بعد نزوح طال عاماً ونصف العام إلى الجنوب الغزّيّ، وبعد أيّام من سريان اتفاق وقف إطلاق النّار، عادت جملات وادي، إلى شمال القطاع. عادت برفقة عائلتها إلى منزلها في منطقة المغراقة غرب محور "نيتساريم"، بعد أن خرج منه الجنديّ الإسرائيليّ الأخير، يغمرها الشّوق واللهفة.
لم تكتمل مشاعر الفرحة بالوصول إلى الديار، بعد أن تحوّلت العودة إلى صدمة كبيرة. وصلت جملات، لتصطدم بخراب على مدّ نظرها. فقد حوّل الجيش الإسرائيليّ المنطقة الخضراء المحيطة التي كانت تملؤها أشجار الزيتون والأشجار المُثمرة، إلى أرض قاحلة، انعدمت فيها ملامح الحياة. فقرّرتْ أن تعود "عودةً عكسيّةً"، من حيث جاءت، إلى الجنوب.
أين أسكن؟ لا بيت ولا ماء ولا بنية تحتية ولا بشر في المكان. الدمار موجود في كل خطوة. لا نسمع سوى صوت نباح الكلاب التي تأتي في الليل لتنهش أجساد النّاس
لم يمرّ سوى شهرين فقط على عودة جملات إلى الشّمال، وربّما على عودة آلاف الفلسطينيين واستقرارهم في الشمال المنكوب، حتّى عادت الحرب. أعلن الجيش الإسرائيلي سيطرته، مرةً أخرى، على محور "نتساريم"، الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه، آمراً السّكان في مناطق مختلفة بالنّزوح، وداعياً إلى ما أسماها وزير الأمن يسرائيل كاتس، "الهجرة طوعاً".
فماذا خبّأت الصورة التي خرجت من غزّة، للنهر البشريّ العائد مشياً على الأقدام من الجنوب إلى الشمال بعد سريان الهدنة؟ هل عاد النّاس فعلاً أو صُدموا بمكانهم الطارد للحياة فعادوا أدراجهم؟ وماذا يخبّئ خبر السيطرة والتهجير الجديد لسكّان الشمال؟
مشهد عامّ من شمال قطاع غزّة
"عودة عكسيّة"
"شعرتُ بصدمة وذهول كبيرين عندما شاهدت المغراقة. كانت عبارةً عن مدينة أشباح. بحثت عن منزلي ولم أجده. كلّ المنازل أصبحت أكواماً من الحطام، مكوّمةً فوق بعضها البعض. لم نميّز موقع منزلنا. تأمّلت أن أجده سليماً أو قابلاً للإصلاح، على الأقلّ"، تقول جملات (45 عاماً)، لرصيف22، عن عودتها من مخيّمات النازحين في دير البلح وسط قطاع غزّة، وهي أمّ لسبع بنات وولدين، فقدت أحدهما خلال الحرب.
وتكمل حديثها عن قسوة الأوضاع المعيشيّة والإنسانيّة، متسائلةً: "أين أسكن؟ لا بيت ولا ماء ولا بنية تحتية ولا بشر في المكان. الدمار موجود في كل خطوة. لا نسمع سوى صوت نباح الكلاب التي تأتي في الليل لتنهش أجساد النّاس بعد أن استُهدفوا في منطقة نتساريم وتُركوا لمصيرهم".
تختم جمالات حديثها، بعد انتهائها من غسل بعض الملابس أمام خيمتها: "من العدم، قررنا الرجوع إلى الخيمة مرّةً أخرى، برغم أنها تفتقر، هي الأخرى، إلى مقوّمات الحياة الإنسانيّة. لكنّ المخيّم يقع في منطقة حيويّة قريبة من مراكز التسوّق ومن المشفى الذي أحتاجه لمتابعة مرض السّكريّ. وبإمكاننا أن نجد الماء والاحتياجات الأساسيّة الأخرى".
إثر وقف إطلاق النّار، وقبل أن تعود من جديد، عاد إلى شمال غزّة نحو نصف مليون نازح، وفق تقديرات الأمم المتحدة، ليجدوا أنفسهم أمام معاناة مضاعفة نغّصت عليهم فرحة العودة إلى الديار، في ظلّ افتقار المنطقة إلى سبل الحياة والخدمات الصحية والمعيشية، وتراكم النفايات وغرق الشوارع بمياه الصرف الصحي، ما دفع كثيرين منهم إلى النزوح مرةً أخرى جنوباً، طواعيةً هذه المرّة.
