لم تكن الهجرة اللبنانية إلى غرب إفريقيا مجرّد مسار من مسارات الشتات المدفوع بالحاجة الاقتصادية أو الهروب من الاضطرابات، بل تحوّلت على مدى أكثر من قرن إلى ظاهرة مركّبة تتقاطع فيها الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والطائفية، وصولاً إلى الأبعاد الأمنية والاستخباراتية.
وفي سياق يتراوح بين إرث الانتداب الفرنسي الذي مهّد لحضور لبناني مبكر داخل المنظومات الاستعمارية، وتداعيات الحرب الأهلية اللبنانية، والانهيارات المتكررة في البنية المالية للدولة، صاغ اللبنانيون في غرب إفريقيا موقعاً خاصاً تجاوز الوزن الديموغرافي التقليدي للجاليات.
حزب الله ونفوذ عابر للحدود في غرب إفريقيا
شهد نفوذ حزب الله في غرب إفريقيا، خلال السنوات الأخيرة، تراجعاً ملموساً، خصوصاً منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وما أعقبها من اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وأغلب قيادات الصف الأول.
وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "Le Monde" الفرنسية، فإنّ الضربات الإسرائيلية التي استهدفت البنية القيادية للحزب، بجانب تشديد الرقابة الأمريكية وفرض سلسلة من العقوبات على رجال أعمال لبنانيين، قد أضعفت بصورة مباشرة قدرة الحزب على تأمين التمويل من القارة الإفريقية. وبرغم هذا التراجع، لا تزال شبكة النفوذ الاقتصادية غير المباشرة قائمةً، مستندةً إلى استثمارات واسعة يقودها موالون من الجالية الشيعية اللبنانية في دول مثل غينيا وساحل العاج والسنغال، حيث توفّر هشاشة الدولة وتوافر الموارد الطبيعية بيئةً خصبةً لاستمرار عمل تلك الشبكات، ولو في ظلّ تصعيد أمني وتضييق دولي متصاعد.
يُعدّ آذار/ مارس 2023، محطةً حاسمةً في هذا السياق حيث فرضت وزارة الخزانة الأمريكية واحدةً من أوسع العقوبات المرتبطة بأنشطة الحزب في إفريقيا. فقد جرى تصنيف شبكة دولية تضم 52 فرداً موزعين بين لبنان وكوت ديفوار وأنغولا والكونغو الديمقراطية، بتهم غسل الأموال وتسهيل عمليات تمويل غير مشروع عبر النقد والماس والأحجار الكريمة لصالح ناظم سعيد أحمد الذي تصنفه واشنطن كـ"أحد أبرز مموّلي حزب الله". كما طالت العقوبات رجلَي الأعمال اللبنانيين إبراهيم طاهر وعلي سعادة، المقيمَين في غينيا، بتهمة تقديم دعم مالي مباشر للحزب، في مؤشر إضافي على اتساع دائرة الضغط الدولي على البنية المالية التي يعتمد عليها الحزب في أنشطته الإقليمية.
يتجاوز عدد اللبنانيين في غرب إفريقيا 250 ألفاً، وهم موزعون على دول عدة لعبوا فيها أدواراً اقتصاديةً واجتماعيةً بارزةً منذ مطلع القرن العشرين. فما علاقة حزب الله بتكوين هذه الجاليات؟ وكيف لعب "الانحياز الديموغرافي" والأزمات المحلية أدواراً مؤثّرةً فيها؟
يعود حضور حزب الله في غرب إفريقيا إلى أوائل ثمانينيات القرن العشرين، حين شرع في بناء شبكة تمويل غير رسمية، مستنداً إلى الهجرة الشيعية اللبنانية وشبكات التجارة العابرة للحدود. وبحسب دراسة نشرها معهد هدسون، وهو مؤسسة بحثية أمريكية، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، للباحثة تولو أكيرلي، فقد استثمر الحزب في هشاشة الأنظمة الاقتصادية وضعف الرقابة المالية في دول غرب القارة، لتوسيع أنشطته غير المشروعة، بما في ذلك غسل الأموال، وتجارة الأسلحة والمخدرات.
وتُعدّ الجاليات الشيعية اللبنانية في دول غرب إفريقيا ركيزةً أساسيةً في هذه البنية، إذ استثمرت إيران في تعزيز حضورها عبر تقديم منح دراسية، وإنشاء مراكز ثقافية ودينية، مثل المنظمة الإسلامية في نيجيريا، وجمعية الشباب المسلم، وجمعية الغدير في ساحل العاج، والمؤسسة الخيرية للبحوث الإسلامية، والجمعية الإسلامية في الكونغو الديمقراطية، وغيرها.
