر ذلك الخطاب بخفّة في درجة حرارة مزعجة وحرب تقتل وسط الصمت، وصمت إجباري يحتاج لشيء يحرّكه بدلاً من الجنون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.