نازحة بعد عودتها إلى شمال القطاع
استحالة الحياة في الشمال
يبدو الوضع الإنساني في مخيم جباليا، الأكثر صعوبةً بين مناطق الشّمال. فالعائد رشدي بشير (55 عاماً)، وبعد أن وصل مع عائلته المكوّنة من 9 أفراد، إلى مخيّم جباليا، رفض البقاء فيه، حيث لم يجد سوى كومة من ركام.
نصب رشدي، في الأيّام الثلاثة الأولى من عودته، خيمته التي سكن فيها في أثناء نزوحه إلى دير البلح. لكنّه سرعان ما وجد أنّ الحياة مستحيلة، حيث يضطرّ إلى قطع مسافات طويلة لتعبئة "غالون" مياه واحد، في حال وجد الماء. كما أنّ المخيم يفتقد أماكن شراء المواد التموينيّة، والاتصالات ونقاط شحن الطاقة البديلة للإنارة، "فاضطررت إلى النزوح مجدّداً، بدل البقاء في العدم"، يقول لرصيف22.
غرقنا في الخيمة أكثر من مرّة بسبب غزارة المطر. وفي الصّيف، احترقنا بأشعّة الشّمس الساطعة. أشتهي الاستلقاء فوق أرض البيت، وليس فوق الرّمال في مخيّمات النزوح في مواصي خان يونس
ويضيف: "أعاني من مرض في القلب، وأحتاج إلى العلاج والمتابعة بشكل مستمرّ في العيادات، التي دُمّرت في المخيّم. كذلك، لديّ أربعة أحفاد. ما ذنبهم ليعيشوا في هذه الأوضاع المعيشيّة الصعبة، حيث لا غذاء ولا حليب ولا ماء؟".
"بالطبع لا أحد يفضّل ترك حارته ومنزله اللذين عاش فيهما منذ طفولته. بكيت وأنا في طريق عودتي إلى الشمال من شدّة الفرحة. كان الأمر أشبه بحلم. لكن كاد قلبي أن يتوقّف عندما وجدت هذ الكمّ الكبير من الدمار. حاولتُ البقاء عبر البحث عن بيت للإيجار، لكنّ الأسعار فكليّة. فمتوسّط الإيجار يتراوح ما بين 700 وألف دولار، للمنازل المتبقيّة".
فوزي حامد يحاول إصلاح ما تبقّى من منزله في الشّمال
فاتورة البقاء
وعلى الرّغم من وجود قصص كثيرة لغزّيين عادوا ثمّ نزحوا مجدّداً من الشمال إلى الجنوب، إلّا أنّ ثمّة عائلات فضّلت البقاء فوق ركام منازلها، وبين الجدران المتصدّعة والثقوب. استصلحوا ما استطاعوا من منازلهم الآيلة إلى السقوط، والتي كلّفتهم حيواتهم في بعض الأحيان.
بينما كان فوزي حامد، مشغولاً بإغلاق الفتحات في منزله المدمّر جزئياً، أخذ يشرح عن حالته: "عدنا من الجنوب إلى الشمال فوجدنا الحال من سيّئ إلى أسوأ. لكن ما يدفعنا إلى الصّمود أنّنا الآن في منزلنا. وهذا أفضل من الخيمة".
مع استئناف الحرب، أصبح الخوف يسيطر على حياتنا. كلّ ليلة، أضع رأسي على وسادتي وأتساءل: هل سنضطرّ إلى الرحيل من جديد؟ وإذا اضطررنا، إلى أين سنذهب هذه المرّة؟
ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "كنّا نفتقد الخصوصيّة ونتشارك حمّاماً واحداً مع الجيران. غرقنا في الخيمة أكثر من مرّة بسبب غزارة المطر. وفي الصّيف، احترقنا بأشعّة الشّمس الساطعة. أشتهي الاستلقاء فوق أرض البيت، وليس فوق الرّمال في مخيّمات النزوح في مواصي خان يونس".
"تعرّضت جدران المنزل لعملية تدمير، بسبب إلقاء الجيش الإسرائيليّ ما يسمّى بالروبوت المتفجّر أسفل المنزل. لقد تعمّد تخريب المنزل حتّى لا يعود صالحاً للسكن، بدلاً من تفجيره كاملاً. ليست أمامنا خيارات أخرى سوى استصلاح ما تبقّى والعيش فيه برغم خطورة الأمر".
يشير فوزي، خلال حديثه، بسبابته إلى أحد زوايا المنزل قائلاً: "هنا سقط حائط على ابني عدي (9 أعوام). الحمد لله أنّنا لم نفقده، لكنّه تعرض لكسور بالغة. على إثر ذلك، قمت بإزالة كل الركام والحجارة من المنزل بنفسي. لن أنتظر موضوع الإعمار الذي يبدو شائكاً ومُعقّداً".