وهذا ما أتاح لحزب الله تأسيس نفوذ ناعم يُخفي وراءه بنيةً اقتصاديةً أمنيةً متشابكة. وقد تجلّى هذا التوجه بشكل علني خلال القمة الإيرانية الإفريقية المنعقدة في طهران عام 2010، والتي جمعت رؤساء ودبلوماسيين من أكثر من 40 دولةً إفريقيةً، وجاءت ضمن مساعٍ إيرانية لتقديم نفسها كمدافعة عن الأقليات الشيعية المضطهدة في القارة.
سُلِّط الضوء على هذا النفوذ بشكل لافت نهاية عام 2003، حين تحطّمت طائرة تابعة لشركة "يونيون ترانسبورت أفريكانا"، كانت متجهةً من بنين إلى بيروت، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 141 شخصاً، معظمهم من اللبنانيين. تردّد لاحقاً أنّ الطائرة كانت تقلّ نحو مليوني دولار إلى مقرّ الحزب في بيروت، بالتزامن مع تقارير عن وجود مسؤول كبير في حزب الله على متن الرحلة برفقة اثنين من معاونيه. أثارت الحادثة شكوكاً حول مدى توغّل الحزب في شبكات الاغتراب والتمويل الإفريقية.
مسارات الهجرة اللبنانية إلى غرب إفريقيا… قرن من التحوّلات
تكرّست الهجرة اللبنانية إلى إفريقيا عبر ثلاث موجات رئيسية، كما يذكر كتاب "اللبنانيون حول العالم… قرن من التحوّلات" الصادر عام 1989. بدأت الموجة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، بدوافع اقتصادية، فيما ارتبطت الثانية بفترة الانتداب الفرنسي وتوسّع النفوذ اللبناني في الاقتصاد المحلي الإفريقي، وصولاً إلى الموجة الثالثة التي اندفعت بفعل الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته. وقد تزامنت هذه التحرّكات مع إعادة تشكيل المشهد السيادي في دول غرب إفريقيا، ما أتاح للجاليات اللبنانية فرصاً للاندماج في البنى الاقتصادية الناشئة، دون أن يذوب حضورها في النسيج السياسي والاجتماعي الجديد.
منذ أواخر القرن التاسع عشر، اتّخذت الهجرة اللبنانية إلى غرب إفريقيا طابعاً متدرّجاً ارتبط بتحوّلات بنيوية في كلّ من المشرق العربي والمجال الاستعماري الفرنسي. وكما يوضح المؤرخ أندرو أرسان، في كتابه "دخلاء الإمبراطورية"، فإنّ غالبية المهاجرين الأوائل كانوا من المسيحيين الموارنة والروم الكاثوليك المنحدرين من الأرياف اللبنانية، الذين دفعتهم موجات الفقر، والاضطهاد الطائفي، وانهيار الدولة العثمانية، إلى البحث عن بدائل اقتصادية خارجية.
في بداية القرن العشرين، كان عدد اللبنانيين في غرب إفريقيا لا يناهز 1،000 شخص، إلا أن هذا الحضور المحدود سرعان ما بدأ يتوسّع، مدفوعاً بتحسّن شبكات التجارة وازدياد الطلب على الوساطة التجارية في المستعمرات، ليصل عددهم، بحلول منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، إلى نحو 10 آلاف. ومع تصاعد النفوذ الفرنسي، وجدت السلطات الاستعمارية نفسها أمام نمط من الهجرة العربية لم ينسجم مع منظومتها العرقية الصارمة، ما دفعها إلى تصنيف اللبنانيين كـ"دخلاء" في نظام إمبريالي قائم على تمايزات دقيقة تفصل الأوروبيين عن غيرهم.
لم تكن الهجرة اللبنانية إلى إفريقيا فعلاً عابراً، بل تمّت على ثلاث موجات رئيسية، تزامنت مع إعادة تشكيل المشهد السيادي في دول غرب إفريقيا، ما أتاح للجاليات اللبنانية فرصاً للاندماج في البنى الاقتصادية الناشئة، دون أن يذوب حضورها في النسيجين السياسي والاجتماعي الجديدين
مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، دخلت الهجرة اللبنانية إلى غرب إفريقيا طوراً جديداً اتّسم بسمات مغايرة للمراحل السابقة. فقد أفضى الانهيار الأمني في لبنان إلى موجة نزوح جماعي باتجاه إفريقيا، كانت ساحل العاج أبرز وجهاتها، حيث ارتفع عدد اللبنانيين المقيمين فيها إلى نحو 200 ألف، مقارنةً بـ60 ألفاً فقط في عموم غرب إفريقيا قبل اندلاع الحرب، وفقاً لبيانات مجلس الهجرة واللاجئين الكندي (IRB). هذه الموجة اتسمت بانحياز ديموغرافي واضح، إذ تركّزت في أوساط الطائفة الشيعية، ولا سيما من أبناء الجنوب اللبناني الذين شكّلوا ما يقرب من 90% من الوافدين الجدد.
ودخلت الهجرة اللبنانية مرحلةً جديدةً من التصاعد عام 2019، مدفوعةً بانهيار اقتصادي غير مسبوق ضرب البنية الاجتماعية للدولة. فقد شهد النظام المصرفي اللبناني جموداً وظيفياً، مع تعثّر البنوك وتقييد السحب، وتراجع قيمة الليرة بنسبة تجاوزت 80% خلال عام 2020، ما دفع 55% من السكان إلى ما دون خط القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية.
ووسط هذا الانهيار، عبّرت شريحة واسعة من الشباب اللبناني عن رغبتها في مغادرة البلاد، إذ أظهرت بيانات نشرها المعهد البولندي للشؤون الدولية (PISM)، أنّ 77% من الشباب اللبناني يفكّرون في الهجرة. وبرغم غياب إحصاءات رسمية دقيقة توثّق حجم هذه الموجة، تشير تقارير إعلامية متزايدة إلى توجّه ملحوظ نحو غرب إفريقيا، حيث استأنف اللبنانيون الهجرة إلى وجهات تقليدية مثل ساحل العاج، وغانا، بالإضافة إلى نيجيريا خلال السنوات الأخيرة.
حضور يتجاوز الأرقام ويصنع النفوذ
يتجاوز عدد اللبنانيين في غرب إفريقيا راهناً 250 ألفاً، وهم موزعون على دول عدة لعبوا فيها أدواراً اقتصاديةً واجتماعيةً بارزةً منذ مطلع القرن العشرين. ففي ساحل العاج، تستقرّ أكبر جالية لبنانية في القارة، حيث يُقدَّر عدد أفرادها بين 80 إلى 100 ألف شخص، عند احتساب الأجيال المتعاقبة. وفي نيجيريا، يُقدَّر عدد اللبنانيين بنحو 30 ألفاً، وقد اندمجوا في النسيج المجتمعي منذ أكثر من قرن، وأسهموا في نمو الاقتصاد المحلي من خلال شبكات التجارة والصناعة. وفي السنغال، يُقدَّر عدد اللبنانيين بـ25 ألفاً، ينشطون في قطاعات صناعية وتجارية متنوعة.
أما في ليبيريا، فقد بلغت ذروة أعدادهم 15 ألف لبنانياً قبل أن يتراجع إلى أقل من ألف بسبب الحربين الأهليتين والاضطرابات التي شهدتها البلاد. ومع ذلك، بلغ أحد أبناء الجالية، موني رالف كابتن، منصب وزير الخارجية في عام 1996. وفي سيراليون، اجتذبت مناجم الماس آلاف اللبنانيين منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، ولاحقاً بات أبرزهم تاجر يُدعى جميل سعيد. أما في غانا، فيُقيم ما بين 3 إلى 4 آلاف لبناني، نجحوا برغم عددهم المحدود في بناء علاقات اقتصادية واجتماعية متينة مع المجتمع المحلي.
يعكس هذا الانتشار الواسع حجم النفوذ الذي استطاعت الجاليات اللبنانية ترسيخه عبر العقود، ليس فقط من خلال الانتشار الديموغرافي، بل كذلك عبر الصعود الاقتصادي لعائلات لبنانية برزت كلاعب أساسي في الاقتصاد الإفريقي. فقد أشار تقرير نشره موقع "The Africa Report" عام 2020، إلى أنّ عدداً من هذه العائلات بلغ قمّة الهرم المالي في القارة السمراء.