ويوضح أنّ وجوده مع عائلته بين أطنان الرّكام في الشوارع وحول منزله، يُشعره بقلق دائم على حياة أطفاله والأطفال المحيطين، كونهم يلعبون ويركضون باستمرار ولا ينتبهون إلى الخطر، على حدّ تعبيره. ويطالب المسؤولين بإزالة الرّكام من الشّوارع والمنازل الآيلة إلى السقوط، حفاظاً على أرواح الغزّيين.
دمّرت حرب الإبادة على غزّة 92% من المنازل؛ أي نحو 436 ألف منزل، دماراً جزئيّاً أو كليّاً، فيما نزح 90% من المواطنين من بيوتهم، وفق بيان صادر عن مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة "أوتشا".
ويختم فوزي حديثه قائلاً: "برغم هذا الدّمار، إلّا أنّنا شعرنا في أثناء الهدنة بنوع من الأمان. ننام ونستيقظ دون أن نفكّر في أنّها ستكون لحظتنا الأخيرة. لكن مع استئناف الحرب، أصبح الخوف يسيطر على حياتنا. كلّ ليلة، أضع رأسي على وسادتي وأتساءل: هل سنضطرّ إلى الرحيل من جديد؟ وإذا اضطررنا، إلى أين سنذهب هذه المرّة؟".
لا تزال حقائب فوزي التي عادت معه من النزوح جاهزةً. لم يفرغها من أحمالها، لأنّه لم يسترِح من تعب النّزوح، ولا يزال مشغولاً في إصلاح منزله. "كذلك، لم نفرغ الحقائب كي نبقى متأهّبين لنزوح جديد"، يقول.
جملات وادي، بعد أن عادت إلى خيمتها في دير البلح إثر تفقّد منزلها المدّمر في الشّمال
ماذا بعد؟
أمام هذا الواقع القاسي، لا يجد النّازحون بدّاً من مواجهته. فالعودة إلى الشّمال تعني مواجهة العدم، وفتح الباب أمام العودة العكسيّة الطوعيّة. وهذا يعني مواجهة واقع، أفضل بالمقاربة، لكنّه لا يرقى للشروط الإنسانيّة الطبيعيّة.
يقول الباحث السياسيّ عزيز المصري، لرصيف22: "منذ بداية الأسبوع الثاني من حرب الإبادة، كان من الواضح أن إسرائيل تسعى إلى إفراغ قطاع غزّة من سكّانه. وقد نجحت في تهجير آلاف السّكان إلى جنوب وادي غزّة، ثمّ استهداف البنى التحتيّة والمنظومة الصّحيّة والدفاع المدني والمياه والبلديّات، وهي تسعى اليوم إلى تهجير كامل لسكان الشمال".
يؤكد على أنّ الهدف الأساسيّ هو جعل شمال غزّة بيئةً طاردةً للحياة بشكل كامل. فكمية الرّكام والردم هناك، تحتاج إلى سنوات عدة لإزالتها، في حال عاد وقف إطلاق النّار، بالإضافة إلى أنّ عملية الإزالة تحتاج إلى إفراغ الشمال من سكانه لإتاحة المجال للعاملين للعمل بحرّية ودون عراقيل وأضرار صحّية قد تسبب خطورة على السكان بفعل الغبار والمواد الملوّثة. وهذه الفرضية التي انطلق منها ترامب في خطته لتهجير سكان غزّة.
ويضيف المصري: "إنّ عودة الكثير من النازحين من شمال القطاع إلى جنوبه، بعد عودتهم من الجنوب إلى الشمال، له مؤشرات قد تدلّل على تزايد التفكير في الهجرة خارج غزّة، في ظلّ عدم توافر أدنى مقوّمات الحياة الآدمية".
ويشير إلى أنّه في الشهر الأوّل من حرب الإبادة على غزّة، ظهرت وثيقة من الاستخبارات الإسرائيليّة تدعو إلى تقليل عدد سكان القطاع إلى النصف. ومن ثمّ قامت إسرائيل بنزع الحياة عن القطاع. وعليه، فإنّ أحد أسباب الحرب المعلنة وغير المعلنة، تهيئة البيئة لجعل المواطن الغزّيّ يفكر في الهجرة بحثاً عن مسكن وعلاج وحياة كريمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...
جعفر أحمد الكردي -
منذ يومينجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ يومينعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 5 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ أسبوعأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ أسبوعمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...