تصدّرت مجموعة "Yeshi" التابعة لعائلة بيضون في ساحل العاج، المشهد بإيرادات بلغت 47 مليار فرنك إفريقي (نحو 71.7 ملايين يورو) عام 2017. أما في نيجيريا، فبرزت عائلة شاغوري، بثروة مليارية واستثمارات متنوعة تشمل العقارات والبناء والتأمين، إلى جانب إشرافها على تنفيذ مشروع ضخم بقيمة 11 مليار دولار. كما تُعدّ مجموعة "IHS" التابعة لعائلة درويش، من كبار مزوّدي أبراج الاتصالات في نيجيريا فضلاً عن وجودها في كوت ديفوار.
التجارة والهيمنة من كوناكري إلى أبيدجان
يوثّق كامل مروة، المراحل الأولى للهجرة اللبنانية إلى غرب إفريقيا، في كتاب بعنوان "نحن في إفريقيا" صادر عام 1938، مبرزاً التحوّل السريع الذي شهده المهاجرون الأوائل من تجارة السلع البسيطة مثل القماش والخرز، إلى الانخراط الفاعل في تجارة المطاط، حيث تفوّقوا على الشركات الأوروبية بشرائهم المباشر من المنتجين المحليين بأسعار أعلى. هذا التحوّل أثار حفيظة التجار الأوروبيين الذين سعوا إلى إقصاء اللبنانيين من السوق، لكن محاولاتهم باءت بالفشل بفعل التزام الإدارة الاستعمارية بمبدأ الحرية التجارية، وهو ما أكده رشيد بيضون في مؤلفاته.
بحلول أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تشير التقارير إلى أنّ اللبنانيين كانوا قد رسّخوا حضورهم في غينيا، حيث امتلكوا غالبية المتاجر في كوناكري وربع مباني المدينة، كما توسّع نشاطهم إلى الزراعة التجارية، فضلاً عن نسبة لا بأس بها من بساتين الموز، ما شكّل علامةً فارقةً على صعودهم الاقتصادي في بنية استعمارية حاولت احتواءهم لكنها لم تنجح في تقييد نفوذهم.
تكشف تجربة اللبنانيين في غرب إفريقيا عن قدرة المجتمعات المهاجرة على التكيّف مع السياقات المتغيرة، وتشكيل مواقع نفوذ جديدة خارج أوطانها الأصلية. فعبر قرن من الزمن، تحوّلت هذه الجالية من أطراف مهمّشة إلى فاعل اقتصادي رئيسي. لكن العديد من المتغيّرات الجيوسياسية والأمنية في لبنان ودول المهجر كذلك ساهمت في وصولها إلى ذلك، فما هي؟
على امتداد العقود، ترسّخ النفوذ الاقتصادي للجالية اللبنانية في كوت ديفوار بصورة استثنائية، حتى باتوا يشكّلون أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، مع تركيزهم على العمل والاستثمار في القطاعات الحيوية في البلاد مثل قطاع الطاقة، وقطاع النقل الحضري، وشركات الجمع والتصدير، ما يجعلهم فاعلاً اقتصادياً مركزياً في بنية الاقتصاد الإيفواري، وركناً لا غنى عنه في معادلاته الإنتاجية والتجارية.
دفع هذا التغلغل السلطات الإيفوارية إلى الإشادة العلنية بدور الجالية اللبنانية في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، وهو ما عبّر عنه الرئيس الإيفواري الحسن واتارا، في تصريح عام 2013، حين وصف هذه الجالية بـ"العريقة والمهمة لأرض إيبورني (ساحل العاج) ولا سيما على الصعيد الاقتصادي".
ختاماً، تكشف تجربة اللبنانيين في غرب إفريقيا عن قدرة المجتمعات المهاجرة على التكيّف مع السياقات المتغيرة، وتشكيل مواقع نفوذ جديدة خارج أوطانها الأصلية. فعبر قرن من الزمن، تحوّلت هذه الجالية من أطراف مهمّشة إلى فاعل اقتصادي رئيسي، ساهم في تشكيل ملامح اقتصادات ومجتمعات إفريقية عدّة.
ومع ذلك، فإنّ صعود هذا النفوذ لا ينفصل عن التوترات الجيوسياسية، ولا عن التحوّلات التي تعصف بلبنان والمنطقة عموماً. وبين الحاجة إلى إعادة التموضع، وضغوط الانخراط في صراعات تتجاوز حدودها، تقف الجالية اللبنانية في إفريقيا عند مفترق طرق: فإما أن ترسّخ وجودها كقوة مدنية مندمجة، أو تُستنزف داخل حسابات لا تعبّر عن مصالحها الحقيقية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.